نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: استغلال ...

محمد الدرقاوي

بعد ليلة لم يغمض له فيها جفن من التهاب حاد في كليته، هاتف طبيبه صباحا، فأخبرته المساعدة أن الطبيب في سفرة دراسية، لكن تنوب عنه أستاذة متمكنة، شكرت المساعدة قدراتها وحدقها، وأمام ليلة مما عاناه فضل زيارتها، فعلى الأقل تجد أمامها ملفه في العيادة يساعدها على تشخيص حالته ..

لم تكن دهشته وهو يجد نفسه امام تلميذة من تلميذاته، أقل من غبطة تلبست الطبيبة التي عرفته ففتحت له الأحضان بدمعات فرح طافرات، وقبلات هوت بها على يده وخده، ضمها اليه والذكريات متقاذفات لطفلة صغيرة في السنة الرابعة ابتدائي؛ بنية ضعيفة، وجه فاقع، تلمع فيه عينان متوقدتان، تلك هي الصور التي قفزت الى عينيه.. لم يحاول أن يستاثر بكلام أو يشغلها بحديث طويل عن مهمتها كطبيبة ينتظرها غيره ممن تركهم في غرفة الانتظار..

بعد أسئلة منها وردود منه، وبعد فحص دقيق وأشعة، واطلاع على ملفه المرضي فتحت الطبيبة خزانة بيضاء، اخرجت منها علبة أدوية، سلمتها له مع نصيحة بشرب مغلي بعض الأعشاب صباحا ومساء، فهي افيد له من أدوية كيماوية قد يكون لها انعكاس على قلبه،

مع التوقف عن تناول الملح خلال العلاج، فالألم ناتج عن حصية صغيرة في طريقها الى المثانة..

مرة أخرى تعانقه الطبيبة وتصر على تقبيل يده قائلة:

وجودي هنا هو من أفضالك سيدي، كم بحث عنك فأخبروني انك قد غادرت المدينة بعد تقاعدك؛ أخرجت بطاقة من محفظتها وقدمتها له:

ـ اياك أن يغيب اب عن بنته انا لك دوما في انتظار، وهذا عنوان بيتي ورقم هاتفي ..

خرج من عندها وقد نسي آلامه، فالفرحة بلقاء تلميذة كان يعتز بذكائها واجتهادها رغم فقرها كانت بلسما شافيا من ليلة ألم وارق ..

لم تكن سكينة غير طفلة في التاسعة من عمرها ضعيفة البنية لايخلو وجهها من صفرة تلازمها، فقدت الاب في حادثة سير، وظلت الام تعاني حتى تحقق للبنت رغبة أبيها الذي كان يأمل ان تكون بنته طبيبة ..

عاد الى حجرة الدراسة ذات صباح بعد فترة الاستراحة، فوجد احدى التلميذات تشد بخناق سكينة مدعية انها قد سرقت منها عشرة دراهم من محفظتها؛ أبعد سكينة عن التلميذة ثم سألها:

ـ هل حقا امتدت يدك الى محفظة صديقتك ؟

اتى رد سكينة مضطربا متقطعا بغصات وشهقات ألم ودموع:

ـ لا، لم آخذ أي شيء..

غرس المعلم عيونه في عيون سكينة، وحرك راسه بإشارة دون ان تنتبه التلميذة الأخرى؛ بذكاء اتاه الرد من سكينة بنظرة خاصة اعترافا بما فعلت ..

وجد المعلم نفسه في موقف حرج بين تلميذتين، قضية ونقيض: تلميذة ذكية فقيرة من أسرة معدمة، وأخرى تستغل انتماءها الطبقي مزهوة بما تلبس وما تملك كل يوم لها في المدرسة مشكلة، بل وجد نفسه بين موقفين متناقضين، أن يتوسل براءة سكينة بقطع النظر عن انتمائها الطبقي من طفلة تحس تجبرا وسلطة مادية، فيدعوها للتنازل عما اقترفت سكينة وقد تتطاوس بين اقرانها تيها وكبرا، ومن تم يحتقر سكينة بما اقترفت فيكون الامر فادحا مذلا لتلميذة مجدة نابغة في فصلها..

بعد تفكير أخذ المعلم محفظتي التلميذتين وطلب منهما الرجوع الى مقعديهما، كان عليه ان يعالج الامر بما يحفظ للتلميذتين معا الكرامة وإعادة بناء علاقة الزمالة وتواصلهما الطبيعي ..

وضع المحفظتين على مكتبه، وانشغل بتقديم درس أنهاه بتمرين كتابي .. استغل انشغال المتعلمين بإنجاز ما كلفهم به وظل يفتش المحفظتين بحذر حتى لا يثير الأنظار، و بخفة استل عشرة دراهم وجدها في محفظة سكينة ثم دسها في إحدى ثنايا محفظة التلميذة الأخرى، راسما على وجهه علامات من حيرة موهما أنه لم يجد شيئا عدا ما في محفظة التلميذة من قطع نقدية مختلفة وضعها على مكتبه ..

في نهاية الحصة وقبل انصراف التلاميذ طلب من سكينة وصديقتها اختيار صديقين قدم لهما المعلم المحفظتين وطلب تفتيش كل محفظة بدقة ..

ترتعب سكينة فيرنو اليها المعلم بنظرة تهدئ من روعها، وكأنه يبلغها رسالة مباشرة ستعيها لا محالة بما يعرفه عنها من ذكاء وفطنة، فهو يعتز بها كتلميذة متفوقة ولن يهشم لها روحا بكشف أمام صديقاتها واصدقائها "أعلم انك على خلق، لهذا فعليك أنفي تعمد ماصنعت الا لغاية يجب أن أعرفها .. "

من قعر محفظة متعددة الجيوب، كثيرة الأدوات، قليلة التنظيم والترتيب أخرج من يبحث في محفظة التلميذة ورقة نقدية من بين الدفاتر من صنف العشرين درهما تسلمها المعلم وأضافها الى القطع التي استخرجها من قبل.. قالت صاحبة النقود معلقة:

ـ كانت عندي اربع قطع لا ثلاثة من فئة العشرة دراهم والتي سرقت قطعة جديدة..

عاود التلميذ البحث ثم قلب المحفظة راسا على عقب، ما أن شرع ينفضها بقوة حتى سقطت منها قطعة رابعة جديدة ..

 تفاجأت سكينة التي أخرجت تنهيدة عميقة وهي تتابع باستحياء وخجل وجوه تلميذات وتلاميذ القسم، في حين تربعت بسمة صفراء على وجه التلميذة الأخرى وقد شرعت تحرك رأسها يمينا ويسارا جاهدة إخفاء توترها وما يغلي في أعماقها بعد اكتشاف تسرعها واندفاعها الأعمى ..

وضع المعلم يده على كتف صاحبة القطعة النقدية وقال:

ـ أحيانا نخطئ في حق غيرنا فنحكم عليهم بتسرع وتهور، ولواستعملنا عقولنا على أساس الثقة والاحترام، لحافظنا على كرامتنا وكرامة غيرنا ..عموما كما أخطأت صديقتنا يمكن ان نخطئ نحن كذلك لكن كل زلة ولها دواء فماذا تقترحون ؟

كان الاتفاق على الاعتذار، فسأل المعلم سكينة:

ـ هل تقبلين اعتذار صديقتك ؟

ترد سكينة و قلبها يدق بوجيب هادر فتطأطئ راسها تمسح الأرض بعيونها:

ـ أقبل

تتعانق التلميذتان ويلتف حولهما التلاميذ في حماس منفعل متدامج ..

حين ابقى المعلم سكينة بعد الدوام، وسألها عن السبب قالت:

التلميذ "ولد التونسي" في القسم الخامس يوزع اكسسوارات فضية على تلميذات وتلاميذ المدرسة لبيعها بعشرة دراهم مقابل درهم للبائع عن كل قطعة؛ أول أمس ضاعت مني قطعة فضية، لا ادري اين، وخوفا من أن يعترض طريقي خارج المدرسة أو يشكوني للإدارة كما توعدني فقد قمت بما قمت به، على أساس أن أردها من بعد، أعدك أستاذ أنها آخر مرة، واشكرك على انك أنجيتني من فضيحة قد تصل الى أمي المريضة، وربما تكون السبب في الطرد من المدرسة..

عانق المعلم سكينة وغصة ألم تطويه، ربت على كتفها وهو يقول: انسي ما وقع فانا اثق بك وبأخلاقك ..

وحتى يضع المعلم حدا لما يحدث بين التلاميذ من سلوكات استغلالية وتسلطية قد تتحول الى انحرافات وانتكاسات، وربما الى ماهو أفدح وأخطر من قبل البعض، قصد الإدارة لمناقشة الأمر ..

تذكر المدير أن القطعة الضائعة من قبل سكينة كان قد وجدها أول أمس صباحا وهو يلج باب المدرسة، فوضعها في درج مكتبه الى أن يظهر صاحبها او صاحبتها، لكن الذي لم يخطر على بال المعلم و لا المدير انه بعد استدعاء التلميذ ولد التونسي اعترف أن أمه هي من تزوده بالاكسسوارات الفضية من صناديق سلع أبيه لبيعها مستغلا أصدقاء المدرسة، وخصوصا الأولاد المجتهدين والبنات المليحات ..

بعد دعوة والدة مراد الى الإدارة، بكت المرأة وتوسلت ان أمرها لو انفضح مع زوجها لكان سبب طلاقها وان الزوج يقيم مع امراة غيرها بأحد الاقامات ويقصر في حقها وحق ابنها مما يضطرها لسرقة ما تنفق به على نفسها وابنها ..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب 

في نصوص اليوم