نصوص أدبية

أحمد الحلي: جْوَيّد

احمد الحليالإهداء/ إلى الصديق أبو زين العابدين الخفاجي

كان من أمهر العدائيين في مدينة الحلة وقيل إنه حصل على المراكز الثاني في الجري في بطولة العراق خلال سنوات شبابه، ولكن آفة القمار والإدمان على الكحول انحدرتا به إلى الدرك الأسفل، حتى أنه أصبح ضمن فئة من الأشخاص يُطلق عليهم تسمية " كتائب"، وهم فئة ضائعة اعتادت التسول ومد أيديهم إلى المارة للحصول على بعض النقود، شاهدته في خلال فترة الحصار وهو يتطوّح في الشارع وقد نهشه الجوع، كلما وقف أمام أحد المطاعم يسارع العمال إلى طرده ونهره قاذفين إياه بأسوأ وأقذع الشتائم، وقف جانباً يتابع أحد الزبائن وهو يستلم لفة گص من العامل، يقترب منه ببطء، وعندما يصير إلى جانبه يطلب قضمة، يستظرف الزبون المشهد، ولكنه يريد أن يلعب مع جويّد الذي يبدو أنه يعرفه، يقتطع الجزء الأسفل من الصمونة ويقدمه له، ينظر جويّد في الجزء الذي أُعطي له، يفتحه بحذر فلا يجد فيه شيئاً، يمده إليه قائلاً بتوسل؛ املأ الفراغات التالية، فيضحك صاحب اللفة ويضع له قطعة أو قطعتين الخيار والطماطم، يُكمل جويّد جملته بحزم، على أن يكون اللحم من ضمنها، فيستغرق جميع من كانوا يراقبون المشهد عن كثب بالضحك، ويوصي أحدهم له بنفر گص كامل يأكله في داخل المطعم .

في إحدى المرات دلف جويّد إلى المقهى، ووقف أمام مجموعة محترمة من لاعبي الدومينو الذين يعرفونه جيداً، كانت تفوح من فمه رائحة الخمر الرخيصة، مدّ يده قائلاً؛ محتاج نصف دينار مروّتكم !، وهو في الحقيقة يحتاج إلى جرعات أخرى من العرق الفل، لم يأبه له أحدٌ واستمروا في اللعب وإطلاق القفشات التي تدل على ترفعهم وعلو مكانتهم، ظل واقفاً هكذا لبعض الوقت، لمحه أحد الريفيين الذي كان يجلس في أريكة مجاورة، ناداه، فانتبه له، قال الريفي؛ هل تبيعني يشماغك هذا، مشيراً إلى اليشماغ الأحمر الجديد الذي كان جويد يضعه على رأسه، ويبدو أنه حصل عليه قبل وقت يوم أو يومين كهبة من أحدهم، انتبه جويد للأمر، أحس بالزهو والخيلاء للحظة فجأة لكونه أخذ يشعر أنه يمتلك شيئاً يحمل أهمية لدى بعضهم، قال الريفي؛ كم تطلب ثمناً له؛ قال؛ عشرة دنانير، قال الريفي بل أعطيك خمسة دنانير واستخرج من جيبة الورقة النقدية الحمراء، نظر إليها جويّد مبهوراً، وللحال خلع عنه اليشماغ ورماه في حضن الريفي وخطف من يده الورقة النقدية، ملتفتاً إلى مجموعة الأشخاص المحترمين الذين لم يأبهوا له متلفّظاً بجملته التي ظلت تدوي بعد ذلك في أركان المقهى لوقت طويل؛ كُس خواتكم !

عُرفَ عن جويد أنه كان لديه في شبابه ولعٌ خاص بلُعبة الريسز أي سباق الخيول والتي كانت تجري في منطقة المنصور ببغداد في يوم محدد من الأسبوع، فيذهبون إلى هناك ويتكبدون الكثير من الخسائر ....

كان جويد ومعه رفيقه ميسور الحال يذهبان إلى هناك بانتظام، المفارقة أن رفيقه لم تكن لديه أية معرفة بمجريات اللعب ومداخله ومخارجه، بينما كان جويد ملماً بكل ما يتعلّق بالخيول والفرص المتاحة للربح .

ومن أجل ذلك، ولوجود مصلحة متبادلة بينهما، اعتاد علوان وهو الثري، أن يدفع ثمن المشروب الذي كان يحتسيه صديقه صاحبنا في آخر ليلة قبل ذهابهما إلى مضمار السباق ببغداد.

 في إحدى المرات طمع جويد بعد أن طابت نفسه بالمزيد من الشرب، وكان مطمئناً لسخاء صاحبه، بيد أن هذا الأخير كان يتوجب عليه الذهاب إلى البيت، فاحتدم بينهما سجال، قال جويد بثقة؛ هل سترسل لي على نصف ربع عرق إضافي؟ أخبره صديقه أنه غير مستعد .

صاح به جويد بحدة؛ " تشرّبني لو ألعبك باݘر حصان يجي تالي الخيل يضرّط !

وتمر السنوات ويلقى جويّد حتفه غرقاً في شط الحلة الذي كان يعشقه بعد سُكرة ثقيلة .

***

احمد الحلي

............................

* الحكاية مأخوذة من كتابي (عطر الأمكنة أو ريشة الهدهد) الصادر عن دار الصواف في الحلة

في نصوص اليوم