نصوص أدبية

بطولة بريئة

محمد شداد الحراقكان بيتنا الصغير عالمي الوحيد الذي يشبهني ويمدني بالطاقة والمتعة، ويمنحني الشعور بالأمان.عشت طفولتي الأولى بين جدرانه الأليفة. أتدحرج كالكرة المطاطية بين غرفه وفنائه وباقي مرافقه. عشت فيه طفولة بسيطة تغمرني فيها السذاجة والبراءة واللامبالاة الفطرية. أكتفي باللعب مع أختي التي كنت أسميها (زازا) آنذاك. تكبرني بسنتين... كنا نمضي أغلب الوقت معا منشغلين بلعبنا الطفولي. لعب بريء في عمقه، ولكنه شبيه بالفوضى. كان يجر علينا كثيرا من اللوم والعتاب طوال اليوم. تارة نصفف الوسائد القطنية على الأرضية ونشكلها في هيأة سيارة، نجلس داخلها ونتخيل أننا نسوقها، فنصدر صوتا صاخبا كصوت المحرك. وأحيانا نلعب لعبة الغني والفقير، نلبس لباس الكبار. نضع صرّة مستديرة ناحية البطن للدلالة على أثر النعمة، ونتصنع في كلامنا ومشيتنا للتعبير على أننا نوع آخر من الناس،لاينتمي لحينا، ولا نراه إلا في الشاشة. نوع  له لغته وطقوسه ونمط عيشه. وحينما تسيطر علينا شقاوة الصغر، فنتراشق بالوسائد وبالماء وبكل شيء تصل إليه أيدينا. نقضي لحظات ممتعة بالرغم من عبارات العتاب التي نتلقاها من طرف والدتنا التي كانت تتظاهر بالغضب ولكنها تضمر في أعماقها كل الحب وتتراقص في قلبها سعادة لا توصف.

لكن هذا العالم الممتع سرعان ما سكنته أطياف الملل وجثمت فيه أشباح الغربة والوحدة والكآبة.  فأختي بعد سنتها السادسة، بدأت تتخلى عني وتنعزل في زاوية من البيت لتلعب بلعبها الخاصة وتلبس لباس الأنثى وتقلد من هن أكبر منها. أحسست أنها تزهد فيّ، ولم تعد تطيق اللعب معي أو مشاركتي لحظات المتعة. أدعوها مرارا، لكنها تأبى الاستجابة وتنهرني بكلمات جارحة لم أكن في السابق أسمعها منها:

- أنت ذكر ولا يجوز لك أن تشاركني لعبي الخاصة.

هكذا بدأ عالمي الجميل ينقلب إلى سجن ضيق، وأخذ يغير لونه وهواءه ويقلص جرعات المتعة ويجعلني أحس بالاختناق والكآبة والسأم. لم أعد أجد فيه ما يغريني بالمكوث فيه بعدما انقطعت لحظات المتعة والمرح التي كنت أعيشها سابقا. أنظر إلى أختي وهي مستغرقة في تمشيط شعر دميتها وفي تزيينها بقطع القماش، فينتابني إحساس بالمرارة والغضب والغيرة، فأتعمد استفزازها لعلني أحرمها من متعتها هي أيضا. لكنها -على الرغم من نداءاتي واستفزازاتي المتكررة-  لم تستجب لرسائلي ولإشارات الاستعطاف التي أوجهها إليها. ولمّا أدركت أن (زازا)  قد هجرتني، صرت أكثر من النظر عبر النافذة المطلة على الشارع، وكأنني أبحث عن بديل يعوّضني ما حرمت منه. كان أطفال الحي من مختلف الأعمار يلعبون ويمرحون ويرددون كلمات غريبة عني لم أكن أدرك فحواها؛ كلمات لم تكن تنتمي لمعجمي الخاص. ولكنني كنت أشعر أنها كلمات خاصة بالشارع، لا يجوز التلفظ بها، لأنني لم أسمع أحدا بالبيت يستعملها في خطابه. بدأ فضولي يزداد لمعرفة هذا المعجم وفهم ما يضمره من دلالات ومعان محظورة لا مجال لتداولها بالبيت. ومع ذلك الفضول المتولد في أعماقي كانت الرهبة القوية العاتية تنتابني كلما فكرت في الخروج إلى الحي والالتحاق بباقي الأطفال.كانت أمي كلما وجدتني معلقا بالنافذة تقول لي:

- اخرج قليلا، واجلس قرب المنزل. أو العب مع ابن الجيران

- هل أخرج وحدي؟؟ ولماذا لا تخرج معي زازا؟

- الفتاة لا تخرج إلى الشارع وإنما تلعب بالبيت.

- وأنا كذلك لن أخرج.

بعد إلحاح كثير من والدتي تمكنت من تخطي عتبة البيت نحو الخارج. كنت خائفا لا أشعر بالأمان. ليس لي اللغة المناسبة ولا الجرأة الكافية حتى أفرض نفسي في عالم الأطفال المتحررين. كنت أكتفي بالجلوس بباب البيت كمرحلة تدريجية وخطوة تدريبية حتى أستأنس بأجواء الشارع وأتعرف على الأبجديات الأولى لثقافته وطقوسه الخاصة وأمتلك الأدوات الضرورية للاندماج في هذا المجتمع الجديد. كنت أشاهد الأطفال يلعبون ويمرحون، فأغبطهم على ذلك لأنهم محظوظون ما داموا يستطيعون الابتعاد عن منازلهم دونما خوف أو وجل. كنت أرى خروجهم المستمر عنوانا للجرأة التي أفتقدها وعلامة على المتعة الحقيقية التي أبحث عنها. لكن حاجزا نفسيا قويا كان يصدني عن الإقدام على المحاولة الأولى، ويمنعني من التجريب.

كان بيت جارتنا ميمونة أول بيت استطعت دخوله بسهولة قصد اللعب مع ولدها الصغير الذي لم يتجاوز بعد سنته الثالثة. لم تكن والدتي تجد حرجا في أن أمضي بعض الوقت هناك. كنت ألعب مع الصبي مكرها، بل في الحقيقة كنت ألاعبه حتى يحس بالأنس والمرح. ولم يكن ذلك اللعب يشعرني بالإشباع والامتلاء، ولم يحقق لي تلك المتعة التي أنشدها. ألعب قليلا بلعبه ثم أتركه، فأعود لأجلس بالباب وأسرّح نظري في الشارع الطويل الذي يعج بأطفال في سني وأكبر مني. وأنظر إليهم بعين الغبطة، وأمنّي النفس بأن ألتحق بهم يوما.

وفي يوم حدث لي ما لم يتوقعه أحد.. اختفيت فجأة عن الأنظار. كأنما امتصني جوف الأرض أو حملتني الريح بعيدا في السماء. بحثت أمي عني في غرف البيت كلها ولكن لا أثر لي. سألت عني جارتنا فأكدت لها أنني كنت جالسا بالباب، ولم تنتبه لحظة مغادرتي للمكان. خرجت أمي من البيت مندفعة متوترة تبحث عني في زقاق الحي وفي الأحياء المجاورة. تسأل عني الكبار والصغار دون جدوى. كادت رأسها تنفجر من شدة التفكير. كانت الوساوس المقيتة تتزاحم في عقلها وتحمل إليها كل احتمال مدمر لقلب الأم. ظلت المسكينة تسأل من تعرف ومن لا تعرف. انضم إليها كل الجيران، فتحول الحي إلى ساحة للبحث عن جرذ نزق متوار عن الأنظار.

وبعد ساعة من القلق والخوف والهواجس المدمرة والبحث الحثيث، أطلّ الصبي المختفي بعفوية وبراءة من تحت المائدة المستديرة حيث كان راقدا مستسلما لنوم رحيم هنيء في بيت الجارة. أراد أن يلعب لعبة الاختباء،  لكن يد النوم كانت أسرع من إرادته. خرج يجر قدميه الصغيرتين ويفرك عينيه الناعستين، يوزع بصره في كل اتجاه، ولا يفهم سبب الصخب المزعج الذي يسود الحي.. تحول في لحظة إلى بؤرة إشعاع مثير.أصبح بطلا جديدا ناشئا في الحي.. وصارت قصته على ألسنة كل الناس.

 

د. محمد شداد الحراق

 

في نصوص اليوم