نصوص أدبية

تأشيرة الغاب

في غوْر الغابة المحتجِبة عن ضياء القمر المتأرجح بين الأوراق المتكاثفة عند قمم الأشجار، وبين الأحراش والأشواك المنغرزة في الساقين والحذاء المتهرئ يواصل السير الحثيث حينًا والهرولة، متلقفة الأنفاس، الجانحة إلى التحليق أحيانًا للهروب من أنوار المصابيح اليدوية المهتزة بين قبضات حراس الحدود المتعقبين أثره في تلك البرية الشاسعة، تحاذيها فوهات الموت متفرقة الأزيز هنا وهناك.

هناك، حيث كان يستند مقرفصًا وراء كتلة صخرية ضخمة، تمَنى أن تفتح له كوةً تضمه في جوفها بمعزلٍ عن الوجود والأنياب الوحشية، يهجس تحفزها للانقضاض عليه هي الأخرى في أي لحظة، والعويل الحاد يعبر الريح العادية نحوه.

هناك، على وقع مصباحها اليدوي ورشاشها الصغير المصوَّب نحوه، وعلى بعد خطوات معدودة، جمَعها ذعر الأعين برجل الغاب، الكنية التي ظلت تطلقها عليه، أول كلمتين تعلم نطقهما من اللغة الغريبة عنه، ككل ما حوله.

***

حفر بمسحاةٍ ينعكس عليها ضوء مصباحها اليدوي الذي لم يتوقف عن الارتجاف في يدها الرخوة، حال الرشاش في اليد الأخرى.

كان شخصًا آخر سواه، أشخاصًا آخرين، هم من قاموا بحفر قبر ولدها المصلي بالرصاص من الخلف ودفنه، وتوزعت عليهم مشاعر الخوف والتيه وأضغاث أحلام الليالي الثلاث التي أمضاها في مخزن منخفض السقف، أقرب إلى قبوٍ معتم لا يصله الهواء إلا عبر فتحة ضيقة، ملحق بكوخها الصغير، بالكاد وجد في جانبٍ منه فسحة لفرد الفرشة المهلهلة التي رمتها عند قدمه وبطانية صوفية ثقيلة تدثر بها بعض الصقيع المستأذب في خلجاته، ثم أحكمتْ إيصاد الباب الحديدي.

استفاق على لكز فوهة سلاحها تكوُّر جسده، تأمره بحركةٍ عصبية من يدها ووجه سجانٍ عابس النهوض، أعطته بعض الطعام الذي التهمه جوعه دون تذوٌّقٍ لطعمه، أشارت إليه أن يغتسل ويحلق لحيته الشعثاء، ثم يرتدي الثياب التي وضعتها ـ ذات مقاسه تقريبًا ـ على عتبة باب الحمام البدائي، والرشاش الصغير، قديم الطراز، لا يفارقها، مع ذلك كان توَجسها منه يفوق توَجسه مما قد ينتظره، ارتباكها الذي حاولت مواراته ما تستطيع أخبره أنها لن تقوى أو تجرؤ على إطلاق رصاصة واحدة ولو غافلها بحركة سريعة لتجريدها إياه، دون أن يخطر في باله إنه كان فارغ الذخيرة، لكنه لم يجسر على القيام بمغامرةٍ جديدة، قد تستعجل حذفه بعد كل ما واجه، مستسلمًا في خضوعٍ تام، أشبه بالتنويم المغناطيسي، لتنفيذ أوامرها (البكماء).

وجهها تحت النور الشحيح للمصباح المتدلي من سقف صالة الكوخ الحجرية الصغيرة، الخاوية من الأثاث تقريبًا، كتلة عجين محززة بأخاديد العمر، عيناها الذبيحتان بسكين الخذلان المسمومة تحدِّقان طويلًا في ملامح وجه الغريب الذي عثرت عليه لدى بحثها عن جثة ولدها المعلَّقة صورته المحتفية بنسيم ربيع العمر وبهجة حيويته وسط جدار أسندت رأسها إليه، وكأن الغابة قررت استبدالهما ضمن لغزٍ قدري شديد الغرابة، ظل صمتهما يدور في حلقات ريبته دون إيجاد وسيلة للتفاهم عما يحدث سوى لغة الإشارة وتعابير الوجه والحركات التمثيلية كما لو كانا يمثلان في مسرح إيمائي.

لم تكن لها صلة بالمهرِب الذي اختفى فجأة عند لمح جندي من حرس الحدود، مخلِّفًا أكاذيبه عن مدى معرفته بكلٍ منهم ونصيبه من كل عملية تهريب أو تسلل عبر الغابات المنفية من الحياة، وإلا لهتفت بمطارديه كي ترشدهم عن مكانه، أو سلَمته إلى رجال الأمن السياسي الذين تباهوا بقتل ولدها أثناء محاولته الهرب، محذرين أهالي البلدة الصغيرة من مغبة البحث عن جثة الخائن المتمرد ومواراتها الثرى وإلا لنال الفاعل ذات العقوبة بتهمة عصيان أوامر السلطة الحاكمة باسم الشعب.

اشتد توَجس مسراهما في سَجَو الليل، كاللصوص، لدى البحث الطويل والشاق عنها في جوف الحوت قبل أن ينخرها العفن أو تتسابق الحيوانات المفترسة إلى التهامها.

عند عودتهما اللاهثة، كشبحين يتخفيان بين ثنايا الظلام، نحو الكوخ المسوَّرة حديقته مربعة الشكل بأشجار النارنج فواحة الرائحة ألقت بالرشاش وبالشال الذي كانت تتلفع به على الطاولة الخشبية المضعضعة ودخلت غرفتها لتلقي بجسدها المنهك فوق فرشتها وتغط سريعًا في النوم بلا أن تبالي لرد الباب وراءها، ولا لأمره.

فكر بالهرب، الفرار من الورطة الجديدة التي وجد نفسه منغرسًا في مخاطرها، لكن الدوار الذي سكن رأسه والألم القابض على أطرافه طرحاه على إسفنج الكنبة المواجهة للنافذة المطلة على بحرٍ شاسع من الظلمة الحالكة، أشبه بفاقدٍ للوعي.

أيقظته عصر اليوم التالي امرأةٌ أخرى، مفعمة بالحيوية والحنو الأمومي المنفلت من أي هوية، الابتسامة الغريبة عن وجهها المترهِّل تتشبث به، تكاد لا تفارقه، على الطاولة عدة أصناف من الطعام والفواكه التي قطفتها من أشجار الحديقة، مع زجاجة نبيذ أحمر معتَّق شرباها حتى الثمالة، خاف أن تأتي رشفاتها الانفعالية على حياتها البائسة، خاصة بعد رقصتها ـ التي تشبه رقصات بلاده الفلكلورية إلى حدٍ ما ـ المتطوِحة والمتقافزة أمام دهشة نظراته في نشاط شابةٍ عشرينية تحتفل مع صديقاتها بليلة زفافها، تلاحق سقوطها على الأرض وحمل جسدها ضئيل الحجم بين ذراعيه باتجاه غرفتها، دثرها باللحاف، كانت مغمضة العينين، فيما ظلت وداعة ابتسامتها تحيي حفل وجيب قلبها الثمل بانتصاره على الأوامر الحزبية الصارمة، لم يكن لمتسلل عبر الحدود التواري عن سطوتها في مثل تلك القرية الصغيرة لمدةٍ طويلة، إلا إذا كان الحظ حليفاً لا يبيِّت نية الغدر لصاحبه.

هواجسها استبقت هواجسه، لم تكن تود مكافأة الغريب على صنيعه، ولو تحت تهديد السلاح الذي يتناوشه الصدأ، بقدر رغبتها في تعويض شيء من عجزها عن انقاذ شباب ابنها الفتي من القتل دون محاكمة.

احتجزته أيام ثقيلة في سأمها، رغم كرم الضيافة، أعادت إليه وحشة المعتقلات المتلصصة على الدنيا من خلال فتحة ضيقة ملاصقة لسقوف الزنازين المظلمة العالية، خاصةً عند مغادرتها في الصباح الباكر حتى أصيل الغروب، لا يصله خلالها سوى أصواتٍ بعيدة تتلاشى عند خوار البقرة المربوطة في الزريبة الخلفية للكوخ، أو ضجيج الديك ودجاجاته داخل قفصهم المركون إلى سورٍ طيني مائل كما لو كان على وشك الانهيار، كانت تلك الزريبة أو مخزن المؤونة ملجأه ما أن تطرق الباب إحدى أو بعض النسوة اللواتي يطلنَّ الجلوس على أعصابه لمواساة الأم المكلومة ما بين تأوهات وبكاء يعلو إلى النشيج من حينٍ لآخر، وتهامس حول المتسلل الجديد الذي تبحث قوى الأمن في البلدة والبلدات المجاورة عنه، غير مستبعدات تفتيش البيوت.

***

أوعزت إليه أن يمشي وراءها ذات فجرٍ نحو حوض شاحنةٍ يقودها صديق ولدها المقرَّب، دون أن تحاول سؤاله، بالإشارة طبعاً، عن الوجهة التي يسعى إليها، أوصد عليه بابه بسرعة ليواري عنه لمعان عينيها المغرورقتين بحنو الدمع وكفها المشقَّق يلوِح له بالوداع.

حوض الشاحنة المغلق قبرُ تبددت بعض ظلمته مع تمدد خيوط الضياء عبر تقاطعات أسلاك الشبابيك الصغيرة الغليظة، ود لو أن السائق يبطئ قليلاً كي يتسنى له استنشاق فوح الريف السابح بنقاء عبقه المتجدد عند كل صبح، مرَّت نظراته خطفاً على المروج الفسيحة، يجوبها إبكار الرعاة في السعي وراء أغنامهم، يرنو بعضها صوب البحيرة المذّهبة بإشراق الشمس، تختفي وتلوح لناظريه عن بعد بين مسافةٍ وأخرى، والحقول المسيجة بالأسلاك الشائكة للجمعية التعاونية شاسعة المساحة التي كان يعمل فيها ولدها مزارعًا بسيطًا، كثرت مشاجراته مع مراقب العمل، وصلت حدتها إلى مشرفي الإدارة، من ضمنهم كان الرفيق البارز في المجلس البلدي، اتهمه ومرؤوسيه الممجِدين عرق العامل والفلاح باستغلال النفوذ وسرقة حقه وبقية المزارعين من خلال بيع جزء غير قليل من المحصول لحسابهم الخاص في السوق السوداء و..... وتكفي حكاية مثل هذه لتفضي إلى ما وجده في انتظاره ما أن وطأت قدماه أرض البلد الغريب.

جثته كانت مسجاة إلى جانبه، حيث عاود الاستلقاء في جوف شاحنة نقل المحاصيل الزراعية الفارغة، شعر بها، بل عبرت أنفه رائحة الجسد المضرَّج بدمائه المتيبسة، تتوغله رطوبة الأرض الطينية، هدهدتْ وحركة السيارة مستمرة الاهتزاز جفنيّ الرجل المطارَد عبر كل حدود اجتازها، قادتا تذبذب غمضهما إلى غفوات اختزلت المسافات الفاصلة بين مدينةٍ وأخرى، لم يستكشف من أمكنتها شيئًا ولم يعرف عدد المرات التي توقفت فيها الشاحنة ولا فتراتها، داغمت عينيه شمس الضحى، بتسلط سطوع المصباح المنضدي في غرف التحقيقات السرية المظلمة، لدى فتح السائق الطويل الأشقر، منمَّش الوجه الخالي من أي تعبير، الباب الحديدي العريض، ترجل من الرحم المترجرج في صعودٍ وهبوط، بالكاد يستطيع الوقوف على قدميه الخدلتين ما بين يقظةٍ ناعسة وذبالة حلم متقطع عند منحنى متفرع من سفح الجبل شديد الانحدار نحو المديتة دائمة الحركة، لم يعرف أنه سيضطر بعد عدة أشهر للاختباء داخل جحوره وكهوفه ومنخفضات أوديته، الغريب المتمرد على سياسة نظام الدولة، جزيرة الحرية التي سعى لأجلها طويلًا عبر مجاهل الحدود، يمر خطفًا مثل شبح في براري أحلامه المهزومة في وطنه البعيد.

بأسرع مما توقعت له عاد، يطارده حرس السلطة، تعثر بالأحجار المركومة فوق القبر الذي حفره، دون أن ينتبه له ولا إلى قبرها المجاور، ثم نهض سريعًا ليواصل ركضه عبر الغابة في درب العودة من حيث أتى، تمطره رشقات الرصاص من الجانبين.

***

أحمد غانم عبد الجليل

كاتب عراقي 

في نصوص اليوم