نصوص أدبية

أحمد بلقاسم: حكاية لوحة

احمد بلقاسمأبغض الدروس لدى الأطفال هي تلك التي يستعملون فيها ذكاءهم، لأنهم يخشون الوقوع في الخطأ أكثر من رغبتهم من تذوق لذة التفوق، و يؤثرون عنها نسبيا دروس الحفظ حفظ الخلاصات والأناشيد، وتنفتح شهيتهم لقراءة النصوص الشعرية أكثر من انفتاحها على النصوص النثرية، لكن حبهم وإقبالهم على دروس الأعمال اليدوية والرسم لا يضاهيهما حب وإقبال.

فما إن ينتهي المعلم من تسجيل كلمة رسم على السبورة حتى تكون قد تلقفتها عيونهم و شرعت أيديهم في إنزال عدة الرسم من أوراق، وأقلام التلوين، ومَبارٍ، ومَماحٍ.

وأسعد اللحظات لديهم أيضا هي تلك اللحظة التي يخيرهم فيها المعلم بين محاكاة رسم من الرسوم وبين إبداع حرّ، ومعظمهم يفضل الاقتراح الثاني، ليعبر عن فكرته دون قيد أوشرط. وعادة ما تكون رسوماتهم محاكاة ما أبدعته الطبيعة من لوحات جميلة، كقوس قزح، أو عصافير تحلق في زرقة السماء تحت أشعة قرص الشمس الذهبية، أو سفينة تمخر عباب بحر أزرق، رفقة سرب من الأسماك الزاهية الألوان.

هكذا استفتح فناننا الصغير حديثه عن تجربته الفنية، فجأة أحجم عن الكلام، دون سابق إنذار واستغرق في لحظة وجوم ماشاء من الوقت، ثم استأنف حديثه من جديد بابتسامة ناصعة أنارت محياه:

- لو لا سوء الطالع لكنت الآن رساما ماهرا، أو فنانا تشكيليا لا يشق له غبار، لكن للأسف الشديد الحظ العاثر حال دون ذلك.

- أية مطبة تعثرت فيها ريشة فنك وتكسرت، وأية صخرة تحطمت عليها لوحات مرسمك؟!

- مادمت تصر على معرفة ذلك، فإليك القصة أو بالأحرى الحدث المثبط كما وقع، ولك أن تحكم في النهاية.

- أن تحكم عليّ إن كان من حقي أن أكون واحدا من رواد نادي الفن التشكيلي أم لا.

- طبعا ستجدني حكما حكيما، هيا، هات قصتك يا فناني العظيم.

- ألم نتفق أن تؤجل الحكم حتى نهاية القصة؟!

- عفوا، اقصص علي قصتك وستجدني إن شاء الله من السامعين.

- حدث ذات طفولة وأنا تلميذ في المدرسة الابتدائية، أن رسمت في حصة الرسم رسما جميلا، انتزعت به إعجاب معلّمنا انتزاعا، ولقد وقع على إعجابه ذلك بعلامة جيدة مشفوعة بعبارة حسن جدا.

- جميل.

- ليس هذا فحسب!

- ماذا أيضا؟

- لقد اشرأبت أعناق زملائي في الفصل إلى ما أبدعته أناملي.

- رائع.

- هذا الافتتان بإبداعي تناقلته الألسن حتى خارج أسوار المدرسة، فكنت لا أفتأ أعيد ورقة الرسم إلى المحفظة، حتى يرجوني زميل أو أكثر لإلقاء نظرة عليها.

- لعلها بل من المؤكد أنها كانت لوحة فنية شغفت الناظر إليها حبا.

- طبعا لقد كانت كذلك، وهذا ما جعلني في النهاية أن أبقيها خارج المحفظة، أمتع بها نظري ونظر زملائي. وفي لحظة لا أدري ماذا أسميها، أهي لحظة سهو أم لحظة افتتان بسحر الفن، طارت الورقة اللوحة من بين أناملي الفتية.

- كيف طارت!؟

- بفعل الريح، وكأن عفريتا خطفها من بين أناملي، وطار بها رويدا رويدا إلى السماء، وأنا في أثرها ألهث، علّني أنتزعها منها وأخلصها من مخالبها، إلى أن..

- إلى أن حررتها من خاطفها أليس كذلك؟

- كلا.

- ماذا حدث إذن؟

-إلى أن وقعت المسكينة من يدي الريح.

- فالتقطتها!

- لا.

- تمزقت!

- لا.

ماذا وقع لها إذن؟

- لقد علقت بعجلة دراجة هوائية.

- أطلقت ساقيك للريح في إثر صاحب الدراجة، وناديته فساعدك على انتشالها من من وراء القضبان.

- ليته سمع ندائي وانتبه إلى لهاثي وراءه.

- ماذا حدث لسجينة الفن التشكيلي؟

- لما نأى بعيدا عني، توقف عند بقعة أرض مهجورة، وطرح دراجته أرضا، فحثثت السير من جديد نحوه.

- وأخيرا خلصتها من الأسر.

- وبينما أنا أدنو منه لأحررها من براثن العجلة، وهو منهمك في قضاء حاجته، امتدتّ يده إليها وسحبتها من العجلة..

- وسلّمها إليك.

- ليته فعل.

- ماذا فعل!؟

- لقد دعكها دعكا ثمّ للأسف..

- ثم ماذا؟

- ثم جعل منها منديلا ورقيا.

- يا لخيبة أملك!

- ألم أقل لك: إن سوء الطالع حال دون ولوجي نادي التشكيليين؟

- وسوء توقيت النازل من أمعاء صاحب الدراجة أيضا.

 ***

أحمد بلقاسم  / شتنبر/ 2020

في نصوص اليوم