نصوص أدبية

المُذيعة

صحيفة المثقفتلفتُّ فألفيت عينييها قد وقعت علي قبل أن تقع عيني عليها، نظراتها ضبابية، مشتعلة، ورأسها أمتلأ بخصل بيض.. لم تغير السنوات من ذلك البعاد حيثُ صار فيّ ارتجاف مباغت سرى في جسدي منعني من التفكير في الذي اريد فعله.. تفصدت جبهتي عرقاً، ولم اعرف ما الذي اعتراني، فوجدتني اصرخ بسائق التاكسي، ان يتوقف... كما انفجار اندلع. طلبت منه بحسمٍّ أن ينزلني فورا.. لأجل اكتشاف ماذا حلّ بها بعد هذي الأربعين عاماً، المرأة صاحبة الابتسامة العذبة، ذاتها.. يوم كانت معي لم تكن بذلك الحال الذي رأيتها فيه..

تشبثتّ بقشة. تحسست القلم الذي في جيبي، ورحتُّ اشدّ عليه بأصابعي.

تركت كل شيء؛ عدلت من أجلها عن بقية مشاغلي. استطالت اللحظات كثيراً. حيثما استجاب السائق لطلبي متأخرا، وأنا أناوله المبلغ المتفق عليه. وجدته قد أخذ وقتا ومسافة حتى وجد مكانا آمنا أنزلني فيه. بالكاد وصل الى مكان يسمح له بالوقوف فيه. اذ لفظني سريعا في زحمة شارع مزدحم..

صارت الوجوه تقابلني.. حيث كنت الوحيد العائد عكس السير، ولا يأبه مرور البعض بالبعض.. كلّ يمشي عاجلا إلى غايته، بدا لي المكان وكأنه لا يبعدني عن مكانها سوى عشرات الأمتار. بات عندي احساس انها تتعمد ان لا تراني، اضافة الى الازدحام الذي جعل المسافة تتضاعف، فالخطوة باتت تتقاطع مع الأخرى.

كان المشهد من حولي يعجّ بالضجّة، وقع أقدام صاخبة، مزامير سيارات، واصوات باعة، ورنين هواتف محمولة. بينما عيني بقيت مصوبة إليها لا تفارقها خشية أن تضيع مني، صرت منقاداً اليها، دون أن أفكر بعاقبة الأمر. اتابعها عن بعد حيث كانت تتهادى في مشيها.

2      

عندما تكون حبيباً لامرأة جميلة، سوف يكفي لأن تكون هدفاً يتهافت عليه كل سافل لديه سلطة ما، بغية ازاحتك عنها كطريدة مُتَمَنّاة.

خاصة بعين من يراك انك لا تستحقها. وهو يستحقها أكثر منك ما دام هو يملك أكثر مما تملك. تصبح غيرته عليك متفاقمة كما لعنة خانقة، تطاردك بلا هوادة.

3       

كنت اتمنى ان أراها، وأشبه ما يكون حلما، ليس بمستطاعي الفوز به، صرت أتمنى رؤيتها.. أريدها أن تتوقف لي - كأني أراها وأنا لا أراها..

إذ اتسعت الهالتين السوداوين من حول عينيها، وبدتا كأنهما برقعا ستر جمالا لم أكن أجرؤ على وصفه، يوما، أو لم يكن احد من الشعراء قد ذكر جمالا يشبهه.. تكاد بسطوة جمالها تنسيك كل الوجوه الجميلة التي رايتها، وتتمناها، جمالا غامضا بكل هدوءه فتريد التملي من كل قسماتها، لأجل الارتواء من إشراقها، والوقوف الطويل عندها وما أن تلتقي عيناها اللامعتين ولا تعرف أي لون تصنفه، فتطرق أرضا وكأنها تسلّ القلب من حشاشته، حيث الرموش الرخيمة، والجبهة الجليّة الإشراق..

كانت تأخذ من حولها أخذاً. فأكون ساكتا عن إي كلام.. أزم شفتي وافتح أذني، وأريد سماعها، اسكن؛ كأني أريد سماع موسيقاها، شدّوها يعبر بيّ من مكان إلى آخر مفترض يبتعد عن الهمّ والحاجة، يسيرني ورائها فأريد أن أتملّاها وتناغمت فيها الصفات كما ترنيمة عندليب شجي، سكنت متنازلا عما يكون من وجود، ورحت إليها، مغمض العينين، وساحب النفس العميق كمن يستقبل امرأ ما كان لابد منه، فكأنما يختفي وجودي وتحضر هي بعنفوانها البليغ لن تصفه فنون السرد.

الجمال لعنة في زمن الحرمان...

خصرها الممشوق، الاهيف، وفتنتها الطاغية كأنما نسمة هواء عليل. زغبها الأهّاب على فؤديها الصافيين كذهب خالص.

امرأة بقيت تطاردني رغم كل تلك السنوات، وهي ما زالت تملك علي حضورا طاغيا تذهب مني أي فكرة غيرها، وأنأ أريد التخلص منها بمجرد خطها على الورق، وأجدني محبطاً، ومنكمشاً على ذاتي لا استطيع الفكاك من الفكرة التي تسكني. فكلما اشرع في قراءة كتاب تشخص تلك ويختفي تماما موضوع الكتاب الذي اقرأ به..

كنت موجوعا لا اعرف كيف يهدأ ذلك الوجع الخفي وأتخلص منه، كأنه أشبه بهم ثقيل يقطع عني التنفس..

- كيف أمكنهُ الاستحواذ علي جمال بمثل جمالك. تلك وقاحتهم التي تمر وفق اصرار وخطط سرية..

- أنا صاحب التفاصيل الدقيقة.. أترى نستني؟.

رغم تلك التفاصيل التي يصعب على أمرأه مثلها نسيانها. لأني كنت الرجل الاستثنائي في حياتها.

4       

كأنما صارت المسافة بيني وبينها لا تقصر بل تطول، بينما لا امتلك سوى ان ابقى شاداً بقوةٍ على القلم، أريد أن اكتب شيئا، شاقّا طريقي نحوها..

كنت منسحباً إليها تاركاً مشواري الذي استدعاني الخروج، منقاداً لا ادري ما سأقوله لها من بعد تلك السنوات الطويلة التي مضت على طلاقها من زوجها (بعدها حل نزيلا في مشفى الأمراض العقلية).

اما وزوجها الثاني (نزيل سجن لارتكابه جريمة قتل من الدرجة الأولى بالإصرار والترصد) وربما قد كان لها زوج ثالث، لم اسمع به بعد ان انقطعت عنا اخبارها. احتدمت الأسئلة برأسي، تريد التدوين، وتودّ الإجابة.

 اشعر وكأني عاجز عن القيام بأي شيء، وأريد التحدث إليها مهما سيكلفني الأمر، أريد أن اعرف كيف آلت معها الدنيا، وأين حطّ بها مطافها؛ لأنها قد ماتت أكثر من مرة حسبما سمعت من اغلب الذين يعرفونها (خُطفت وطالب خاطفيها لأجلها فدية، ولم تفتد، فقتلت وتركت في أحراش مهملة)، (عشرات القصص سمعت وكأنها حقيقة شاخصة)، فكيف ماتت وظهرت، أو كيف تجلّت لي بهذه الصورة؟. فأنا لم أكن سببا مباشرا فيما حصل لها (كمؤلف) ومهما قضيت معها من وقت، كنت صفرا على الشمال لا أشكل في معادلتها شيء يذكر، ولكني مضيت زمنا طويلا أعيش صراعا مريرا مع نفسي أحاول أن ابرر لنفسي ما لم أقدمه لها من أداء تتطلبه الصداقة والزمالة وبقية الأمور الأخرى، ورحت لسنوات مريرة ألوم نفسي غاية اللوم، وأُمنّي نفسي بأني لم أكن السبب المباشر، المفكك لفشلها في بيتها الأول. فقد عاشت مع زوجها قصة حب كأنت هي حريصة على عدم وضع نهاية لها.. إذ قبلت أن تهاجر إلى دولة بعيدة، هاربة به من شرّ الشك، وعواديه المدمرة. ولا أدري كيف ظهرت وبدأت رحلتها مع الألم.. (شاخصة في جميع مسودات دفاتري القديمة)..

وقفت متأملا إياها غير مصدق.. وأنا من يعرفها أكثر من أي شخص في العالم هل أكون مخطئا بها من بعد العقود الاربعة قد كبرت فيها على نحوّ مضاعف أو أكون قد مشيت إلى شخص أخر سوف يكون في اللحظة الأخيرة، وتتبدل النتائج كما تحدث في القصص القصيرة الناجحة، تضع نتيجة بنهاية مفاجئة مقنعة، ويكون الظرف الحقيقي هروبا من الحقيقة نفسها، مسائلا نفسي أن كنت سأخلص نفسي من ورطة كتابية مريرة قد وقعت بها عندما ظهرت لي وهي آسرتي التي لا يمكنني الفكاك من أسرها، ولابد من مواصلة كتابتها. يتطلب ذلك قرارا صائبا مختلفا عن القرارات التي يتخذها رجل كان في مقتبل عمره واليوم قد أمسى على خسارة شبابه.. ذاته؛ شعور الذنب والتقصير يجتاحني يعصف ويمزقني لعدم أنجاز عمل يحتدم عليّ انجازه، تتسارع الأحداث والعمر يتقدم بي، ولم أنجز ما عاهدت نفسي عليه، أراها اليوم تسألني كيف وقد أعطيتك من عمري كل  المعلومات اللازمة لتقولها، ولم تكتبها، الأفكار تتسابق وأريد أن أتخلص منها واكتب ولم استطع، وستقول لي على الأقل دوّن كي لا يضيع صوتك، فصوتي هو صوتك وستجدني قد استعدت عافيتي لأخبرك المزيد مما تريد معرفته.. على الرغم من وهنّ صوتها الذي لم اسمعه ولكني سمعته من داخلي وفرض حضوره وسطوته عليّ.. فلا أظن أني سأخطئها..

في السابق عاشت قصة حبّ أخلصت فيها لزوجها، ولم تبدد وقتها الأكبر إلا على عملها الذي أبدعت فيه، وبقيت مثابرة في بيت الزوجية، ومتقدمة في عملها لدرجة أنها صارت المذيعة الأولى صاحبة أفضل برنامج تقدمه الإذاعة، ورفضت عروضا سخيّة من إذاعات عالمية للانتقال من بلدها إلى (لندن)، (باريس)، (نيويورك)، و(الخليج أيضا) من بعد أن طبقت شهرتها الآفاق والبقاع، لكن القدر حطّها في درب رجل متنفذ مصادفة فأرادها بكل ما لديه من قوة واستطاع بماله وسلطته الإيقاع بزوجها البريء في براثنه، لأجلها، وبالتالي (كما كان مرسوما لها) إذ سقطت بيديه كما الفاكهة الناضجة التي تسقط من الشجرة المهزوزة برفق، أن تحول إليه. (أوغلت في رسم إيذاء الزوج لها)..

كنت قد دوّنت تفاصيل كيفية اختطاف الزوج وحجزه لأكثر من شهرين، بدءاً من حقن المورفين في الدم حتى الإفساد السريع..

(فصار يهيّج مهدّماً لا يقوي على شيء).

(فلم يعد بإمكانه أن يكون رجلاً معها)..

(أدركت بأنها كانت ضحية ما وهبها الله من جمال)..

5       

في كل سفرة تأتيني بصندوق مليء بالكتب، حيث كانت بالنسبة لي من أعظم الهدايا.. كتب الاسرار المستحيلة..

مدن تزورها، تحضر معارضها الملونة، وتأتيني بأحلى العناوين. رشحت للسفر الى خارج البلاد أكثر من مرة بغرض المشاركة في ندوات وبرامج معنية بالشأن الثقافي.

في اجازتي من الخدمة العسكرية، كنا نقضي منها وقتا نعد فيه الكثير من مخلصات الكتب الجديدة. كتب فيها عوالم زاخرة بالخبرة، زاخرة بالمعلومة، وما مثل المعلومة في تشويقها الى المستمع والمشاهد. لم تكن تنكر لي حقي في ذلك الامتداد، برغم اني لم اكن استطع السفر بسبب متعلق بامتداد الحرب.. كانت جميلة الصوت، وتهدهد بسلسلة الكلمات التي كأنما نغماً عذباً تمنحه السحر ليطير بالقلوب معها.

- الجمال في الزمن الراكد يحرك نحوك الخنازير، لتأكل من أمامك بوقاحة كل ما تريد ان تأكله.

6       

 ذلك الرجل هو الآخر قد اخترته كصديق سابق لي، فانا لم أتخلّ عن ضمير المتكلم، وبقيت أتواصل بكتابة الحكاية، وكأنها تحدث ألان في زمن المفعول المضارع، وقد سقّطت عليه ملامح وصفات متناقضة متعارضة من صديقين حقيقيين وتركت صفاتهما تطبقان عليه، لاني أجد الرجل منهما على الأغلب ما يكون من شخصيتين متناقضتين، يجمع القسوة والطيبة في وقت واحد ولا اخجل من اعترف بذلك، وتعمدت باني لم أكن سببا في معرفته ببطلة حكايتي، بصديقي المفترض فقد التقيا دون تدخل مني، وأني بعد حين قد عرفت بأنه عرفها، هذا ما دونته في دفاتري وان قصتها معه قد شارفت على نهايتها، أردت أن أكون بعيدا عن نتائج ما حدث بينهما ولن أنكر بالطبع باني عرفته منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما، أي قبل أن اعرفها بستة أو سبع سنوات، (كما وجدته مدوناً في دفاتري)..

وجدتني قد تعرفت عليه منذ عام (1991م) حينها كنت موظفا في إحدى دوائر الدولة، وبقيت صداقتنا ممتدة لعشرات السنين تكللت بالرفقة المستمرة، والسفر إلى اغلب محافظات القطر معا، وهو من اقترح علي دخول الجامعة وسعى بذلك متحديا ومذللا لي كل العواقب، فكأن من المستحيل أن يكون الفرد موظفا في محافظة وطالبا مسائيا في محافظة أخرى. يومها كنت احلم بدراسة الأدب الإنجليزي ولم احظ بحلمي، فدرست مادة الإعلام، وهو من أراد أن ندرسها معا، وكأن له ما أراد. كما ساحر يسيّر الأشياء بمشيئته. يستطع أن يبهر من يشاء وقد ساعدني بكل ما يستطع من نفوذ فبقيت مدينا له طول عمري، قضينا أجمل أيام حياتنا الجامعية معاً. وبذلت ما بوسعي لأجل أن اجعله يشعر بأني أحقق له كل ما يطلبه مني.

- يوم كنا في عشّ واحد، كدنا ان نكون بصورة واحدة. تارة أكون أنا صورتها، وأحكي عنها حكايتها، أو أحكي عن نفسها حكايتي.

تحكي لي عن تفاصيل الكتب التي نحبها، وعن تفاصيل الاماكن التي زارتها، كأنها تدرك جيدا بانها تنقل الي اوصافها تعويضا عن عدم رحلتي معها. تفاصيل امكنة احلم ان ازورها. تحدثني بمحبة عن امنياتي. حيث كنت لا استطيع السفر اذ بقيت جنديا ممنوعا من السفر ويجب ان يخوض الحرب.

7       

(من اجلها جن جنونه وهامّ بها.. فما خبرت عشاقاً عشقوا عشيقاتهم بمثل عشقه)..

كنت أراه أعمى لا يرى إلا بها.. فأجمل ما في نساء العالم قد تمثل بها.. لأنها امرأة تعرف كيف تحكي حكايتها، لها حججها المقنعة، ولها تبريراتها الخاصة، اعرف حكايتها أكثر مما هي تعرف. عملنا معا، وكانت تفهم مني ما أريد إيصاله إلى الناس.

جاء اليوم لكي نتبادل المواقع فأنا من يحكي حكايتها، وأنا الأكثر منها معرفة بالأشخاص والملابسات، (دفتري فيه نصف حكايتها، وسأكمل الباقي من خيالي)، وصلت إلى قناعة بأن كل إنسان له وجهة نظر فيحكي حكايته من خلالها. وجدتها من بعد أن فقدتها، أحسست بأني شارفت على أن أضع نهاية منطقية لقصة بقيت تؤلمني، وما زالت بدون نهاية، تسير في داخلي، وتصير بيّ كأني بلا دم، أو الدم الذي يسري فيّ هو دمها، فأنا لا اكتب أي شيء سوى أنني اكتبها لأني متلبس بها، أو هي متلبسة بي، صرت على قناعة تامة، فليس لي وجود أن لم يظهر وجودها، فقد اختفت سحنتي وصرت بلا ملامح وصارت ملامحي هي ملامحها فكيف لي أن أسير بملامح ليس لي، وكيف لي أن أحيا حياة ليست لي كلما لي يسمها باسمها، ولا امتلك كيانا إلا كيانها، كنت ابحث عنها لأني أريد أن اكتبها من بعد قضت مضجعي وتمكنت مني ومن جسدي وأنتشر منها في كلما تمنيت أن يكون منشرا، واخلص بنتيجة بأنني وجدت ذاتي وكينونتي، ويوم كانت تحدثني يتشعّب الموضوع، بشجونه.

كنا نقبض على وقتنا بكل تركيز، ونستمع لبعضنا.. هي تحكي لي قصتها المثيرة، وأنا ادخل في تفاصيل صوتها الذي ما سمعت مثله وهو يتناغم ويسرد لي سرداً منغماً بالموسيقى المنظمة التي يقودها عقلها كأنها سيمفونية راقية تغمرني نشوة.. ولكن زحام الشارع ولغطه المتناقض تسلب الإنسان متعة التركيز، ويصبح كمن قد شحّ الأوكسجين وصار متناقصاً..

 بالرغم من أنني لم أنس أيّ تفصيل مما سمعته منها عن تفاصيل حياتها. بتّ عارفا بما آل إليه مصير زوجها الثاني الذي هو أيضا لم يترك قصتها هدرا فقد أنسلّ ليلاً إلى دار غريمه وتركه مقطع الأوصال بسكين...

تدخل التفاصيل الكثيرة في ثقب ضيق، وبلحظة ما يهيجها شيء ما، يشعلها، تودّ الاندلاع بلحظة لا تحتمل التأجيل.. تودّ الخروج كلها دفعة واحدة كأنها تريد أن تبلّ الورق بحبرها، أو تنفجر، ومكمنها الدماغي لم يعد يسعها.. كيف لي أن اكتب كل هذا الزخم، وأنا اغرق في كمّ من فوضى الأحداث..

اكتب كل مرة جديدا وأضيفه كأني الكاتب المحدود الخيال، ولا أجيد القبض على الفكرة التي تمور في الذهن مورانا غريبا، إذ يفيض علي الواقع احدثا لا يطولها الخيال، اكتشف بأني لا امسك إلا ذرة غبار، يستدرجها النسيان، والحبر..

صرت كمن يسبح عكس التيار..

8       

كنت بكل خطوة إليها.. يتسارع نبض قلبي كأنه طائر في قفص استشعر خطرا، أو فرحا، أو شيء غير معتاد، وكنت ارتجي أن لا تكون هي ذاتها التي اختفت وطمست في لجّ عميق، هل ستكون هي تلك المرأة صاحبة الرأي السديد، وهي تنصح الغادي والعادي في كيفية حل مشاكله العائلية.. أقول الرأي السديد لأنها كانت تخرج عن نصي الذي اكتبه، تهلل بكلمات اكبر من كلمات الإعداد الذي كنت اعده لها، هملت الكثير منه، وإضافت الكثير بحضور صوتها الواضح النبرات، المدلل، الغنج، الضاحك، يكشف جمالا لا يفوق جمالها، وقوفا آو تنهيدة أو شيء آخر فيكون المستمع قد وصلته شحنة أمل غير معهودة كلمة فرحة تجعله ينتشي ويستقيم إلى مساره العائلي أكون أنا صفرا على الشمال في معادلتها العصية فكيف اكتب أجد كتابتي عنها أو بها هي كلي ووجودي ارتجف في كل جملة اكتبها وكأني اكتب لها في كل مرة، وكأنه للمرة الأولى وصرنا ثنائيا طيبا لهما الجمهور العريض، صار النجاح تلوّ النجاح يتقدم، بحلاوة لمساتها وحسن ذوقها، لأنها تعطي الكلمات روحا من روحاً فتطير لتستقر في قلوب مستمعيها، يوم عرفتها صرت (مخرجاً ومعّداً) مرموقا يسندون إلي أهم برامج الإذاعة تيقنت باني لم أنجح إلا بها، ولم تنجح إذاعتنا ببرنامجها..

9       

الخطوات إليها بتثاقل وكأني سأفقد كل شيء أعول عليه عندما تكون ليست هي، أنا أسير إليها متحديا ومحبطا في غاية التعاسة بأكثر مما أكون به.. ستكون خطوتي لها وحدها فلم يعد في العمر من بقية، صارت هدفي وأملي فأنا ما كنت يوميا أتخيل بأني أراها أو المحها.. يراودني شعور بأن من رأيت لم تكن سوى امرأة غيرها، ولكني ارفض بكل ما عندي من ثقة بأنها هي وأنا لستُ مخطأً أبدا، فهكذا احتمال نتاج هكذا زحمة، فأنا من لا يخطأها.. فليس عندي اي مبرر لما أنا فيه فكلما أردت كتابتها أقف تائها، فأرى موضوعها يشقيني شقاء لا يمكنني وصفه، فهو من جانب من السهل البدء به إلى درجة أنه سأنتهي ما أن ابدأ به، ونفس اللحظة يطول التفكير به فلا اجد بداية تصلح لان ابتديء بها. بعد ان بات موضوعها كبيرا، ولا يمكنني كتابته بيسر.

 أحيانا تنتظر الكاتب لحظة ما، وتشعل كل شيء لينطلق مدافعا عن فكرته ورؤيته، وأن يمسكها، ليحقق انجازه.

صرت اعرف بان كاتباً بلا جرأة لا يمكن له يحقق لذاته نصرا على ذاته، فالكتابة مهما كانت لابد وأن تتوج برواية الواقع.

تعني لي أن المرء قد اصطاد لحظته الذكية التي بإمكانه أن يكتبها.. بأنه أنجزها، وما بين الصفحات تسكن وأنه يستطيع أن يريها لمن يُحب، فالكتابة أشبه بدمع يحتقن بالعين، ولا ينهمر، فأنا ما أن رايتها حتى وجدت دمعتي قريبة إلى عيني وأنها أوشكت على الهطول لأني قد رايتها مجددا من بعد أن ضيعتها في السابق.

10                        

وجدتني قريبا منها فأصبحت على يقين بأني أفلتها أضيعها من جديد وإلى الأبد.. فهي لن تجلس (مكومة).

هكذا جلسة تعني انكسارا، وما تمنيت أن أراها هكذا، فقد أثارت في شعورا غريبا غير مفهوم ورحت متضائلا شيئا فشيئا كمن ينكمش خجلا، كأني خالقها (كمؤلف) لست قادرا على وضعها بحال أحسن مما هي فيه الآن، فقد وصلت للشهرة.. بأكثر مما كانت تحلم ان تصل اليه.. صارت بطلة يقف عندها الروائيون الكبار، والأكاديميين.. تشق الحكايات الكبرى لترتفع من بين الرفوف وتصيرت محطة.. بقي اسمها سؤالا جادا، يميز نفسه بعلامة فارقة كبيرة.. لقد صارت بين الاجيال الجديدة، التي احدثتها الانقلابات في اغلب مفاصل الحياة.. صارت امرأة تنهض من بين الكم الكبير الذي جمعته انظمة الذاكرة الإنسانية الكلية، صارت فحوى من المعاني، والابداع يحوي عبيرا فائق الذكاء يفوح من مسامات المحيط، فيغير الاتجاهات، ويوسع في ضيق الامكنة.. اسمها صار انقلابا في هيكلة النتاج الادبي لانها صار معنى ووجود قبل ان تحرر من مساحة الورق المدونة عليه.. صرت ارى الغيوم المتدافعة في السماء ترسم صورتها، وصرت اكلمها عبر محطات الاتصالات الفائقة السرعة، تطل على من شاشة المحمول جلية بكل عنفوانها لتقول انا انموذج جديد من ابتكار مدهش ابتدعني الانقلاب على المألوف فصرت باسقة ثابتة الجنان..

ليس من حقي ان أحلم (كمؤلف)، متهربا من المسؤولية، بعد ان اشرت. ولكني لم افصح. الكتابة امانة يجب ان تصل الى القارئ ويكون الكاتب مقنعا بكتابته، والا سلة الاوساخ اجدر بأوراقها وحروفها.. 

ولم أكن قد رايتها أو كنت أراها في بين يقظة او نومه، وما أنا إلا مريضا محموما، غير واع من بعد ان اختلطت عندي الأشياء، بالأوهام.. ككل يوم، والأحلام هي ذاتها ككل ليلة..

بعد ان نزلت من سيارة الاجرة هل اكملت مكملا مسيري.. كأني كنت مرتجلا الخطوة، والفكرة، ومتحسسا لقلمي اكثر، وانا احدق في وجوه النسوة اللاتي يمرنّ بي؛ بحثا عنها...

 

محمد الأحمد

...........................

* كاتب من ديالى/ آخر الاصدارات مجموعة قصص (فرن الخواجة)، عن الورشة الثقافية في بغداد.٢٠١٩.

 

 

في نصوص اليوم