نصوص أدبية

سكِّيرُكِ القديم

سكِّيرُكِ القديم

باسم الماضي الحسناوي

***

1-

أنا ذاتٌ كأمَّةٍ من سَرابِ

أوْ كتلويحةٍ بكَفِّ عَذابِ

دائماً أدخُلُ الحروبَ وأنسى

أنَّ حربي شاةٌ لــدى قصّابِ

ذي دمائي طعْمُ السُّلافَةِ فيها

فدمائـــــــــي مُعَدَّةٌ للشَّرابِ

أيُّ معنى لأن أعيشَ طويلاً

وأنا محضُ فكــــرةٍ للتُّرابِ

لم أحسَّ الحضورَ في أيِّ شيءٍ

بل شهدتُ الغيابَ فوقَ الغيابِ

ذا جمالٌ لا أنكِرُ الحَقَّ لكنْ

ذا جمالٌ يَسيرُ نحــــوَ تَبابِ

بخيالي ارتجلْتُ رمْلَ الصَّحارى

فعَلا في دَمــــــــي عواءُ ذِئابِ

2-

يخطبُ الغيمُ: قالَ إنِّي جَهامُ

ولهذا حبيبتي الأوهــــــــامُ

يخطبُ النَّومُ: قالَ إنِّي جبانٌ

ولهذا عشيقتي الأحـــــــلامُ

يخطبُ الرأسُ: قالَ إنِّي خيالٌ

ولذا ضيِّقٌ بأفْقِي الكــــــــــلامُ

يخطبُ السَّيفُ: قالَ إنِّي صهيلٌ

للمنايا فغارَ منِّـــــــــي السَّلامُ

يخطبُ الجوعُ: قالَ إنِّيَ زادٌ

ليسَ فيهِ ذلٌّ فبئسَ الطَّعــــامُ

يخطبُ العشقُ: قالَ إنِّي نهارٌ

كربلائيٌّ حيثُ ماجَ الغرامُ

لا نهارٌ يجيءُ إلا ذَليلاً

لنهارٍ هوَ النَّهارُ الهمامُ

3-

كنتُ طفلاً فكنتُ ألهو كثيراً

بنجومٍ دحرجتُهنَّ إزائي

لم أكن أحسبُ النجومَ نجوماً

كنَّ يشبهنَ زمرةً من نساءِ

حينما أشتهي الرَّضاعةَ منهنَّ

يقرِّبنَني من الأثداءِ

كانَ طعمُ الحليبِ بالضَّبطِ سيفاً

حزَّ رأسَ القرآنِ في كربلاءِ

يا إلهي كبرتُ من بعدِ هذا

وتفهَّمتُ حشرجاتِ دمائي

وتأوَّلتُ كلَّ شيءٍ أراهُ

بعطاشى يقاتلونَ وماءِ

أنا يا ربِّ لستُ أملكُ رأساً

إنَّ رأسي محلِّقٌ في سمائي

4-

راغباً أن أموتَ أفتحُ صدري

في حروبي لوابلٍ من سهامِ

كم أصابت صدري الشُّجاعَ سِهامٌ

دونَ أنْ تسمحَ الوَغى بحمامي

حينَ أنجو يكونُ حبّي مريباً

فهو يحتاجُ ضربةً بحسامِ

أو رماحاً تجيءُ من كلِّ صوبٍ

حاملاتٍ أسنَّةً من زؤامِ

إنَّني أبكمُ اللسانِ، اختياراً

لا اضطراراً هجرْتُ حرَّ الكلامِ

ذاكَ أنِّي احتطبتُ عمري احتطاباً

فخيالاً أعيشُ بينَ الأنامِ

أنا ناديتُ حينَ أبصرتُ نفسي

بيدَ أنِّي أضعتُني في الزَّحامِ

5-

كانَ حبِّي السلافَ لي قبلَ هذا

ثمَّ أمسى الحبُّ العظيمُ حجابا

خذ حجابَ الغرامِ عنِّي بعيداً

وأعدْ يا نديمُ ذاكَ الشَّرابا

لم أشأ أن أنالَ نشوةَ سكري

بارتشافِ الجمالِ إلا اغتصابا

إنَّ حباً أحبُّهُ ليس حباً

خانعَ الروحِ بل يكونُ انقلابا

ولهذا تسلُّني كحسامٍ

وتعيدُ الحسامَ، يأبى القرابا

ابتعِدْ عني فالمسافةُ عندي

كلَّما قد نأيتَ زدتَ اقترابا

أيُّ ضيرٍ حينَ النوافذُ تبقى

مشرعاتٍ أن توصدَ الأبوابا

6-

أنا أرجوكِ أنْ تغيبي طويلاً

فإذا غبتِ داهمَتْني الخمورُ

انا سكيرُكِ القديمُ، سَليها

عن كؤوسي، لكي تجيبَ الدّهورُ

أنتِ دوري حولي لأنِّيَ شمسٌ

وجميعُ النجومِ حولي تدورُ

عذتُ باللهِ أن تشائي وقوفاً

في مدارٍ أو أن يكونَ فتورُ

لا مجالٌ أن يستمرَّ وجودُ

الكونِ إلا بأن يضجَّ شعورُ

فإذا أنتِ قلتِ لا أبتغي العِشْقَ

فإنَّ الكَوْنَ الرَّحيبَ يَغورُ

عانِقيني لكي أكونَ فضاءً

ألمعيّاً والكائناتُ الطيورُ

7-

صخَبٌ دائمٌ، ضجيجٌ، عَويلُ

قبرَ قطْبٍ مقدَّسٍ أستحيلُ

حجَّ للقبرِ زمرةٌ بعدَ أخرى

من دموعٍ يؤمُّها جبرئيلُ

لي نجومٌ في القبرِ، لي أمنياتٌ

لي حديثٌ معَ النِّساءِ طويلُ

أصدقائي نسيتُهم بعدَ دَفْنِي

فصديقي الوحيدُ مَوتٌ جميلُ

يأمرُ اللهُ أنْ يكونَ سعيراً

فسعيراً يكونُ قلبٌ عَليلُ

يأمرُ اللهُ أنْ يكونَ جناناً

فجناناً يكونُ عمرٌ هَزيلُ

لا كثيرٌ إلا أنا باعتقادي

والوجودُ العريضُ نزرٌ قليلُ

8-

لا تكوني شبيهتي يا فتاتي

مستخفٌّ أنا بمعنى حياتي

إذ تشمِّينَ وردةً ذاتَ صبحٍ

فهيَ واللهِ طفلةٌ من بناتي

احمليها على يديكِ برفْقٍ

وأريها الحنانَ كالأمَّهاتِ

خاطبيها برقَّةٍ حينَ تبكي

وهيَ تهفو لقبلةٍ من رفاتي

كلُّ قبرٍ ترينَهُ هوَ قبري

ذاكَ أنِّي زرعتُ بذْرَ وَفاتي

فنما زرعُها وصارَ حقولاً

جارياً فيها سلسبيلُ فراتي

كلُّ أنثى أطعمتُها من ثماري

أصبحت بعدَ ذا منَ الشّاعراتِ

***

باسم الماضي الحسناوي

في نصوص اليوم