نصوص أدبية

ويلات ذاكرة منسية

محسن الاكرمينالمشهد الأول:

فصل الأول: نفض ذاكرة منسية ...

أمسك بيدها ضما وترك المكان وانسحب بصمت. في تلك المنعرجات غير السوية كان يجر رجله مشيا إلى الأمام، لكن تفكيره كان يسكن خطا في الزمن الماضي غير الأبعد من توافد حضور الحاضر. لم تسلم خطوات تقدمه من رجة التعثر الممكنة مادام الدرب يتجه انحدارا. كل مشاعره كانت تجمع بين الخوف المفزع وبين قلق التوتر، حتى النوم قرر أن يجافيه بالصحبة.

في صمته كان يخالف كل القوانين الفيزيائية السليمة، كان يكتشف أن الهجر ما هو إلا نهاية لدائرة البداية الفارغة. عند منتصف المسافة بإفراط قياس عقدة التخمين قرر الوقوف وتسوية وضعية جسمه. كان الدرب فارغا من كل أصوات المارة ولغوهم الممل في نقض الوعود، كان حتى الدرب يسكنه اليتم حين تحول كل المارة إلى غرباء في دار عزاء لا ميت فيها.

هو العالم الأصم الذي بات يسكنه من كل الزوايا الخفية والمميتة، لكنه قرر الصياح بدون صوت ونفخ نفسا عاليا مدويا في السماء ودعاء بكلمة واحدة للسماء العلوية. تذكر طفولته والخوف الذي كان يفزعه ليلا وقياما بالارتعاش، تذكر القلق من حلم المستقبل غير الحاصل بالتأكيد وتلك المرأة التي كانت تملك قلبه، وتلعب به نحو أحاجي قيس وليلى والحب العذري، تذكر أن اليتم ما هو إلا يتم علاقة بين الحلم والواقع، وبين صمت الذات وجفاء الآخر، ولما القول بيتم التملك والامتلاك العبودي .

استمر في المشي ولم يكتشف بأنه أضاع ماضيه، أضاع كل كلمات مذكرة ذاكرته القريبة والبعيدة. حينها أتلف مشيه نحو مقام سعيه الأيسر. من خوفه على ذاكرة ماضيه العمرية أنزل دمعة الشفقة، أصدر أصوات أنين صامتة عن تاريخه الماضي الذي تسرب من ذاكرته العلوية ولم يعد بمقدوره امتلاكه ولا استرجاعه.

كل الأسماء أضاعها بحرمان سريع من مستند الماضي، حتى التي كان يمسك بيدها ضما لم يعد يعلم اسما لها، لم يعد يتذكر ابتسامتها الطفولية ولا ملامحها الذكية. ألقى نظرة إلى الوراء فأمال خده يسرة كمن صعق، حينها اكتشف أنه تاه في مقصد مشيه، أحس أنه قد أخطأ في اختياراته وانجرف مع تيار الفرح الزائف . أعاد كرة الرجوع بميلان قوة ارتفاع الدرب، تمشى بمتلازمة نقط الوصول غير المنتهية، لكنه كان يحمل أسفارا فارغة من مداد تدوينات التاريخ القريب، حين وصل انتهى التفكير وضاعت حقيقة النور والظلام....

 

فصل الثاني: إيتري الذاكرة ...

في ذلك الحي غير النائي بالبعد عن دوشة حياة المدينة يسكن إيتري وحيدا. وحدته علمته أن الكلام سفسطة لا طائل من ممارستها إلا مع مرآة ذاته. كانت كل كلمات إيتري قصيرة بعلامات الوقف، كان يلتهم كتب الفكر ويزيد عليها كتب فلسفة التنوير قراءة. داخل فضاء بيته كان الترتيب يسكن المكان تموضعا لكل كبيرة وصغيرة، كان إيتري شديد الحرص على الظهور بمبدأ الرجل الحداثي.

بين سن صغره وشبابه فرق بين يطول الحديث عنه، وشتان بين النموذجين مقارنة. الأول احتلت فيه الطفولة الصغرى الحركة وشغب اللعب وبداية تحمل المسؤوليات، كنت تلحظ حينها أن البسمة تلزم  إيتري التصاقا، تلحظ فيه طموحا متزايدا لا ينقطع عن كسب مسرات ورطب حياة. وحتى أن الحزن نال منه نصيبه الأوفر وبزيادة الفائدة، في المحطة الثانية من العمر وبعد ضبابية غالبية أمانيه المعلقة، كان يحس بالسقم، كان يريد دفن ماضيه وحاضره في أقرب بقاع بالعمق السوي.

لم تكن حياة إيتري بحياة البذخ ولا الزهد، لم تكن حياته إلا تلك الوصفة التي تشمل لم شمل متناقضات الفرح والألم الذي تربى عليهما أبناء الشعب، تمسك بالدراسة ولازمها. جميع المهن ما ظهر منها وما خفي مارسها إيتري بكل رجولية. لم تكن ذكريات إيتري إلا إعلانا عن لعنة تنغيص متوالية، حين عايش الألم بكل تجلياته النفسية والذاتية، حين توقفت وجودية أمه بالموت الخطف، وهو لا زال لم يقطع نهاية شوط التعليم الابتدائي. موت الأم مبكرا أدار مقود حياته وألقي به في دوامة تربية زوجة الأب.

حين اكتشف الموت بدمعة ثابتة، ثم سائلة بالطوع العاطفي. أضحى إيتري يستكين كليا عن الكلام المباح، يتعفف عن إطلاق بسمة ورد حياة. هو الألم الذي تربى فيه، والشعور منذ الصغر أن الحياة ما هي إلا ألم مستكين يجابهه لزوما بالاعتراض عن اللهو وزينة الحياة . ليلة موت أم إيتري التصقت في مخيلة ذاكرته ولم تفارقها البتة، حتى في أضيق فرحه الزائل العرضي.  كان كل من في البيت لا يضع احتمالا لموت الأم، كان من في البيت في هرج مستديم وممارسة سنة استمرارية الحياة. فيما الأم فكانت طريحة الفراش في زاوية غرفة ظلامها يستبد قسرا بالنور الآتي من فتحة نافذة ضاقت مساحتها المطلة على الزقاق الضيق. كانت الأم تحس بالموت يسكن كل أطرافها بالتآكل، كان أنينها يسمع من أبعد نقطة في البيت، كانت الأم تنادي الرحمان بكل أسمائه الحسنى بأن يفك ألمها بالشفاء ويفرج من ضيق سيطرة التهابها الداخلي.

 

فصل الثالث: ليلة حياة أخيرة ...

إيتري يوم انطفاء شمعة حياتها،  لم يفارق غرفة الأم الطريحة الفراش، كان يقعد موضعا قريبا من يدها اليمنى، كان يمرر يده مرارا على جبينها وهي تشده بالرؤية، كانت مرات عديدة تبتسم في وجهه رغم الألم المتلاحق الذي يغزو كل جوانب ذاتها. إيتري يناوب استعمال البسمة حين تفتح الأم من نصف رؤية عيونها، كان يتابع عيون أمه المغمضة بدمعة مسكونة بعينيه وفائضة على الخد، يتابع سكنات وحركات أمه القليلة، يتابع آهات الأم العليلة وهو من الداخل يتألم ارتجاجا ألف مرة.

في ظل اشتداد الألم توسد إيتري يد أمه، سرقه خلد النوم حين مررت الأم يدها على دمعة عيونه بالمسح، نام إيتري غفوا والحلم يطوف به بمتمنيات شفاء الأم وعودة سلطة الأم على بيت الأسرة. نام حتى أنه سمع وشاهد من في سماء الدنيا تطوف حول رأس أمه فرحى، شاهد ترحيب الأم فرحا بقدومهم،  وهي تقف في ثوب بياض غير مخيط. شاهد معاملة ود ورفق في سحب روح أمه. لكن إيتري في هذا الجزء من الحلم قام فزعا مناديا (أمي...أمي...، ما بك...أمي) حينها كانت آخر كلمة تنطق بها  الأم رافعة رأسها سماء، إيتري عزيزي.

هي النهاية التي أحس بها إيتري حين أكدت آخر زيارة للطبيب أن الأم دخلت خانة غيبوبة مستديمة. تدور الأيام بالتوالي حتى صارت ثلاثة، والأم لا تحرك ساكنا إلا صدرها علوا بالنفس القصير والسريع، لا تلفظ حركة ولا كلاما إلا تلك الأنفاس المسموعة والمتلاحقة بالاشتداد والضغط على صدرها الذي كان أرحب حنانا للجميع.

توالت الأيام حتى أصبحت  بعد اليد الواحدة، وإيتري لا يفارق غرفة الأم إلا لماما، لا يفارق البكاء فقد أصبح من صحبته المستديمة، توالت الليالي الخماسية حين كان إيتري يمسح جبين أمه من عرق خفيف، ويبلل ماء لشفاهها الملتصقة، حين لاحظ أن أنفاسها تشتدد وتتكرر بالقرب، حينها دعا من قلبه في صدر الليل بأن تلحق أمه بالصالحين والصالحات. كل كلماته كانت تحمل دعوات صادقة لأمه بالرحمة والمغفرة، فحين أمسك إيتري بأصبع شهادة أمه وناولها الشهادة،  كان الأمل حاضرا ببسمة قليلة الثواني، حين انفكت رموش أمه بالانفتاح الطفيف، حين عرجت الأم برؤية مائلة نحو إيتري، ثم كفت عن التنفس نهائيا.

حينها تلحظ إيتري، يصيح بقوة صوته أمي ... أمي... أمي... كل من في البيت حضر إلى الغرفة، بدون تصديق أن الموت مر في لمحة بصر خاطفة. كانت روحها تسبح خروجا من تلك النافذة الصغيرة إلى السماء عبر دروب الدنيا الضيقة. كان كل من في البيت يريد إسكات إيتري عن الصياح والبكاء.

 

ذ. محسن الأكرمين، مكناس / المغرب

 

في نصوص اليوم