نصوص أدبية
الحلم
(معارضة لنونية ابن زيدون)
آنَسْتُ نُورَكِ مُذْ أَغرَى لَيَالِينَا
بِالشَّهدِ والوَردِ يَا أَغلَى أَمَانِينَا
لُمتُ الظَّلامَ الَّذِي مَا كُنتُ أَعرِفُهُ
إِلَّا دُمُوعاً أُرِيقَتْ مِنْ مَآقِينَا
دَربٌ مِنَ الشَّوقِ نَحوَ الصُّبحِ يَأْخُذُنِي
مِنِّي إِلَيْكِ إِلى أنْ تُشرِقِي فِينَا
كَتَمتُ تَحتَ ضُلُوعِي كِلْمَةً، عَجَزَتْ
عَن وَصفِهَا لُغَتِي، فِيهَا تَأَسِّينَا
تَاجٌ عَلَى رَأسِ أَشعَارِي يُزَيِّنُهُ
حَرفَانِ مِن رَوْضَةِ النِّسْرِينِ تَزيِيِنَا
وهَلْ سَتَنعَمُ أَشعَارِي بِحَاضِرِنَا
إِلاَّ إِذَا نَهَلَتْ مِنْ فَيضِ مَاضِينَا؟!
رُوحِي فِدَاؤُكِ يَا مَن بِتُّ أَعشَقُهَا
ولَم يَجُلْ فِي خَيَالِي أَنْ تُجَافِينَا
هِيَ المَحَبَّةُ جَلَّ اللهً خَالِقُهَا
قَد أَنبَتَتْ فِي قُلُوبِ الخَلقِ نِسرِينَا
شَمسٌ بِأُفْقِيَ قَد أَرخَتْ جَدَائِلَهَا
عَلَى الظَّلامِ، وجَاءَتْ كَي تُدَاوِينَا
مَدَّتْ إِلَيَّ يَداً، مِن طِيبِ مَلْمَسِهَا
نَسِيتُ أّيَّ جَفاءٍ كَادَ يُفنِينَا
سَلَّمتُ بِالعَينِ قَبلَ الكَفِّ فَاْنصَهَرَتْ
عُيُونُنَا فِي عِنَاقٍ غَاظَ وَاشِينَا
الدِّفءُ فِي يَدِهَا، والطُّهرُ فِي دَمِهَا
والعِطرُ فِي فَمِهَا يُهدِي الرَّيَاحِينَا
لا زِلْتُ أَذكُرُ إِذ جَادَتْ بِضِحكَتِهَا
والَّليْلُ سَاجٍ وصَمتُ اللَّيلِ يُغرِينَا
دَاوَتْ بِقَلْبِيَ هَمّاً قَد شَقِيتُ بِهِ
مُذْ كَشَّفَتْ دُرَراً فِي الثَّغرِ تَسبِينَا
يَا لَلجَمَالِ الَّذِي أَبصَرتُ طَلْعَتَهُ
فِي وَجهِ مِن سَبَحَتْ فِيهَا مَعَانِينَا
نِيلٌ إِذَا مَنَحَتْ، نُورٌ إِذَا ضَحِكَتْ
شَهدٌ إذَا نَطَقَتْ، تَسمُو قَوَافِينَا
رَأَيْتُ نَفسِيَ فِي لَيلٍ يَطُولُ بِنَا
كَمَا يُرَى البَدرُ فَرداً فِي دَيَاجِينَا
الشَّمسُ تَمنَحُهُ نُوراً يُشِعُّ بِهِ
كَي مَا يُسَامِرُ فَي الَّليلِ المُحِبِّينَا
غَرِيبَة هَذِهِ الأَيَّامُ تَحرِمُنَا
مِمَّنْ نُحِبُّ ومِمَّنْ أَثَّروا فِينَا
بَحرٌ يُقَرِّبُنَا مِنهُم، ويُبعِدُنَا
مِنْ دُونِ أَشرِعَةٍ عَنهُمْ ولاَ مِينَا
شَتَّانَ مَا بَينَ مَن مُتْنَا بِهِم عَطَشاً
و بَينَ مَن غَمَرُوا بِالحُبِّ وَادِينَا
مَاذَا سَتَكتُبُ أَشعَارِي إِذَا وَصَفَتْ
مَن أَسعَدُوا الكَونَ أَقوَالاً وتَبْيِيِنَا
سَأَلْتُهَا، قَالَت الأَشعَارُ عَاجِزَةً :
لَنْ نَستَطِيعَ لَهُمْ وَصفاً يُوَافِينَا
النُّورُ يَنبُعُ مِن عَيْنَيْكِ مُلهِمَتِي
فَكَيفَ أَمنَحُ لِلأَنوَارِ تَزْيِيِنَا ؟!
لا تَعجَبِي، فَالهَوَى لَوْ زَارَ صَاحِبَهُ
يَهِيمُ حِيناً وقَد يَهذِي أَحَايِيِنَا
قَلبٌ كَقَلبِكِ أَهوَى أَن أَعِيشَ بِهِ
فَمِثلُ قَلبِكِ بَعدَ المَوتِ يُحيِيِنَا
صَوتُ كَصَوْتِكِ تَهوَى الأُذْنُ نَغْمَتَهُ
مَاذَا سَيُنشِدُ بَعدَ السِّحرِ شَادِينَا؟!
يَمَّمتُ وَجهِيَ نَحوَ البَيتِ خَاشِعَةً
جَوَارِحِي، وجَلالُ البَيتِ يُغشِينَا
دَعَوْتُ رَبِّيَ أَنْ يُبقِيكِ لِيْ سَنَداً
فَرَدَّدَ النَّبضُ فِي الخَفَّاقِ: آمِينَا
هِيَ الحَيَاةُ أَذَاقَتْنَا حَلَاوَتَها
حَتَّى دَعَا لَكِ قَاصِينَا ودَانَيِنَا
أَيقَنْتُ أَنِّيَ مَهمَا طُوِّعَتْ لُغَتِي
يَظَلَّ شِعرِيَ فِي عَيْنَيْكِ مِسكِينَا
يَا لَيْتَهُ كَانَ يَسْطِيعُ القِرَاءَةَ فِي
سِفرِ العُيُونِ، ومَا فِي القَلبِ تُخفِينَا
قُرآنُ رَبِّيَ يَحكِي عَن مَلَائِكَةٍ
للهِ لَوْ أُمِرُوا، جَاؤُوا مُلَبِّينَا
و قَد رَأَيْتُكِ فِي الأَحلامِ فَاتِنَتِي
مَلْكاً عَلَى الأَرضِ فِي الأَنوَارِ تَمشِينَا
نُبِّئتُ أنَّك جئتِ الأَرضَ مُرسَلَةً
مِنَ السَّمَاءِ بِأَخلاقِ النَّبِيِينَا
تُوحِينَ لِلنَّاسِ أَن ثُوبُوا لِرُشدِكُمُو
وسُقتِ فِي نُصحِكِ الغَالِي بَرَاهِينَا
أَستَغفِرُ اللهَ مِن قَولٍ بِهِ شَطَطٌ
فَإِنَّ لِلشِّعرِ شَطْحَاتٍ تُوَاتِينَا
لا تَعتِبِي إِنْ رَأَيْتِ الشِّعرَ يَأْخُذُنِي
لِمَنْ تَخِذْتُ هَوَاهَا فِي الوَرَى دِينَا
نَقَشْتُهَا فَوقَ صَدرِي قِصَّةً بَقِيَتْ
وَضِيئَةً فِي المَدَى تَمحُو مَآسِينَا
وَهَبتُها الرُّوحَ، إنَّ الرُّوحَ أُمهِرُهَا
لِمَن إِذَا جُرِحَتْ فَالجُرحُ يُدْمِينَا؟
رَضَعْتُ فِي المَهدِ نِيلَ الطُّهرِ مِن يَدِهَا
وهَل كَمَا النِّيلُ مِن نَهرٍ يُرَوِّينَا
وطُفتُ مِن شَرقِهَا لِلغَربِ مُنْتَشِيَاً
رَأَيْتُ أَزهَارَهَا تَكسُو رَوَابِينَا
مَا زِلتُ أَذكُرُ لَهوِي فِي مَرَابِعِنَا
وذِكرَيَاتِ شَبَابِي فِي ضَوَاحِينَا
لَيتَ الَّذِي مَرَّ مِن عُمرٍ يَعُودُ لَنَا
لَكِنَّهُ الشَّيبُ يُنْسِينَا أَمَانِينَا
يَجِيءُ غَصبَاً فَلَم نَمنَعْ زِيَارَتَهُ
ويَنثُرُ الفُلَّ فِي الفَوْدَينِ، يُغرِينَا
كَأَنَّنَا بَعدَمَا أَضحَتْ كُهُولَتُنَا
نَقشاً بِحَاضِرِنَا، نَشتَاقُ مَاضِينَا
تَاللهِ لَم أنسَ مَا قَد كَانَ يُضحِكُنَا
كَلَّا، ولَم أَنْسَ مَا قَد كَانَ يُبكِينَا
قُولِي أُحِبُّكَ كَي مَا أَستَظِلُّ بِهَا
عَسَى تُهدِّئُ فِي القَلبِ البَرَاكِينَا
لَستِ البَخِيلَةَ حَتَّى تَحرِمِي وَلِهَاً
يَحيَا بِهَا عُمُراً لَوْ كُنتِ تَدرِينَا
بَيْنِي وبَينَكِ بَوْنٌ شَاسِعٌ ومَدَىً
و كُلُّ أَشرِعَتِي أَضحَتْ بِلا مِينَا
جَمِيلَةٌ بَعضُ أَحلَامِي فَقَد زَرَعَتْ
فِي أُفْقِ أَخيِلَتِي الأَعنَابَ والتِّيِنَا
مَنَحتُهَا مَن بِهَذِي الأَرضِ قَد حُرِمُوا
حَقَّ الحَيَاةِ مَلايِيِناً مَلاَيِيِنَا
الحُلْمُ يَا رَبَّةَ الأَحلامِ يَحمِلُنَا
عَلَى جَنَاحِ أَمَانِينَا فَيُحيِينَا
لَيتَ الحَيَاةَ كَمَا الأَحلامُ نُبصِرُهَا
وَردِيَّةَ الرَّوضِ، تَرعَاهَا أَيَادِينَا
لاَ خَوْفَ، لا فَقرَ، لا أَوجَاعَ تَسكُنُهَا
لا حَربَ، لا مَوتَ تَرعَى خَيْلُهُ فِينَا
مَا عَادَ يَشغَلُنِي مَا قِيلَ مِن زَمَنٍ
(أَضحَى التَّنَائِي بَدِيلاً مِنْ تَدَانِينَا)
رَسَمتُ يِا أَنتِ مَا قَد فَاقَهُ لُغَةً
بِلا غُرُورٍ، ولَم تَعجَزْ قَوَافِينَا
سَكَبْتُ كُلَّ أَحَاسِيسِي عَلَى وَرَقِي
فأَوْرَقَتْ فِي فَضَاءَاتِي أَفَانِينَا
يَوماً وَعَدْتُ إِذَا " وَلَّادَةٌ " رَجَعَتْ
إِلَى الحَيَاةِ لَجَاءَتْ كَي تُحَيِّيِنَا
واليَومَ وَفَّيتٌ وعداً قَد قَطَعتُ عَلَى
نَفسِي، وعَارَضْتُ مَا قَد كَانَ يُشجِينَا
***
شعر : د. جمال مرسي
15/2/2018م