نصوص أدبية

عجلة توينبي

صالح البياتيعاد على نفس الطريق الذي سافر عليه مئات المرات، منذ الرحلة الأولى مع سعيد الى بغداد (في الثالث عشر من تموز- يوليو عام 1958 م) وهذا اليوم العاشر من كانون الثاني عام 1982م.

 كم مرة خلال هذين التاريخين دارت الأرض حول نفسها؟

 كان سؤالا واحدا يلح عليه طوال تلك السنوات، يدور في رأسه، كلما تذكر قول توينبي:

 "عجلة التاريخ ليست آلة شيطانية، تبتلي الناس بعذاب سرمدي"

 فيسأل نفسه لماذا إذاً ابتلانا التاريخ بعذاب سرمدي، هل نحن استثناء، ام ان لعنة ابدية حلت علينا!

التفت الى جانبي الطريق، فرأى على أحد جانبيه جثة المجنون عاشور، كما شاهدها عارية مرمية، كانت عيناه لا تنظران لشئ ما، ولكن يراهما الآن تخترقان حجب السماء، لأبعد من الشمس والكواكب، الى ما فوق العرش، تشكوان الظلم الذي وقع على صاحبها، للخالق، بعتاب صامت..  

ولشد ما حيرته أيضا ابتسامته البلهاء التي جمدت كدم تيبس على شفتيه، ِأرتعب من ونظرته الحادة، التي يراها الآن كلسان ناري يمتد للسماء.

 ربما لم يكن لحظة موته العنيف ينظر لجلاديه، ولكن عينيه الآن مختنقتان بالدموع والدم..

 كان كل هم الذين شاهدوا الجثة، تغطية عورته..

 وعندما ألتفت الى الجانب الآخر من الطريق، ترآى له نعش عدنان ملفوفا بالعلم العراقي، يطير نحو الشرق ليلتحق بعائلته المسفرة الى إيران..

 كان رحيل نوح من مدينته، هروبا من الموت، المتمثل بجثة ونعش، يلاحقانه على طول الطريق.

رحلة اخيرة وبلا عودة، اشعرته بالخوف من مستقبل  مجهول..

   قطع ثلث المسافة، توقف فجاة، ركن سيارته على كتف الطريق الترابي، عند مقهى صغير، طلب استكان شاي، شربه ساخنا، أومأ بيده لصاحب المقهى، وعندما جاء، سأله:

" أتعرف شخصا باسم نوح؟"

"عفوا.. لا أعرف أحدا بهذا الاسم، عدا النبي نوح عليه السلام."

أومأ بيده بطريقة تخلو من الذوق، وقال:

"روح"

 عاد الرجل لمكانه، واقفا امام المقهى، شاخصا بنظره للسيارات المارة بالاتجاهين، آملا بتوقف سيارة للأستراحة، قام نوح ونفح الرجل اضعاف ثمن  الشاي، شكره الرجل، ودعا له بسلامة الوصول..

عاد لسيارته، استدار في الاتجاه المعاكس، عائدا من حيث كان قادما، صاح الرجل منبها اياه بأعلى صوته:

"هذا الاتجاه غلط.."

عاد الرجل يصيح بصوت اعلى قبل ان تبتعد السيارة:

"هذا الاتجاه غلط.. لا يوصلك الى بغداد.." في المرة الثانية رد عليه:

" لا يهم كل الاتجاهات سواء."

 أدهش تصرفه صاحب المقهى، فهز يديه، وظنه مجنون.

عاد أدراجه الى مدينته، فوصلها بعد الظهر، عبر جسر الكحلاء، استدار يمينا محاذيا النهر، التفت للمركب الغرقان، القى نظرة على بوجته المتوارية تحت الماء، ومر على قصر المحافظ، وألقى نظرة على نهر دجله عند تفرعه الى نهر الكحلاء، في هذا المكان يتسع النهر حتى كأنه بحيرة، ظل جائلا في أزقة المدينة وطرقها وحاراتها القديمة، وكان حيثما يمضي يتطلع للناس، فيراهم كأشباح غريبة، دمى من الخرق البالية، كأن لم يسبق أن عرفهم من قبل، رغم أن معظمهم يعرفونه جيداً، وله ايد بيضاء على المحتاجين منهم.

كان  يحز في نفسه وهو يتطلع لهم، انه لم يستطع انقاذ مقبل، ولا مساعدة الدهلة، لم يقتنع  بأي تبرير يعفيه من تأنيب الضمير.

 يترجل بين حين وآخر، يركن سيارته، ويسير على قدميه، على غير هدى، حتى أعياه التعب، فوجد نفسه عند العاشرة مساء على مقربة من بيت القاضي عبد الهادي إجباري، خطر بباله أن يطرق الباب، تردد في البداية، ولكنه أخيرا طرقه، خرج الرجل بالمنامة، تفاجأ بوجوده امامه، كان الإرهاق بادياً على وجهه، فهولم يحلق ذقنه منذ إيام، ولم يخف الشيب الذي غزا لحيته، رحب به القاضي، وأدخله غرفة الاستقبال، دعاه القاضي الجلوس امام مدفأة الكيروسين، لم يستجب في البداية، ولكنه جلس اخيرا على السجادة، فإنعكس على وجهه لهب المدفأة الأزرق، هَمَّ القاضي بإحضار الشاي لضيفه، قام نوح وضع يداه على كتفي العجوز، وأجلسه على الكنبة، وظل واقفاً، أثار تصرفه الخوف في قلب العجوز، قال نوح بصوت آمر:

"اجلس.. جئت أسألك عن شيء واحد، وسأذهب."

" أعرف جئت لتطلع على قانون الجنسية العراقي، فأنا خبير به"

" لا يهمني.. جئت لأعرف أن كان بإمكاني أن أعود لأسمي القديم إجباري؟"

تفاجأ القاضي، وظل صامتا لا يحير جواباً..

" ألم تسمع السؤال، هل عليَّ أن أعيده عليك؟"

دار بينهما نقاش حول ذلك، ولما تأكد انه لا يمكن ان يرجع لإسمه القديم، نظر طويلا للقاضي وقال:

" أنت محق يا سيدي، نحن لا نزال نعيش في عصر السفر برلك."

وخرج دون وداع، فترك العجوز في ذهول وحيرة. وعاد مشيا على الأقدام لبيته.

 في تلك الليلة نام في فراشه، وعندما استيقظ صباحا، كانت أشعة الشمس تغمر الغرفة، شعر أنه جائع، نهض من الفراش، وبحث عن شيء يأكله، وفي أثناء وجوده في المطبخ، رأي سكينا، فخطر على باله أن يقتل سليم الخماش، أخذها وخبأها بملابسه، تذكر السيارة؛ التي ركنها الليلة الماضية، لصق جدار بيت القاضي، لم يخرح من البيت حتى حلول الظلام، ذهب هناك ليستعيد سيارته، وجد نفسه مدفوعا برغبة قوية لطرق الباب، طرقه فخرج المحامي حسن، أبن القاضي الأكبر، وكانا زميلان ايام الجامعة، سأله عن والده، إن كان نائما في هذا الوقت، أمسك حسن يده وأدخله لغرفة الاستقبال، كان القاضي جالساً، يتابع نشرة اخبار الساعة التاسعة المتلفزة، سلم عليه واعتذر، قام القاضي واحتضنه وأجلسه قربه، تابع الثلاثة أخبار المعارك المحتدمة على الجبهة الجنوبية الشرقية، على طول الحدود المحاذية لمحافظة ميسان، عبر القاضي عن قلقه:

"هذه حرب ما كان علينا ان نتورط فيها."

هم نوح بالانصراف، ولكنهما منعاه، وعرضا عليه المبيت عندهم.

" ستنام هنا، سيأتيك صديقك حسن بمنامة نظيفة وفراش، ستنام هنا في الصالة."

ارتاح نوح لفكرة قضاء ليلة لطيفة مع أصدقاءه، استأذنهما القاضي وذهب لينام، بينما سهر الصديقان حتى ساعة متأخرة، أدار حسن مؤشر محاطات الراديو، لسماع آخر البيانات العسكرية الصادرة من الجانبين، عن الخسائر بالأرواح والمعدات. تحسر حسن وتنهد بعمق.

" تورطنا يا صديقي كما قال والدي، حرب لن تنتهي قريبا."

"لا يهم متى تنتهي، ولكن كيف ستنتهي!"

"تقصد من سيخسر في النهاية!"

"سيخسر الاثنان طبعا، ولكن البادئ بالحرب سيكون الخاسر الأكبر، لأنه خاض حربا ليس فيها اهداف استراتيجية محددة مسبقا."

ناقشا الأستراتيجية، على ضوء المعطيات وآراء المحليين العسكريين المتباينة، فوجد نوح ان تصدير الثورة الأسلامية فقاعة وهمية، وان الدفاع عن البوابة الشرقية كذبة سياسية مفبركة، اخُترعت في حينها بذكاء شيطاني، عند تطور الأحداث، وأن نظام الملالي كان سيسقط من تلقاء نفسه من دون حرب، وأن الحرب بالعكس ساعدت على رص صفوفهم، والتخلص من اعدائهم في الداخل، فإستنتج حسن ان الرئيس لم  يفكر تفكيرا استراتيجيا، خاض حربا ليس لنا فيها ناقة ولا جمل..

" حسن.. على فكرة، لا زلنا نفكر بالناقة والجمل، السنا نعيش في مجتمعات متحضرة، وتركنا البداوة منذ زمن بعيد؟:

" لا يا صديقي نوح، البدوي بتقاليده المتحجرة، لا يزال يختبئ كالقدر في حياتنا".

ران صمت متوجس بينهما، قطعه حسن بنفاد صبر.

" ومتى الخلاص!"

" لا أدري..ولكن أظن أن الخلاص سيتحقق في النهاية، عندما يتحطم شيء في دواخلنا، شيء نتهيب منه، ولا نجرأ أن نظهره للعلن.. كما يحدث للجليد عندما يبدأ بالذوبان، في اللحظة الأولى تسمعه يتكسر ولكنك لا تراه.

فجأة غير حسن مجرى الحديث فسأل:

  " لو سألتك ان تعرف الوطن بكلمتين فقط؟"

" بيت الأم.. وانت ماذا تعرفه ايها المحامي الذكي؟"

" بيت الراحة؟"

" هل تقصد الوطن مرحاض!"

" طبعا، اليس الأنسان يشعر بالراحة والأسترخاء عندما يتخلص من فضلاته، بغض النظر عن مستوى هذه الراحة حسب نوع المرحاض، انت سميت الوطن بيت الأم، فماذا حصلت الأم من هذا البيت، غير الخرا، فهي اما ارملة، ثكلى، او محرومة ومضطهدة.."

وبسرعة انقلب الحديث الجاد والثقيل الوزن، الى مزاح وفرفشة. بدأه حسن بخفة دم وحب للضحك.

" لماذا هؤلاء الذين نحاربهم، لا يصدرون لنا فستقهم المشهور بجودته؟ سمعت ان أحد الشخصيات الهامة في الحكم، يمتلك مزارع كبيرة لاشجار الفستق.

"وماذا نصدر نحن لهم .."

قال حسن دعني أفكر:

" ها لقيتها، لبن أربيل.. ها ها ما رأيك يا نوح؟"

ضحك الصديقان، فانشرح صدرنوح، وإنزاح عبء كان جاثم على صدره ويخنق أنفاسه.

" هل حرام الضحك قليلا، بينما الاخرين يبكون، أانا مخطئ يا صديقي ؟"

" لا.. متناقضات الحياة كثيرة، وهي شئ طبيعي"

إذاً هاك نكتة عن الرئيس..

راح حسن يحاكي الرئيس ويقلده، عندما بكى على شهداء الحرب، اثناء خطابه الذي نقله التلفاز، شرب قليلا من كأس الماء، الذي امامه على المنضدة، ومسح دموعه وفمه بمنديل ورقي، توقف لحظة، وغلبه نشيج مكتوم، تهدج صوته، ومسح دموعه وفمه، وكرر ذلك عدة مرات اثناء خاطبه، وعندما نفدت دموعه وجفت، استعار دموعا من مرافقه، ها ها..

" يذكرني هذا المشهد، بدمعة فرح سالت على خد المرجع الديني الأعلى، عندما سمع بإغتيال الزعيم،* ويقال انه صلى ركعتي شكر.

 صمت نوح قليلا وأضاف.. " تلك المحاولة التي فشلت، وكان رئيسنا الحالي ابرز ابطالها، ما اشبه الليلة بالبارحة!"

"والزلابية بالبقلاوة."  قهقه المحامي عاليا.

انقلبت اسارير نوح، عبرت ملامحه عن الانزعاج الشديد من كلام صديقه، وظهرت في نبرة صوته.

"الموضوع ليس مزحة."

استدرك حسن، فأبدى شيئا من الجدية تلافيا لزعل صديقه.

"هل فعل ذلك حقا!"

"من؟"

" المرجع الديني."

" طبعا.."

" لا اعتقد ان المرجع الديني الأعلى قدس سره فعل ذلك.. هذه كذبة افتراها الشيوعيون، لأنهم يحقدون عليه، بسبب فتواه الشهيره، التي كفرهم فيها، واباح قتلهم، اعتقد أنت سمعتها من سعيد."

" منه او من غيره ما الفرق.. المهم انها حدثت فعلا."

" اتصدق هذا الشيوعي الحاقد"

" ولماذا لا اصدقه، عندما تتضارب المصالح، تنط الاشباح خارجة من الظلام، ويصبح كل شيء جائز ومباح، وانت يا صديقي المحامي اعرف من غيرك بذلك. لقد جانبت فتواه الحكمة، لانها تسببت بإزهق ارواح برئية.

" وأين هنا تضارب المصالح؟"

"  بقانون الإصلاح الزراعي، الذي حرم المرجع من مورد هام، يأتي من كبار ملاك الأراضي، فاصطف مع أعداء الثورة، لا اريد ان ادخل معك بجدل بيزنطي حول هذا الموضوع، لأني متأكد انت كمحامي تعرف جيدا كل شيء عن الموضوع، ولكنك تغالط الحقائق."

"على كل حال.. كي نتجاوز الخلاف بيننا كاصدقاء، علينا ان نغلق الموضوع، ونتوقف عن الخوض بقضية قديمة طواها النسيان.."

"ليس هناك من شيء هام يطويه النسيان ابدا، ولكن قل يدخل في ذمة التاريخ."

" لننهي نقاشنا كأصدقاء. تصبح على خير"

"تصبح على خير"

تربع نوح جالسا في فراشه، يفكر بمحاولة الاغتيال التي نجا منها الزعيم بإعجوبة.. رغم ان سيارته امطرت بالرصاص.. وتوقف عند مفصل هام فيها، وهو مقتل أحد المهاجمين، فقال نوح يحدث نفسه، اما كان على القدر ان يكون رحيما،  فيختار رئيسنا، بدلا من رفيقه الذي قُتل.

شكرا لمتابعتكم

يتبع..

 

صالح البياتي

........................

حلقة من رواية: بيت الأم

.....................

- حدثت يوم الأربعاء في الساعة السادسة والنصف مساء، الموافق السابع من تشرين الأول- اكتوبر، عام 1959 م ، في رأس القرية بشارع الرشيد.

 

 

في نصوص اليوم