نصوص أدبية

الشجرة والتمثال

صالح البياتي

كان تمثالا ضخما من البرونز، كنت امر عليه، عند ذهابي لعملي صباحا، وعودتي عصرا الى البيت، تزامن نصبه في هذا المكان، مع اول قذيفة اُطلقت على العدو الإيراني، في الحرب الدائرة رحاها منذ سنوات*، لم تَرعين بغداد مثله من قبل، ينتصب كعملاق على قاعدة رخامية بيضاء، معرقة بخيوط حمراء متشابكة، كأنها شعيرات دموية دقيقة، تنزف ببطء، يحيط بقاعدته سياج معدني ناص، بداخله شتلات ازهار ربيعية، ذبلت منذ قدوم فصل الصيف، وشجرة وحيدة، ارتفعت حتى وصل فرعها الكبير، الى كتف التمثال، فحجب رتبته العسكرية الرفيعة، والتف حول ظهره، كانت يد الرئيس - التمثال مرفوعة بالتحية، كما هي عادة في المناسبات، التي يظهر فيها، في الحياة اليومية الحقيقية.

اختلست النظر اليه هذا الصباح، من نافذة الباص، تخيلته يستعرض جنودا لا نراهم، يمرون من تحت قدميه، يذهبون لجبهات القتال.

ارتفع بارومتر تخيلي تلك اللحظة، فرأيت نظراته الحادة، تستشرف افقا ابعد من مأساة الحرب، كأنما خُيل الي ان ارى كآبة غشت وجهه، وهماً بات ينغص حياته، وحذرا ظاهرا يقلقه، فسرته مع نفسي، ربما هو الخوف من المستقبل، من اقتراب شرارة الحرب من قصره، فتحيله رمادا، تذروه الرياح.

رحت طوال وقت رحلتي للعمل، أفكر بقصر الرئيس المتواري عن الأنظار، خلف أسوار عالية، وغابة أشجار كثيفة، يموج بالحرس المدجج بالسلاح، ليلا ونهارا، تفوح منه رائحة الخوف والموت، فتخيلته في غموضه، وانكفائه، أشبه بقلعة معلقة على رأس جبل، لن تجرأ حتى الطيور الجوارح، التحليق فوقه، ولا النوارس التي تزعق فوق مياه النهر القريب، الاقتراب من حدائقة.

يجري النهر غير عابئ بالقصر، متهاديا بين الضفتين، مستمتعا بكركرات الامواج، لا يجبره شئ، ان يغير طبيعته، المفعمة بالقوة والحيوية، على الاستمرار في الجريان حتى البحر.

حزينا يبتعد النهر، يودع المدينة الكبيرة، بين يدي مصيرها المجهول، ميمما وجهه نحو الجنوب الغارق بالبؤس، اما القصر، فصخرة لا تتزحزح، جاثمة على صدر البلاد.

يدخل التمثال الكائن على مبعدة عدة كيلو مترات، ضمن أذرع القصر الأخطبوطية، القادرة على ان تصل لأي مكان، بسهولة وقدرة فائقة، وفِي اي وقت تشاء، وبإمكانها ان تطال ذبابة متطفلة تستريح على انفه ليلا.

القصرُ عبارة عن مجموعة من المباني المتراصة، تحاصر بعضها البعض، يتجلى في طراز بناءه، عبقرية تخطيط مدن الشرق القديمة، المطوقة بالأسوار والأبراج، المندثرة في الحروب، تحت سنابك خيول الغزاة.

بُني القصر كما قيل، تحت هاجس غزو مباغت، من عدو متعطش للدماء، ينتظر فرصة الانقضاض، يأتي كريح مسمومة، لا تخلف سوى الخراب.

لكن الواقع عكس ذلك تماما.

هذا الوصف الذي تقدم ، انما استوحيته من مخيلتي، بتأثيرالقصص الخيالية التي قرأتها في طفولتي (قلعة فرانكنشتاين نموذجا)، اوالتي نُسجت عنه من افواه الناس العاديين، او من تجربتي، عندما مررت من أمامه، لأول مرة في حياتي، كانت صدفة وبالخطأ، وتعرضت للاستجواب لنصف يوم، واتضح بعد ذلك أني كنت احلم، فاختلط الواقع بالخيال، والحقيقة بالأسطورة.

ازداد الامر تعقيدا، فالبعض يتحدث عن القصر الرئاسي، ولكن يقصد آخر، وعندما كثرت مسميات هذه القصور، والأماكن السرية، اختلط الامر على الشعب، فأضحت كلمة القصر تشمل جميع هذه الأماكن، التي يعجز الجن الأزرق عن الاهتداء اليها، وتفرد منها واحدا، قالوا عنه، ان الذين زاروه قسرا، اختفوا بلمح البصر، تبخروا، كأن لم يوجدوا من قبل.

على كل حال، كدت ان استرسل على غرارهم، بالحديث عن القصرالام، الذي فرخ (اثناء حكم الرئيس المقام له التمثال) قصورا بعدد محن الشعب، وربما لو استرسلت لخطر على بالي قصر كافكا والمحاكمة، فاصدع رأس القارئ، الذي يحب كطائر بحري يهوي للماء، يلتقط سمكة، ويحلق عاليا، سعيدا بصيده، اذن سأكبح جماح انزياحي، الجمه بقوة…

ولتبرير هذا التداعي، أقول ان القصر والرئيس هما شئ واحد، لأنك عندما تفكر في احدهما تستحضر الآخر بقوة، ولنترك القصر غارقا في متاهات أسراره، ولكن لا نننسى الرئيس، حامي البلاد، فهو في لحظة من ادق لحظات الحياة، عندما رأى نور الحياة، ضوء الدنيا اول مرة ، صرخ:

(انا القائد الملهم، المكلف من السماء بحماية الأمة من عدوها!)

كانت الكشافات الضوئية تغمر التمثال ليلا، فتلتمع عيناه ببريق ناري، اما النجوم التي تزين بزته، فقد ابيضت، اتسخت بالبراز الذي تخلفه الطيور، التي تستريح على كتفيه العريضتين، كنت في تلك الأمسية الصيفية، أقف على رصيف الشارع، انتظر سيارة اجرة تأخذني للبيت، أشاهد التمثال من بعيد، توقف رجل امامي، تبعثرت بضع كلمات من فمه، بالكاد التقطتها، فهمتها بصعوبة، وَيَا للغرابة انه يسألني، لماذا انا واقف في هذا المكان، فأخبرته، لم يصدقني، عندما اقترب مني اكثر، شممت رائحة الخمر تفوح من فيه، فسألني:

- انت تتساءل وأشار للتمثال وأكمل.. تتساءل هل هو يعرف كل شئ كما يقولون؟ ابتسمت لأدفع تهمة، يوشك ان يلصقها بي امام نَفَر من الناس المنتظرين مثلي. أجبت بعفوية.

- وما ادراك أني اريد ذلك! اجاب ضاحكا، كاشفا عن أسنان فحمها التدخين.

- انتظر وسترى. كدت تلك اللحظة اطلق ساقي للريح، ولكني خفت ان يكون فخا نُصب لي، فسألته:

- كيف؟

قال وهو يجمع أصابع كفه الأيمن، يهزها بوجهي.

- انتظر وسترى.. ازداد خوفي، شعرت انه يهددني بشئ لم اتوقعه. ولكن فاجئني بشئ لا يقدر عليه رجل يتعتعه السكر، ركض بسرعة عدّاء، قطع المسافة بين الرصيف والتمثال بسرعة جنونية، وبخفة قرد تسلق قاعدة التمثال الرخامية، تشبث بعدها بساق التمثال الضخمة، رفع جسده النحيل متشبثا بِجِذْع التمثال، كما يفعل من يصعد نخلة عالية، فوصل لليد المرفوعة بالتحية، تعلق بها، تأرجح، رفع جسده الى الأعلى،حتى لامست بطنه مرفق الذراع، وبحركة سريعة، ارتقاها كما يرتقي الفارس ظهر الحصان، وأرجح ساقيه على الجانبين، ثم انتصب واقفاً، كمهرج في سيرك روسي، وأخذ يحدق بعيني التمثال، صرخ بأعلى صوت، سمعه الجميع، أيها الناس، أترون كما ارى، عيناه جامدتان، كعيني كلب ميت،. هو لا يعرف شئيا كما يدعون، ولو تمكنت من اعتلاء رأسه لبلت عليه…

في تلك اللحظة، توقفت سيارة اجرة كنت قد اشرت اليها، طلبت من السائق إيصالي للبيت، وقبلَ ان اصعد واجلس بجانبه، سمعت صوت اطلاق رصاص غاب عني المشهد الاخير، سألني السائق:

- اسمعت صوت إطلاق عيارات نارية؟ خفت، فأنكرت أني سمعتها، رغم ان الجميع قد سمعوها وهربوا. قلت لم أكن منتبها، كنت أتكلم معك. قال مؤكدا قوله:

- كانت ثلاث طلقات، سقط الرجل بعدها كحجر الى الارض، انا رأيته، كانت بندقية كلاشينكوف، اعرف صوت كل إطلاقة، انا جندي، وفِي إجازتي سائق تكسي، أرأيت كم انا متأكد.

صمتُ، لم اقل شيئا.. سألني:

- هل كنت يوما عسكريا في حياتك، او خدمت بالقوات المسلحة؟

- لم اخدم، أعفيت من الخدمة لأسباب مرضية… أسرع السائق بالجواب:

- أحسدك، انت محظوظ جداً، سأتوقف عند مركز الشرطة، لأبلغ عن الحادث، اقدم تقريري قبل… صمتُ، قلت في نفسي، يحسدني على مرضي، أعطيه الحق.

وصلنا لمركز الشرطة، تركني في السيارة.. ترجل، لم يقل اسمح لي، او حتى انتظرني، وكأني لم أكن موجود أصلا، وتحدثنا معا قبل قليل.

غاب بعض الوقت، ثم عاد، طلب مني ان أدلي بشهادتي امام الضابط، لم ينفع احتجاجي، بأن ليس عندي ما أقوله، تسمر في مكانه بجانب السيارة، فخرجت، دخلت المركز، سألت عن مكتب الضابط، أرشدوني اليه، وقفت امام الضابط، سألني:

- كنتما معا، بماذا تحدثتما قبل..

- مع من تقصد؟

- مع الرجل الذي تحدثت معه قبل ان

- قبل ان ينتحر..

- ماذا كان يقول لك؟

- طلب مني سيجارة، فاعتذرت، قلت أني لا ادخن.

نادى الضابط على شرطي يقف عند الباب، (طبعا كان الاثنان بالملابس المدنية) أمره ان يفتشني ليتأكد أني لا اكذب، فتشني الشرطي، ولَم يجد عندي علبة سجائر.

- حادث انتحار إذن!

- نعم، هذا ما رأيته مساء الْيَوْمَ، الرجل كان مخموراً، وصرخ بأعلى صوته، انه سينتحر، سمعته انا، وسمعه جميع من كان واقفا، ينتظر مثلي سيارة اجرة.

- لماذا التمثال!

- اختاره لعلوه، ولتوثيق انتحاره بطريقة لافتة للنظر.

انهيت إفادتي، وخرجت للشارع، لم اجد السيارة، اختفى السائق، كما يختفي الحلم لحظة اليقظه.

في البيت، رويت لزوجتي الحادثة، ربطت أجزاءها بخيوط واهية، تجاوزت ما انتابني من قلق وخوف اثناءعودتي للبيت، وفِي نفس تلك الليلة، حلمت بالتمثال، رأيته في هدأة الليل، غارقا في السكون والظلام، يتذمر من الضجيج والصخب، ومن الإضاءة الشديدة، كان يتذمر ويتذمر، يشتم بأقذع الألفاظ، يهدد، يصرخ ويتوعد..

نهرته الشجرة الملتفة حول ظهره.. كفى ازعاجاً،. دعني انام، أقلقت راحة ضيوفي الطيور والعصافير، صرخ، انت شجرة وقحة، كيف تجرأين ان تخاطبيني هكذا، ردت عليه، كيف تريدني ان أخاطبك، أقول لك سيدي!، صرخ بإنفعال، أخرسي من انت!.. شجرة حقيرة، سترين.. سأصدر أمرا بإقتلاعك، لا ادري كيف صبرت عليك كل هذه المدة، انت تخنقينني، وطيورك الحقيرة توسخ بزتي العسكرية، ردت عليه ساخرة وبهدوء، انا الحياة، وانت جماد، حجر اصم، وبفضل قذارة طيوري، تنعم كل يوم، برشاش ماء بارد، يلطف جسدك من لهيب الشمس التي تشويك بنارها، الا تشعر ببرودته تصل الى قلبك الميت! صرخ غاضباً، عليك اللعنة وعلى آباء واجداد من غرسك، لو عرفته، لعلقته على فرعك الذي يلتف حول رقبتي…ردت الشجرة بصوت خافت، بدأ يخربط.. ابوه واحد، ويكذب أيضا،لا تصدقوه، لم أصل بعد لرقبته، ولكن قريبا سأخنقه.

في حلم تلك الليلة، رأيت ثلاثة مشاهد.. كأني أراها على خشبة مسرح.

المشهد الاول:

رأيت الشجرة تفتح أذرعها عند الغروب، تحتضن الطيورالتي تأوي اليها، كانت سعيدة بهم، برفيف أجنحتهم، مستأنسة بضجيج اصواتهم حتى تنقطع، ويعم الهدوء والسكون، وعند بزوغ فجر جديد، تدب الحياة في الشجرة، فترتفع سيمفونية الأصوات، عندما تضئ الشمس آلاف الأوراق الندية، التي ترتعش تحت اقدام العصافير، مهرجان من الألوان والاصوات والرقصات، احتفاءً بميلاد يوم جديد، يجعل التمثال يستشيط غيضاً.

المشهد الثاني، مجموعة رجال، يؤدون دبكة الچوبي، تحت التمثال، كان المخمور يرقص بينهم على وقع الطبل وصوت المزمار، دب الحماس في الراقصين، ثم توقفوا فجأة، رأيته يُذبح كالخروف وتُلطخ القاعدة الرخامية بدمه النازف بغزارة، ولشدة دهشتي، لم استطع ان أميز بين المخمور الذي قُتِل بالرصاص، والراقص الذي ذبح كالنعاج، والسائق الذي اقلني لمركز الشرطة وهرب، كان الرجال الثلاثة هم شخص واحد.

المشهد الثالث:

زمرة من الرجال، تحمل بصمت، على الاكتاف، جثمانا بلا نعش، ساروا به نحو التمثال، وخلفهم حشد غاضب، يحملون معاول، وفؤوس، إسجوا الجثمان تحت قاعدة التمثال، وتحلقوا حوله، اخذوا يتلون أدعية، لكن الميت، ما لبث ان نهض، حلق عاليا، ارتفع حتى حاذى رأس التمثال، وحط على احد فروع الشجرة، جثم كطائر، وجد اخيراً بعد رحلة طيران طويل مكانا يحط عليه، أخذ يتطلع للناس الذين تسلقوا التمثال وغطوه كالنمل، راقبهم يهوون بمعاولهم وفؤوسهم بقوة، على رأس التمثال، دون ان تمس ورقة من الشجرة بسوء…

حينما افقت، واسترجعت الحلم، تساءلت من كان ذاك الرجل، رجل الحلم الذي جثم كطائر يستريح على الشجرة، كان وجهه يشبه وجوه كثيرة، لأشخاص رأيتهم صدفة، في أماكن عامة، في زحمة الشوارع، كنت أفكر به، حينما دخلت الشمس غرفتي، وغسلت بدفء أشعتها، ما تبقى من آثار الحلم، نهضت من فراشي، مبلبل الفكر، تساءلت أيهما الحلم وأيهما الواقع، اعتذرت عبر الهاتف، عن عدم حضوري الْيَوْمَ للعمل ، وقلت في نفسي، لابأس باجازة مرضية، استريح فيها يوما واحدا، خير من ان أراه .. على الأقل حتى يوم غد.

 

قصة قصيرة

صالح البياتي

............................

ملاحظة في محلها:

كتبت هذه القصة في الثمانينات، ولَم تنشر، حتى عام ٢٠٠٨، وهي واحدة من قصص المجموعة (ارشيف مدينة تحتضر) التي صدرت عام ٢٠٠٨، عن دار الحضارة العربية بالقاهرة، اجريت بعض التعديل في العبارات، على صيغة النص الأصلي، ولكن موضوع القصة لم يتغير .

• الحرب العراقية الإيرانية بين عام ١٩٨٠ وعام ١٩٨٨

 

 

 

في نصوص اليوم