نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: هوس

محمد الدرقاويصباحا، ومن أول ماتضع قدمها على باب الخروج، تجده متربصا مترقبا، يتطلع اليها فيتبسم في غرور، أو يكشر في عناد، حسب مزاجه، فكل يوم وله تدفقات هي ما تعكسه بنيته النفسية..

.. تتجاهله، فتسرع الخطى للحاق بصديقتها الساكنة في ادار المقابلة، يسيران معا وبينهما تسري كلمات تضحك لها عيونهما، كأَن كل منهما تنبه الأخرى الى التبيع العنيد بهمهمات..

يقترب حينا منهما فيرمي تحية الصباح، حتى اذا تجاهلاه، تقدم منهما مصرا على ان يتلقى ردا:

ـ الصباح لله ومن قلة الأدب الا تردا التحية !!..

تسارع التلميذتان الخطو خوفا من أن يمد يده او يطلق لسانه بالشتائم بعد أن يكون قد رمى عيونه بالتحدي..

كم تجرعت نجلاء من لحظات غضب تطأطئ لها الرأس، عساها تمر كغيمة سريعة بلا مشاكل.. فهي تتفادى عيون الرقباء من الجيران والذين يؤولون كل سلوك قد يحيد عن أخلاق الحي ؛كانت زينب صديقتها كثيرا ما تقول لها:

ـ لاتردي على كلامه فلن نستطيع مواجهة رحى فمة، مع الأيام سيمل ويختفي..

لكن نجلاء كانت تدرك أنه عنيد وقح، فليست السنة الأولى ولا الثانية التي يلاحقها فيها وهذا مايراكم قلقها ومخاوفها كشبح مرعب يلازمها يوميا لا يكل ولايمل..

صباح مساء، يتبدى على وجهها كقدر محتوم من لحظة خروجها من البيت الى ان تلج باب الثانوية..

ـ مقرف ممل ما يمارسه يوميا، يحرض سهام عيون التلاميذ نحوي..

تخفف صديقتها من قلقها:

ـ كل التلاميذ يعرفون أنه أحمق مجنون، فلا احد قد يتابعك بتحريض او قلة احترام، الكل يقدرك ويعرف أصلك..

يصلان باب الثانوية، فيتجاوزهما مقتحما الى الداخل تحت تصفيقات السخرية من بعض ألتلاميذ، وضحكات الاستهزاء والاستنكار من أخرين، فكل تلاميذ الثانوية يعلمون أنه أهبل مغرور، مجنون بنجلاء متيم بها، مهووس بحبها..

كثيرا ما نبهه بعض العقلاء من التلاميذ الى ان ما يقوم به لا يليق بتلميذ يحترم نفسه، وعليه ان يتراجع عن مضايقتها و اقتفاء أثرها يوميا كذيل تبيع، لا يهتم بدروسه، ولا يحاول أن يغيرمجرى برنامجه اليومي بكد واجتهاد وبذل الجهد عساه يحقق مستقبلا لنفسه أولا، فعناده يعكس صورة عن الرجل الذي سيكونه مستقبلا حتى ولو اشتغل وخطبها، فلا أنثى تقبل برجل عنيد يقمطها في ما يمارسه من متابعة وعنف لفظي، وبالطريقة الاندفاعية القاسية التي يريد أن يفرض بها نفسه و حبه عليها..

كان لا يبالى بما يقولون وما ينصحون، كان يتوهم أن كل واحد منهم حاسد كذاب يريد أن يبعده عن نجلاء مكرا منهم لانه الوحيد الذي بادر الى حبها من سنوات الاعدادي، وتصدى لكل من يحاول التقرب منها، وله وحده الحق في أن يتملكها..

الكثير من التلاميذ كانوا يستغربون والأسف يملأ صدورهم من هذا العناد والأفكارالرجعية الخاطئة والنرجسية المتفاقمة التي يريد أن يستحوذ بها على أنثى يدعي حبها فتدفع به الى محاصرتها باسم الحب وهو يدرك أنها لاتهتم به ولا تبادله عاطفة ولا رغبة، وفوق هذا وذاك فالبون شاسع بينهما على المستوى السوسيو ثقافي..

وحتى وهم يسلمون بجنونه الخاص فما ذنب نجلاء التي صارت تخشاه مهددة بتجاوز يسيء الى سمعتها كفتاة تنتمي الى أسرة عريقة مشهود لها بالطيبة والعلم وبمركزأبيها الاجتماعي المتحضر..

اطلت أم نجلاء من نافذة المطبخ بعد أن تفاجأت بطرقات على الباب، كان الطارق شابا أثارها بتقليعة قصة شعره التي تشبه عش اللقلق فوق صومعة مهجورة، سالته من النافذة عمن يكون فاتى رده آمرا جافا:

ـ بغيت أبو نجلاء !!..

أخبرت ام نجلاء زوجها الذي فتح الباب للزائر، رحب به ثم سأله عن سبب الزيارة.

أشحن الرد من الزائر استغراب الأب:

ـ جئت أطلب يد ابنتك نجلاء

المفاجأة مثيرة، لكن ذكاء الأب، ثقافته وخبرته لم تخف عنه أن الواقف أمامه، وقد تملاه بنظرلا يتعدى أن يكون مراهقا معجبا بنفسه، عاشقا متيما، لم تكتمل فيه تربية و لا يقدر مسؤولية، يفتقد ذوق الرجال والأصول و حس التقاليد والعادات، فوقت الزيارة غير مناسب، والخطبة ليست عبثا قد يتسع في عين مراهق فيأتي خاطبا وحده، لهذا يلزم أن يجاريه حتى يعرف ظروفه وما يحيط به ومن يكون؟. رحب به ودعاه للدخول..

انتفخ العاشق من وهم ما ابداه أبو نجلاء من ترحيب، فخطا البهو الى الصالون في مشية وئيدة حتى اذا جلس واستقام أحس ان أبا نجلاء يتفحصه بقراءة معمقة تخترق دواخله قبل أن يمزق الصمت الذي ران بينهما فيخاطب زائره: نعم أسمعك

وبثقة مغرور عنيد بما اقدم عليه يقول:

أنا تلميذ في الثانوية مع نجلاء، أحبها وأريد الزواج منها..

يتبسم الأب تبسم رجل حليم، حصيف وقد اختزن سخرية غابت عن مدارك الضيف النزق الأهوج وما يعلنه من سخافات:

ـ مرحبا، يوم سعيد، زارتنا البركة، لكن عرفني بنفسك أولا وبأهلك واصلك !!..

يرد العاشق وقد توهم ان الجالس أمامه هين سهل:

اسمي بوشتى، ابي هو مقدم حي النهضة الجديد وأمي هي الضاوية العريفة..

أسِر أبو نجلاء ضحكة استهزاء مريرة مغالبا عليها نفسه حتى لا تنفجرفي وجه ضيفه الأرعن، وقال: اهلا !!.. حصل الشرف بمعرفتك ؛ ونعم الأصول، لا شك أنك هيأت سكنا؟ ولك دخل يكفيك ونجلاء؟

تلفت بوشتى يمنة ويسرة يمسح ارجاء الصالون بعينيه فرأى أفرشة من حضارة عريقة، أناقة ونظافة ونسمات معطرة ماتعود عليها أبدا في بيته ومحيطه الأسري، كتم مشاعره بحسد وحقد في صدره، ورد بنوع من الغموض والتحدي:

ـ بيتنا كبيرمن خمسة وستين مترا مربعا !!.. عمي الاسكافي الذي يفترش راس درب النهضة يسكن الطابق الأرضي، ونحن في الطابق الذي يليه ويستطيع أبي ان يضيف طابقا آخر، أما عن النفقة فدخل امي وابي كافيان لهما ولي أنا ونجلاء..

تململ الأب في مكانه، مستمسكا بوقاره وصبره، ودون أن يحقر القحط الذي لفح وجهه مما يملأ نفس الجالس أمامه وهو يخال أن ما تتوفر عليه اسرته رفاهية وقوامة، غائبا عن حقيقة مرض نفسه.. وضع أبو نجلاء مخدة اعتمدها تحت يده، تنهد و هو يتطلع الى المخلوق الذي أمامه.. معذور !!.. "طفل يتغذى من تربية القهر والتسلط والغبن ما تعود الا أن يرى كل حقير تافه ضخما ثريا في عينيه.. قشة التبن في عين نملة، ما اعظمها !!.. "

ـ اسمع أولدي وانتبه لما سأقول !!.. أنت لازلت طالبا، وامامك زمن طويل لتعتمد على نفسك، ويوم تكون قادرا على تحمل مسؤوليتك اعتمادا على مجهوداتك الذاتية بلا تبعية أو اتكال على أمك وأبيك فمرحبا بك. ثم وقف معلنا انتهاء الزيارة..

من غرور بوشتى واعتداده بنفسه لم يقتنع برد الاب فقد حاول أن يضيف توضيحات، فيقاطعه الاب في لباقة وضحكة باهتة تغطي غليان صدره:

ألا ترى أن الوقت متأخر، ولا اشك ان عقلك مشغول بكثير من الرغبات والاحلام والأماني، لنترك ذلك الى ان تحقق أمل ابويك فيك ان شاء الله بشهادة عليا، وعمل يحقق لك ملكية بيت أكبر من بيت اسرتك ذي الستين مترا..

يوصل أبو نجلاء الزائر الى الباب فيشيعه بازدراء مودعا بتحية وتنهيدة أسف وراحة بعد جهد..

رغم ما اعتمل في صدر أبي نجلاء من أحاسيس الحنق والغضب الذي جاهد النفس في كتمانه، فقد كان يدرك أن الزائر إنسان مقهور، ذو مزاج موروث عن بداوة جافة، تختلف عن غيره من التلاميذ الأسوياء العاديين، من يعرف آباءهم وذويهم ومن لا يعرف، وهو مزاج تجذر غامضا في ذهن طفل ابعده عن التمييز بين حقيقته وحقيقة غيره ممن غسلت المدنية والتربية أدران رواسبهم، وما زيارته بلا تقدير للعواقب الا أمنية خفية تشكلت كعقدة صغيرة من طفولته، ثم تنامت مع الأيام كون ما يقرره أبواه هو السليم الصحيح، وما يمارسانه هو السلوك القويم، وما يملكانه هو الجاه والغنى والنُّهى الذي جعل البعض يرتهب ويخشى الاحتكاك بهما، هو ذا جفاف التربية الذي يلحق بالطفولة، جناية تتعاظم عقدها الى أن تصير إرهابا او معاودة انتاج في اقل تقدير اذا لم تجد من يقومها بعلاج.. مثل هؤلاء لا يمكن أن يتعلموا أو يحققوا طفرة تقدم في حياتهم المدرسية او العملية..

لم يحتج الأب كبير وقت ليفهم من بنته ظروف الزائر ورأيها وما تعانيه منه يوميا، وحيث أنه يثق بها وبسلوكها فقد اكتفى بتحذيرها الا تدخل معه في تحد اومناوشات كلامية قد تفقده السيطرة على سلوكه، لكن هذا لم يمنعه أن يزور مدير الثانوية الذي أخبر أبا نجلاء أن التلميذ شرس عنيد سيئ الخلق، يتحدى الكل مستغلا مهمة أبيه ووظيفة أمه، لكنه طمأنه ان الإدارة لايغيب عنها سلوكه وهي تتابع حماقاته بكل احتراس خصوصا وان البنت رزينة، مؤدبة تحترم نفسها وتتعامل بتعقل وحكمة..

ليلة قضاها بوشتى مع أحلام العصافير، فكل ما واجهه به أبو نجلاء من رحابة صدر وصبر وأدب وحسن توجيه، توهمه بوشتى كبرا وتكبرا من الرجل ظل يحفر في صدره بحقد وغيرة على اليد العليا التي رفعها أبو نجلاء بما يملكه..

ـ " تعمد تحقيري وتصغير عائلتي رغم مسؤولية أبي كمقدم للحي وأمي العريفة "، تبنٍّ لقيم أبيه وأمه وما يمارسانه من خروقات في أكثر الأحيان، فهما في عيون بعض ضعاف النفوس من الطبقات الشعبية المقهورة سلطة تحكمية تثير الخوف والاحتراس وتفرض الكثير من التملق، والتقرب بالعطايا والهدايا عند كل حاجة معلومة.. أليس هذا هو السلوك الذي صنع اصناما بلاعقل ولاتفكير ولا تمييز بين حقيقة الذات والغير؟؟..

يسترجع بوشتى كلمات والد نجلاء التي فرضت عليه أن ينصرف من عند ه مهزوما مدحورا بلا وعد يرجى في غد، فيغلي يحموم جهل وحقد وغل في نفسه، وهذا معناه ألا أمل في الحلم بحبيبته أو الظفر بها ذات يوم، وزاد في حنقه ونقمته، ماضاق له صدره من المصاحبة اليومية التي صار يلازمها أبو نجلاء لابنته حين تخرج صباحا من مرأب البيت داخل سيارة ابيها، ثم حين تنتظره بباب الإدارة الى حين ظهور سيارته عند الإياب، فقد أحس الأب بخبرته ان سلوك بوشتى مهزوز قد يؤدي به الى ارتكاب ما لا يخطرعلى بال أحد..

شرع بوشتى يباغث نجلاء برسائل على الوات ساب بين حين وآخر مما جعلها تغير شريحة هاتفها.. بل وتشتكيه الى الإدارة التي منعته من الدخول الى الثانوية الا بعد حضور ولي أمره..

ذات صباح وجدت نجلاء في قمطر مقعدها بطاقة مكتوب عليها:

"اريد ان اراك اليوم فان لم تنتظريني وحدك فانت من يتحمل مسؤولية ذلك، أحذرك !!.. "أوامر لن تصدر الا عن مغرور مجنون يتمركز حول ذاته في جهالة جهلاءونرجيسية مقيتة ؛مزقت نجلاء الورقة ورمتها قلب القمطر، اقبل والدها مساء كالعادة، أركن سيارته قريبا من باب الثانوية ينتظرها، وهي تقطع المسافة من باب الإدارة الى السيارة، وكما ينبعث جني من تحت الأرض يبرز بوشتى من بين التلاميذ ويشد نجلاء من خلف مطوقا خصرها بحصار من ذراعه، معاناته الوجودية تحرق صدره باجتياف، فلا تلفه غير مشاعر اليأس والدونية، يطويه اليأس، ويحفر في قلبه حقد مما رآه في بيت نجلاء من اناقة وتنظيم ونظافة.. وفي لحظة يستخرج سكينا من تحت ثيابه يحاول نحر نجلاء، يهوي عليه طالب كان يتابع المشهد من عل، فتطير السكين من قبضة بوشتى ويرتطم راسه بعمود اسمنتي، فيفور دمه، وتخور قوته، يلتف حوله التلاميذ فيطوقونه بحصار، وتصاب ركبة نجلاء بكسر، فتسقط أشبه بصريعة بلاحراك تتفجر دماء مرفقها الأيمن..

لم يكمل الاب المسافة القصيرة التي تفصله عن نجلاء من سيارته اليها حتى سقط مغشيا عليه فاقدا وعيه،.. ولم يفق من غيبوبته الا بعد أيام أتت اليه نجلاء لزيارته على كرسي متحرك.. .

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم