نصوص أدبية

حاتم جعفر: هناك مَنْ يَشبههُ

حاتم جعفرغيدان أبو الراس.. هناك مَنْ يَشبههُ!!

بالكاد أكمل أبو داود عقده الثالث من العمر، وإذا أردنا النزول عند رغبته فلنقل قد بلغ الخامسة والثلاثين، رغم ان المعلومات المتسربة ومن مختلف المصادر وفي مقدمتها من داخل بيته وعلى لسان أحد أخوته الثقاة، تؤكد بمجملها بأنه قد بالغَ بعض الشيىء في حقيقة عمره، والسبب في ذلك يعود الى حرصه على التظاهر بكبر سنه، فله في ذلك أغراض ومآرب، ربما لا يرغب في الكشف عنها، قد يكون من بينها وعلى ما يمكن إستنتاجه ومن خلال بعض ما كان يفصح عنه، بأنه مستندا في ذلك الى بعض المصادر، والتي تعود زمنيا الى بواكير علاقته بالقراءة والى أحد الكتاب على وجه التحديد، ولا أدري كيف توفر على هذه القناعة، والتي مفادها بأنَّ  هناك ترابطا عضويا وثيقاً ومطردا، بين كبر العقل من جهة وعمر الإنسان من جهة أخرى، فكلما تقدم بك العمر كلما إزددت وعياً، والعهدة في هذا الرأي تعود على الكاتب(الفلتة) بالدرجة اﻷولى والذي إستشهد به أبو داود ومن ثم على صاحبنا.

الاّ أنَّ ما يكشف عن حقيقة عمره ويفضحه، وبصرف النظر عن إدعائاته والإجتهادات التي ساقها البعض وتقديراتهم، فالرجل يتمتع بمشية واثقة، ثابتة، يتميز بها عن سائر زملاءه وأصدقائه، وكل من جايله في السن وفي الدراسة وفي مجال عمله أيضا. ومن بين العلامات التي تؤكد حقيقة عمره، هو إستقامة  ظهره وخلوه من أي إعوجاج، ولم يكن يوما قد شكا منه، والذي كثيراً ما كان يثير حسد البعض و(غيرتهم) بسبب إعتداله وبمستوى مُلفت للنظر. ناهيك عن كثافة شعر رأسه وإسوداده الفاحم. ولولا بعض الإجراءات التي لابد من القيام بها، لكان أكثر من نصف وجهه قد طالته غزارة الشعر ولغطّي تماما. وإذا ما تحدثنا عن أسنانه فهي ناصعة البياض قوية، يستخدمها أحيانا في قضم وكسر بعض المواد الصلبة التي تستعصي على أسنان اﻵخرين.

وما دمنا في هذا الموضوع فلا بأس من الذهاب الى أبعد من ذلك قليلا، فالحديث عن إستقامة الظهر ستقودنا الى إستذكار أحدى الشخصيات المعروفة في المدينة والمدعو بدري. هذا هو إسمه اﻷول أمّا اﻷسم الثاني وما هو لقبه فقد نسيته. المهم في الموضوع ان هذا الشخص كان زميلا لأبو داود في المرحلة  الإبتدائية، وبسبب فشله في المدرسة وجد والده ان من المناسب جدا زجّه في سوق العمل، ليكون مساعدا له في المحل المختص ببيع الخزفيات وما يلحق بها من لوازم المطبخ، فما كان عليه الاّ أن يرضخ ويستجيب لرغبة والده.

فما يلاحظ على هذا الـ(بدري ) هو إنحناءة وميل ظهره الى الوراء، وبوضع ملفت للنظر وعلى عكس القاعدة الفيزيائية والجاذبية اﻷرضية، إبتداءا من قفى  رقبته وبزاوية حرجة، والمتمثلة بالفقرة العليا الملتصقة بالرقبة، وإنتهاءا بالفقرة العصعصية الواقعة في أسفل الظهر،  مما كان يسبب قلقا وفضولا للمارة وخاصة لأولئك الذين لم يسبق لهم أن رأوه أو تعرفوا عليه، إذ يعتقدون بسقوطه الحتمي أرضاً، أو على اﻷقل فهو موشك على ذلك. بإختصار فإنَّ مركز الثقل بالنسبة لبدري يختلف عن سائر البشر، أو إذا شئنا الدقة في التعبير فلم نصادف أحدا على هذه الشاكلة الاّ ما ندر. ولهذا السبب كانت تصل مسامعه الكثير من التعليقات السمجة، فضلا عن عديد النصائح من أجل تقويم مشيته. غير انه لم يكن ليصغٍي ولم يعر إهتماماً، لا لهذا ولا لذاك، وبقي بدري مصرا على طريقته هذه في المشي من غير  أن تصدر منه أية شكوى. ومما يزيد من حالة الإستغراب هي طبيعة حركته وكذلك ميكانيكيته في طريقة التدخين، فمسكه للسيكارة بين إصبعه اﻷوسط من يده اليمنى وسبابته وصعودها ونزولها من والى فمه، تتم بإيقاع ثابت وبفترة زمنية واحدة، تبدو وكأنها محسوبة بدقة وبزاوية لا تخطئها تقديرات بدري على الإطلاق، وسوف لن تتأثر بأي طارئ أو حادث قد يصادفه في الطريق.

زد على ذلك هو الصَمْتُ المطبق والمطلق لبدري، ورفضه التحدث وتحت أي ذريعة مع أي شخص سيلاقيه، إن كان في الذهاب أو الإياب، أثناء توجهه المعتاد، من البيت الى امحل عمله وبالعكس. وإذا كان( بدري) في مزاج رائق وهذه قد تكون من النوادر التي تحصل معه، فسيتخذ من إحدى المقاهي التي تقع على الطريق والمطلة على نهر خريسان وبعد تأكده من خلو ألارائك التي تقع على جانبي المدخل من الزبائن مجلسا له، مُمتّعا نظره في بضعة أشجار باسقات، سيصل فيئها حتى قدميه. وجلسته هذه سوف لن تستغرق من الوقت أكثر من عشرة دقائق في أحسن اﻷحوال، سيرتشف خلالها شايا حامضا، إنتبهوا معي، يرفض أن يغيره بأي مشروب آخر حتى لو كان الجو في أشد حالات سخونته أو برودته. عجبي!.

بعد بلوغه سن الرشد وحسب القوانين المعمول بها، ولعدم وجود أي مبرر يمنعه أو يعفيه عن ذلك، فقد تقرر سَوْق بدري الى أداء الخدمة العسكرية. وبعد تدخل والده القوي وبحكم تلك العلاقات التي يتمتع بها والتي تربطه بالكثيرين من أصحاب القرار، فقد أثمرت مساعيه ونجحت في إستصدار قرارا إستثنائيا من الجهة المختصة والمخولة في هذا الشأن، يقضي بإعفاءه عن أداء خدمة العلم في الوقت الحاضر ولأسباب صحية، على أمل أن يستدعى مرة أخرى بعد إنقضاء فترة التأجيل والبالغة خمس سنوات. ومن بين ما جاء في نص القرار اﻵنف الذكر وقبيل إلتحاقه، هو ضرورة إجراء الفحص الطبي اللازم وبشكل دوري، وإذا ما وجدت اللجنة المكلفة بأن حالة بدري لا تساعد ولا تؤهله لأداء الخدمة، فيمكن إعفاءه منها وبشكل نهائي،شريطة موافقة وتصديق الجهات المختصة العليا.

                                ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قصة بدري دَخلت عرضا ولم تأتِ الاّ على هامش سيرة أبو داود ولا أظنها كانت بالثقيلة والمملة على مسامع القراء. على كل حال لا بأس من العودة الى غيدان أبو الراس أو أبو داود وما يتميز به، ففي ضربة حذائيه بل رجليه القويتين، ما يؤدي الى أن ُيسمع رنينها وصداها كل من كان يمشي على الأرض في الجهة الثانية من الشارع، بل وحتى مَنْ هو في الجانب الآخر من النهر والذي يشطر المدينة الى نصفين متساويين الى حد كبير. ولشدة ضربة قدميه فقد تحولت الى علامة فارقة، يتفرَّد أبو داود عن سواه، حتى تحولت الى  مؤشر ونذير قوي يُدلل على مقدمه، وعند ذاك ستتخذ الإجراءات اللازمة في كيفية إستقباله وما يمكن أن يهيأ له، فمنهم مَن كان على موعد مسبق معه، ومنهم مَن تواجد صدفة وأراد مباغتته بإحدى المفاجئات السعيدة أو قد تكون غير ذلك. كذلك فإنَّ سرعة مشيته وتزايد وتيرتها ستتفق تماما وتتصاعد مع وتيرة حماساته، إن كانت سلبا أو إيجابا. كل ما أنف ذكره عن أبو داود، يُنبأ ويكشف عن مدى تمتعه بقوة جسدية هائلة، بل وخزين كبير من الطاقة، ربما سيساعده على العيش فترة أطول وبصحة جيدة، إن لم يتعرض ﻷي طارئ أو يحصل له مكروه، لم يكن في الحسبان.

وللمزيد من الوصف، فصاحبنا يتمتع بحاجبين، حالكي السواد، كثَّين، معقودين، ملتصقين ببعضهما البعض وبوضوح لا غبار ولا خلاف على ذلك بين أي اثنين، ولا يحتاج أي شخص الى كثير عناء ليتأكد من ذلك ومن أول نظرة، بل بإمكانك وإذا ما نسيت كنيته المتعارف عليها بين زملائه وأصدقائه، ودون سابق تفكير أو تردد وبثقة عالية بأن تناديه بغيدان أبو الحواجب، رغم عدم تفضيله لهذه التسمية، بل يعتبرها إنتقاصاً وتقليلا من شأنه إذا ما قورنت بلقب ابو داود، المحبب والمفضل من لدن والدته بالدرجة الأولى، ولوقعه الخاص ورنينه كذلك والذي سينطوي كما يعتقد على كل أسباب القوة والهيبة والمكانة لشخصه بين الناس.

وإذا ما أردنا الخوض في الجوانب السلبية من شخصيته، فصاحب السيرة ينقصه الصبر وطول الاناة، لذلك تراه سريع الغضب، عنيف في ردات فعله. ستظهر دلالات ذلك على حركة يديه وتفريكه المستمر لهما ببعضهما البعض، خاصة إذا ما تصاعدت درجة إنفعاله وإنغماسه في الموضوع الذي يتناوله. وزيادة في القلق وعدم الإرتياح فستصل مسامعك طقطقة أصابعه العشرة وﻷكثر من مرة. كذلك ستجده متلفتا وبكل الإتجاهات وعلى غير هدى. وستظهر أيضاً علامات ودلالات غضبه وعدم رضاه عمّا يدور من نقاش على حركة إحدى سبابتيه، فكثيرا ما يرفعها ويهزها هزا، وبمشهد يوحي لمن لا يعرفه بأنها تنطوي على تهديد من نوع ما، كذلك تُعد مؤشرا قويا على وجود خلاف حاد، بينه وبين غرمائه في الرأي، وليس من السهولة حلَّه أو حسمه.

اﻷنكى من ذلك هو ترافق إنفعاله مع بعض الكلمات التي كان يصدرها، هادفا وعلى طريقته إقناع الطرف الآخر برأيه وبأي ثمن كان. لم أعد أتذكر أي من السبابتين، اليمنى أم اليسرى التي كان يستعين بها حين دخوله في  معمعة الجدل وتصاعد مستوى الخلاف وبلوغه ذروته، فقد مضى على ذلك دهراً، فربما كان يستخدم يمينه وهذا هو أغلب الظن وأرجحه. المهم تراه كذلك مشمراً عن ساعديه ومع أي إنعطافة أو رأي يتقاطع وما يحمله من تصورات يعتبرها مُقدسة وثابتة، غير قابلة للتغيير أو الطعن أو الإضافة، حتى لو أتت في بعض اﻷحيان على شكل إضافات أو إيضاحات، ستصب لصالحه وداعمة لرأيه. بالمختصر المفيد فإنَّ أبو داود وإذا ما دخل في مناقشة أي موضوع جدي، فسيتحول العالم الذي أمامه الى ساتر من العتمة، ستحجب معه الرؤيا تماما، مما سيؤدي به ﻷن يقع تحت تأثير فقدان السيطرة والتحكم بما سيخرج به من قول ورأي.

ورغم إنفعالات أبو داود وردات فعله السريعة التي يتميز بها عن الآخرين، الاّ انك لم تجد بين أقرانه أو معارفه، القريبين منهم على وجه التحديد وقسم من البعيدين كذلك، مَنْ لم تَرقْ لهم صحبته وأحاديثه. ولكي نكوّن فكرة كافية الى حدٍّ ما عن بعض طباعه فلا بأس من الغوص أكثر في شخصيته. ففي بعض الأحيان وعندما يصل مسامعه بأنَّ فلان الفلاني عاتب عليه بسبب ما صدر منه على في الليلة الفائتة أو اللقاء السابق بحقه، من كلام وتصرف لا يليقان به، يردُّ عليه وعلى كل مَنْ يخصه الأمر كذلك، على النحو التالي: اللي يعجبه خل يتحمل واللي ما يعجبه خلي يطخ راسه بالحايط. مضيفاً وبالعربي الفصيح: هذا أنا وما يصدر مني أنا المسؤول عنه، ومَن يريد سماع رأيي فليتحملني، وأمّا مَن لم يرد، فليضرب رأسه  بأصلب جدار، حتى لو كان قد بني من الاسمنت الخالص.

كذلك ستظهر علامات توتره وبشكل أوضح على القسم المدبب والبارز من أنفه رغم صغره، حيث ستستقر قطرات التعرق هناك، وستبدأ بالنزول، لتتراوح كميتها وتتناسب مع درجة إنفعاله. وبعض منها ستعلق بين شعيرات أنفه وأحيانا ستأبى المغادرة، حتى وإن انتهى الجدل الدائر وبسرعة لصالح أبو داود، ليشد ذلك المشهد إنتباهك ومن حيث لاتدري ومن دون أن تكون راغباً فيه. وفي أحيان اخرى وبسبب من إحتدام النقاش وإستغراقه وقتاً أطول مما هو مفترض، فستجد تلك القطرات قد إزدادت كثافتها وأخذت بالتدافع فيما بينها، ولم يظهر حتى اللحظة من مؤشر يدلل على إنقطاعها وتوقفها. وكي نكون منصفين في تقييم الرجل ولطالما نحن بصدد التوقف عند ظاهرة الإنفعال، فحتى أثناء الحديث عن بعض المناسبات السعيدة، فإن ردود فعله ستجدها ظاهرة بشكل جلي على تلك اﻷجزاء من جسده والتي توقفنا عندها. 

لذلك وتداركاً لحدوث أي نتائج غير سارة أو غير محسوبة بدقة سلفاً، أو خشية حصول ردات فعل لا تُحمدُ عقباها، فستجد بأنَّ أكثر أصدقاءه ومعارفه، قد لجأوا مضطرين الى التزام جانب الصمت أثناء إثارة أي موضوع للنقاش فيما عدا بعض الحالات النادرة. غير أنَّ ردات فعل ابو داود أزاء عدم الإستجابة له أو ﻷحاديثه، لم تدفعه الى التوقف عما يريد الخوض فيه، بل بالعكس، فستجده متجهاً نحو المزيد من التمادي في طرح ما يشاء، والتي ستحمل بين ثناياها الكثير من المغالطات التي ما أنزل الله بها من سلطان.

وعلى العكس من الصورة النمطية التي اعتدنا عليها، فمَنْ يرى أبو داود في ظروف من الهدأة والإسترخاء، وإذا ما ابتعدنا قليلاً عما يُنغصٌ عليه ويستفزهُ، كذلك إذا ما تجنبنا الحديث معه في أمور تستدعي منه النظر اليها بجدية ومسؤولية، فستجد نفسك أمام انسان آخر تماماً، سيجبرك هذا على تغيير وجهة نظرك فيه، فبراءته ربما تفوق براءة طفل لم يبلغ بعد الثامنة من العمر، فما يأتي على لسانه لم يكن الاّ ما يعتقده صحيحاً، من غير أن يوارب أو يجامل، ولكي تفهمه جيداً فما عليك الاّ أن تستقبل ما يصدر منه بحسن نية ليس أكثر. 

وعن صحبة أبو داود فستؤنسك بلا شك إذا ما أحسنت التعامل معه أو إذا كنت من النوع الذي لا يناكد، ففي قلبه ما تطيب له النفوس وتنعم. ما حيلتك! فهناك أناس جبلوا على بعض من الطباع (العصية والصعبة)وكبرت معهم، منهم مَنْ رآها تُقَطعُ الوصل والود، ومنهم مَنْ رآها غير ذلك، ولكل امرئٍٍ ما يشاء من الرأي. وطالما حديثنا عن طيب الذكر أبو داود، فلا بد من القول وقد يختلف البعض مع ما سنذهب اليه، فهو من النوع الذي ينتمي الى الصنف المريح من البشر، على الرغم من كثير العلل إن سمّيناها عللا.

كثيراً ما تسائل أصحابه في سرهم وفي غيابه: ما الذي سيخسره أبو داود لو كان قد خفف من درجة حماساته وإنفعالاته أثناء نقاشاته؟ ماذا لو قلل الكلام في السياسة وراح أبعد في تنوع أحاديثه؟ أما كان قد أراح باله وأراحنا!. ماذا لو أرفق ما يريد قوله ببعض من دعاباته وروحه الطيبة؟ ماذا لو أسمعنا وأتحفنا بما تجود به حنجرته من عذوبة؟ لماذا ظلَّ كاتما على جمال صوته؟ ألم تسمع بحكمة ذلك الزعيم الذي قال: السياسة بلا أدب وفن ستصدأ. لا يهم من قالها، غير انها جاءت على ألسنة العديد من القادة السياسيين، حتى من قِبل ذلك الصنف الذي أتهِمَ بالجلافة والتحجر وضيق اﻷفق والرؤيا. أمّا عن أبو داود وخلاصة القول، فالرجل يتمتع بقلب رقيق ورهيف، وكان له أن يزداد جمالا، لو قلل من حدة الكلام في أحاديثه، ولزدادت حلاوته حلاوة، ولزددنا إقتراباً منه أكثر فأكثر.

***

(فصل من رواية)

حاتم جعفر - السويد / مالمو

 

في نصوص اليوم