نصوص أدبية

ذكرى لعيبي: مودّة!

بعد أن تزوجتْ آخر العنقود، وجدتُ نفسي وحيدة؛ بدا البيت موحشا جداً، وواسعا جدًا، أكاد أسمع صدى صوتي .

لم تسعفني الساعات التي اقضيها في العمل للتخلي عن هذا الأحساس.

ولا الأوقات التي أقضيها أحيانًا في التسوق أو زيارة بعض الصديقات.

لا بد من أنيس..

لكن هل يحق لي بعد هذا العمر؟

بدأتْ هذه الفكرة تختمر في رأسي، بل قادتني إلى سنوات ولّتْ، سنوات رفضتُ فيها كل من تقدّم إلي بحجّة تربية الأبناء تارة، ونظرة المجتمع تارة أخرى، للأسف لم أكن أنظر لنفسي..

اتصلتْ بي صديقتي سمية ذات مساء كالح:

ـ اليوم حفل غنائي ستحييه فرقة آشور، وأكيد سيغنّون أغاني فلكلورية جميلة، وقد حجزت تذكرتين، هيَّئي نفسكِ، سأمرّ عليكِ بعد ساعتين

ـ لكن لا نفس لي لحضور حفل غنائي

ـ ولأن لانفس لكِ، ستحضرين معي، هيا جهزّي نفسكِ.

قمتُ من سريري ومشيتُ باتجاه الحمام، خلعتُ ملابسي وعلقتّها خلف الباب، ثم وقفتُ تحت المسحاح وهو يصبُّ الماء الدافىء فوق رأسي، لينزل على كتفّي وصدري حتى قدمي، أراقب قطرات الماء وهي تنزلق على سطح جسدي وتتسابق بتقبيل خلاياه، أو هكذا يُخيّل إليّ.

ـ ما زلتُ أنعم ببشرة بضّة وجسدٍ ممتلىء..

حدثتُ نفسي؛ ثم أطلقتُ تنهيدة طويلة..

لماذا نخلص أكثر من اللازم لذكرى رجال يكذبون في أول الحب، ويهجروننا في منتصفه، ويغدرون في النهاية؟

كيف أضعت سنواتي الفتيّة من دون أن ألتفتتْ إلى نفسي؟

توقعت عندما نصل إلى تلك الدائرة، ندخلها، ونغلق الباب خلفنا، ثم نتفحص وجوه من في داخلها، نأمل أن من يبقى معنا في كل حالاتنا أفراد عائلتنا وربما صديق صدوق واحد.

توقعاتي خاطئة، وصلت الدائرة، دخلتها، ولم أجد أيًا من أفراد عائلتي أو أبنائي، وجهي وحده مع ظل ألف خوف وألف قلق وألف ترقب وتوجس وخيبة.

جففتُ شعري، وجلست أمام المرآة لأضع بعض الزينة، رسمتُ الكحل بعيني، شذبتُ حاجبّي، أغرقتُ رموشي بالماسكرا، ثم وضعت أحمر الشفاه بلون التوت البرّي الأرجواني، وأخيرًا رفعت شعري عاليًا بمشبكٍ ذهبي.

فتحتُ خزانة ملابسي واخترت فستانًا من الدانتيل مقفل الصدر والأكمام، طويل، يزيّنه عند الخصر حزام بدبوس ذهبي تتوسطه ياقوتة أرجوانية.

أنا جميلة.. وتأملت نفسي كثيرًا..

أها،، تذكرت العطر ..

أمسكت بقارورة ديور جادور، ثم تركتها، هذا العطر كان يحبّه كثيرًا..

أعتقد عطر أمبر نويت مناسب جدًا.. وأعشقه جدًا..

قمتُ برفع يدي إلى الأعلى وبدأت برشّه في الهواء أمامي، ثم دخلت تحت قطرات العطر وكأني أدخل نحو المطر..

هذا العطر يشعرني بأني على قيد الأنوثة والجمال،، هكذا مجرد شعور ليس إلا..

جلستُ على الأريكة في الصالون أنتظر سميّة، وبعد دقائق رنّ جهازي المحمول:

ـ هيا انزلي أنا تحت البناية

ـ حالًا

فتحت باب السيارة وجلست، كانت سميّة أنيقة جدًا ومشرقة:

ـ الله، الله على الأرجواني

ـ الله، الله على التركواز

ضحكنا وتندرنا، حتى وصلنا مسرح المدينة المقام فيه الحفل، استمتعنا كثيرًا وتمايلنا مع بعض الأنغام.

في طريق العودة سألتني سميّة برأيي فيما لو تقدم لي رجل، قلت لها: إن كان مناسبا لي؛ لمَ لا!

ـ هل تصدّقين أنا تعرفت إلى لؤي عن طريق موقع للتعارف والزواج

ـ معقولة؟

ـ نعم، ما رأيكِ تُجربين؟

ـ أنا! بهذه الطريقة سمية، وبهذا العمر؟

ـ وما به عمركِ؟ ثم أنا بعمركِ وتوفقت، سأرسل لكِ رابط مودّة ورحمة، افتحيه وسجلي، قد تجدين ضالتكِ

ـ ضالتي في موقع إلكتروني سميّة!

ـ جربّي

عندما وصلتُ للبيت شعرتُ ببعض التعب، فاستلقيت على السرير بعد أن غيرت ملابسي وغسلت وجهي.

ما أن وضعتُ رأسي على الوسادة حتى لمعتْ أمامي فكرة سمية.

مسكت تلفوني وفتحت الرابط الذي أرسلتهُ؛ موقع جميل مزخرف بالورود والآمال، والأهم تتوسطه آيات قرآنية (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

تمام.. بداية لا بأس بها؛ تمتمتُ مع نفسي

الصفحة الأولى من الموقع تضم حقولا عدة: بحث عن زوج، بحث عن زوجة، طبعًا اخترت البحث عن زوج، أوك ماذا بعد.. جنسيته، مقيم في.. عمره.. حالته الاجتماعية..

ملأت الخانات المطلوبة، لتفتح مغارة " رجال أشكال ألوان "

صرتُ أبحث حسب المواصفات التي اخترتها:

الاسم: نجم الكون، رقم العضوية......، الجنسية ......، العمر...، لون البشرة، الحالة الاجتماعية: أرمل، نوع الزواج: زوجة أولى، الطول، الوزن، العمل، المؤهل الجامعي، الدخل الشهري، الحالة الصحية، الالتزام الديني..

طيب لا بأس، قلت مع نفسي، لأرى مواصفات الزوجة التي يرغب في  الارتباط بها:

" ملتزمة، صادقة، جادة في الزواج من دون تسلية وضياع وقت، ذات أدب وأخلاق، غير مهم العمر والشكل"

طيب، لأرى خانة التعريف عن نفسه: " أعيش لوحدي، أبحث عن زوجة صالحة تشاركني حياتي وتعينني على الدنيا"

غدًا سأرسل رسالة في خانة المراسلة وأرى..

وجاء الغد، وأرسلت رسالة واستلمت الرد، وترحيب جميل، إلى هنا ينتهي دور الموقع، إن رغب الطرفان في التواصل عن طريق تبادل أرقام هاتفيهما.

تبادلنا الأرقام وتواصلنا :

ـ مرحبًا، أنا صفاء، ممكن أعرف اسمك الحقيقي؟

ـ مرحبًا، صوتكِ جميل جدًا، اسمي صلاح

ـ ما هذه المصادفة، اسمينا يبدئان بذات الحرف

ـ مصادفة خير، حدثيني عن نفسك

وبدأت أحدّثه بكل صدق وعفوية، ثم سألته لماذا يبحث عن زوجة هنا؟

قال: كما أنتِ تبحثين هنا!

خجلت من سؤالي الساذج، فأنهيت المكالمة بحجّة انشغالي .

استمرت المحادثات، لكنني كنت أستشعر بأنه كاذب، أو لعوب، حتى جاء اليوم الذي طلب فيه أن يفتح كاميرا ليراني بلبس البيت، أو بشكل أدق بقميص نوم!

حينها مسحت رقمه بعد أن حظرته.

تبدو لعبة مسلية لأشغل وقت فراغي

لأدخل ثانية واكتشف :

الاسم: لليل الصب، رقم العضوية.....، الجنسية.....، بلد الإقامة: بلجيكا، نوع الزواج: زوجة أولى، الحالة الاجتماعية: أرمل، العمر....، عدد الأطفال ٣، الوزن، الطول، لون البشرة، العمل، المؤهل الجامعي، الحالة المادية: جيد، الالتزام الديني: ملتزم وملتحي...

جيد، جيد، قلت مع نفسي، لأرى مواصفات الزوجة التي يرغب فيها:

" ذات دين وخلق، أعتقد الطلب مستحيل في هذا الموقع، كما أنه شبه مستحيل في حياتنا بالواقع، مثقفة، جميلة، أنيقة، متعلمة، تتقن الحوار"

أما عن نفسه، فكتب: ما يقوله الناس عنّي أني ذكي، هادىء، صبور، لا اتكلم بكثرة، استمع بتمعن، غيور، أبدو أصغر من عمري، الأطفال يعيشون مع أهل أمهم"

قلت: ربما يكون لي نصيب.. لأرسل رسالة

وكما حدث في المرة الأولى، جاء الرد:

شرف كبير لي أن نتعرف، قرأتُ مواصفاتكِ ومعلوماتكِ وأعجبتني كثيرًا، أتمنى أن يكون لي نصيب فيكِ، يبدو من أسلوب رسالتكِ أنكِ انسانة راقية ومتعلمة.

حقيقة عندما قرأت ردّه قلت مع نفسي: رد محترم والمهم أنه أرمل وأطفاله عند أهل أمهم وهو يعيش في بلد أوربي ، فرصة لأرى العالم وأخرج من هذا الجحر !

كتبتُ له: حقيقة من المؤسف أن نبحث عن نصفنا الآخر هنا، في عالم افتراضي وكأننا نعرض موهبة ما، لكن أحيانًا الظروف تحكمنا.

ردَّ: الآن العالم كلهُ تحت تاج ملك افتراضي، يسيره كيفما شاء من دون أن نستطيع التدخل، ما نحن ألا قطع شطرنج، ما رأيكِ نتواصل بالهاتف أسرع وأفضل من الرسائل هنا بالموقع؟ وهذا رقم هاتفي....

وهو كذلك، وهذا رقم هاتفي....

تواصلنا، تحدثنا كثيرًا في أمور الحروب ومعاهدات السلام المزيفة، والملوك والرؤساء الجبناء والسلاح والنفط، لديه موسوعة كبيرة من المعلومات.

سألته :

ـ عذراً عن السؤال، ممكن أعرف كيف ماتت زوجتك؟

ـ حقيقة هي لم تمت، أنا مطلق

ـ ولماذا كاتب أرمل؟

ـ لأنها غير موجودة في حياتي

ـ أين هي الآن؟

ـ هنا في بلجيكا مع الأطفال، في بيت آخر طبعًا.

نحن النساء خصنّا الخالق بميزة استشعار عجيبة غريبة، حدس لا يملكه الرجل، وهذه الميزة عندما تعمل تستنفر معها جميع حواسنا بشكل لا إرادي.

مشكلتي هي أنني بدأت أنجذب إليه ، ثقافته وحديثه وأسلوبه في الحوار، تواصله بشكل منتظم ودائم.

وصلنا إلى مرحلة أننا صرنا نتحدث كاميرا

ـ أعتقد عرفنا بعض بشكل يرضينا، هل فكرتَ أين سيتم زواجنا؟

ـ حقيقة لا أدري، فأنا هنا ما زلت لا أملك إقامة!

ـ ماذا؟ لكنك كاتب غير هذا

ـ نعم لأنني أعيش هنا

ـ لا عفوًا هذا غير صحيح، لابد أن توضح الأمر من البداية.

طبعًا بدأت أفكاري تتلاطم، تجمع وتطرح وتعيد الحسابات، حتى الآن كذبتان كبيرتان، ماذا بعد يا ترى؟

ـ أنتِ جميلة جدًا، امرأة حقيقية، أنثى كنت أحلم بها

ـ أشكرك جدًا

ـ لو بيدي لصنعت لكِ ثمثالًا

ـ أنا لست طاغية، الطغاة فقط يحبون التماثيل والتمجيد

ـ والعظماء أيضًا

ـ مخطىء، بعض العظماء خلدهم الناس بعد رحيلهم

وبينما كنّا نتحدث، وإذا بصوت امرأة تفتح الباب وتدخل عليه، ارتبكَ فسقط الهاتف من يده لأرى قدميها وهي مقبلة نحوه!

قطعَ المحادثة.

ذُهلت، صُدمت، حزنت، ثم بكيت..

كيف تُبنى علاقة على أساس من وهم؟ كذب، خداع؟

عاودَ الاتصال:

ـ طبعًا آسف قطعت المحادثة لأني تفاجأت بدخول ابنتي

ـ ابنتك؟

ـ نعم جاءت لزيارتي

ـ هل ابنتك كبيرة لدرجة أن ساقيها يوازيان ساقّي امرأة ؟ وتقول لها " أي رحم الله والديك" !!

ـ قلت هذا لأنها جلبت لي الشاي.

سكّتُ وكأن لساني انعقد، لأني تيقنت أنه كاذب

ـ ألو.. لماذا صامتة؟ صدقيني ما قلته الحقيقة

سكوتي ليس رضا، بل صدمة.

ـ سأعرف الحقيقة عاجلًا أم آجلًا، فأرجو أن تخبرني بنفسك من دون أن تكشفك الصدف، لتبقى لك مساحة ولو بخرم إبرة من الاحترام.

ـ الحقيقة لست مطلّقا، لكننا منفصلان!

ـ منفصلان وفي بيت واحد وتأتيك بالشاي!

ـ نعم، باقيان لأجل الأبناء، لكن لا تربطنا أي علاقة جسدية.

ـ كذب، وما دمت كذبت أكثر من مرّة فلم أعد أثق فيك

ـ والله كذبت حتى لا أخسرك.

ـ  لديك إقامة وعمل، أرمل، ثم مطلق، ثم منفصل، وكل هذا كذب، هل هذه المواقع أوكار للتعارف المشبوه والكذب ومآرب أخرى؟ كيف تحترم نفسك وأنت تكذب؟

ـ أنا صادق بمشاعري.

ـ أي صدق تتحدث عنه، زمن ملعون ...

انهيت المحادثة وغلقت باب القلب الذي كان مفتوحًا له، ثم دخلتُ الموقع حذفت حسابي وكل ما يتعلق بي ، حتى لا تسول لي نفسي بتجربة أخرى.

صباح اليوم التالي وجدت رسالة منه:

ـ والله أحبكِ ولا أريد أن أخسركِ.

ـ حياتنا واسعة، أوسع من أن أتمسك بكَ، أو بأي رجل يخدعني أو لن يضعني ضمن اعتباراته وأساسيات يومه، وأكبر من أن أعيش كذبة أن من نحبهم لا يتكررون!لأنهم يتكررون وبشكل محسّن، وأفضل، وربما أكثر تطورًا، تمامًا كما يحدث في عصرنا الإلكتروني هذا.

 احترقَ قلبي حقيقة، وددتُ لو لم اسمع كلام سميّة، فلستُ بحاجة لألم مضاف.

ومع خيبتي اعتبرتها تجربة من تجارب الحياة المخادعة، وبدأ شيء ما يوسوس في صدري:

تُرى هل هو فرصتي الأخيرة؟

 فهاتفتُ سمية وأخبرتها بكل ما حصل، شعرتْ بالأسف وحاولت التبرير، لكنها عادت وقالت:

ـ إلاّ الكذب، لأنه سيعتاد عليه، ما بكِ؟ هل أحببته؟

ـ لا أعرف.. مشاعري متخبّطة.

ـ بوضعهِ الحاضر لا ينفعكِ.

تسبب لي بأرق وقلق وتفكير وحيرة بين أن أسامح وأكمل المشوار، وبين أن أضع الشمع الأحمر.

في المساء رنّ هاتفي، رقم لا أعرفه.. كانت المتصلة زوجته:

ـ مرحبًا، حضرتك صفاء؟

ـ نعم تفضلي

ـ أنا زوجة منذر، زوجته وأعيش معه في البيت نفسه والغرفة، وعلى فكرة هو أي امرأة يتعرف عليها يقول لها أنه أرمل ومطلق...

وبدأتْ بالسب والشتائم..

ثم لحقت المكالمة رسالة بذيئة من أحد أبنائه..

حينها تيقنت أن شخصيته معدومة تمامًا في بيته، وألا ما تفسير ما حصل؟ من أين جاؤوا برقم هاتفي إن لم يسرقوه من هاتفه، وكيف يسرقونه إن لم يكن له أي اعتبار أو احترام..؟

إذن صار لزامًا أن أضع الشمع الأحمر على هذه العلاقة.

لا أكره الأشخاص الذين أنسحب من حياتهم، لكنني أتنازل عن محبتي ليكملوا مسيرة كذبهم بعيدًا عنّي.

الذين يفارقوننا أو نفارقهم، لا نتذكرهم بالصورة التي رسمناها لهم قبل أن نلتقيهم، بل بما عشناه معهم  من أحداث ويوميات.

فلا مودّة ولا رحمة من دون صدق وصفاء نيّة وتواصل على أرض الواقع، تحت نور الخالق وشهادة المخلوقات. 

***

ذكرى لعيبي - ألمانيا

في نصوص اليوم