نصوص أدبية

ستار البياتي: أيام في باريس

الى أميرتي، زوجتي الغالية، فاطمة.. (1)

من باريس، مدينة السحر، والرومانسية، والجمال،

أبعث اليك برسالة حيرتي من أرض لا أنتمي اليها، إلا في أحلام الصبا..

***

هُنا الآنَ..

حلّتْ أحلامُكَ في ميدانِ (الباستيل)

المُقِـترنِ بالعذاباتِ

أمامُكَ عامودَ (المَجـدِ)

يُذكِركُ بصَخبِ الثوّارِ الذينَ كانوا هُـنا يوماً

إذنْ أنتَ في باريسَ الحُلمِ مُـنذُ كـنتَ صبيّاً

(تُتأتِأُ) ألفَ باءِ الحَـرفِ

تتوجّسُ أولى مراحلَ العبثِ الصِبياني

بِخُطى صَبيّ منْ زُقاقٍ مَهجـورْ

مِنْ مَحلّةٍ..

تَقبعُ بيَن آلافِ، آلافِ البحورْ

تتكوّرُ روحَكَ !

في تلكَ الغُـرفةِ الطينيّةِ المـنْسيةٍ

*

تنطلقُ أحلامَكَ منْ (رازونةِ)(2) بيتِ الطينْ

الى فَضاءاتِ المَحـبّةِ التي لا حُدودَ لها

تتابعُ إذاعةَ (مونتِ كارلو) بِشوقٍ طُفوليّ

وفي عُـنفوانِ الشّبابِ تَقـرأُ (الحيَ اللاتينيّ)(3)

ولاحِقاً..

في يومٍ ما

تَقـرأُ (قِصّةَ حُبٍّ مَجوسيّة)(4) بِشغَفٍ شرْقيّ

دقِّـقْ بلَهفةٍ في وجوهِ المارَّةِ

تمعّـنْ..

في الجَميلاتِ

ناصِعاتِ البياضِ

ذَواتِ الشَعـرِ الأشْقـرِ

والقَـدِّ المَمْشوقِ ك (شطْبِ) الرُمّـانِ(5)

قـدْ تُقابلَ (جانينَ)(6) قادمةً من الحيّ اللاتينيّ

تبْحثُ بينَ الكُتبِ، والمَمرّاتِ الضيّقةِ

عـنْ عربيّ أسمرْ

عـنْ فارسٍ آخـرْ

قادِمٌ منَ الشّرقِ

على حِصانٍ أبيضٍ، أم طائرةٍ ورقيةٍ، أم زحفاً

لا فرقَ في الوسائلِ

ولا رغْـبةَ في الدّلائلِ

لعلّهُ ينقِـذُها منَ المتاهةِ بعـدَ القُـبلةِ الأولى

ويمحوَ منْ وجدانِها آثارَ الحِرْمانْ(7)

الذي اقـترنَ بِهَمسِ ذاكَ الليلِ المخْمَليّ

وحَـملَها بِرغبةِ الأنُثى نحوَ قُـبلةِ اللا أمانْ

أو لعلّ القادِماتِ منْ مُتحفِ (اللوفـرَ)

بينهُـنَ (باولا)(8) و (رادميلا)(9)

وربّما تلكَ (ليليان)(10) الواقفةُ أمامَ كاتدرائيةِ (نوتِـرْدام)

التي طالَها حَريقُ الوجْـدِ لاحقاً

**

في باريسَ..

الحبُّ والجَمالُ توأمانْ

آآآآه ليليانْ

بهجةُ الشّبابِ أنتِ

وحُلمُ ذاكَ الماضي الجَـميل منَ الزَمانْ

أينَ أنتِ الآنْ؟

لقـدْ ضاعَ العُـمرُ في البحثِ عنكِ !

**

وأنتَ القادمُ منَ العَـدمِ

تمعّـنْ في الوجوهِ ثانيةً،

تمعّـنْ ثانيةً، وثالثةً، ورابعة، و....

وامتحِنْ فِـراسةَ ذاكَ العربيُّ المَجْهـول

المليءُ خيالَهُ بالوَهمِ

وابحثْ في ميدانِ (كونكورد)(11) عـنْ تاريخٍ مَضى

وحَضارةٍ قـدْ تجِـدُ فيها بَعضاً منْ ذاكِرةٍ مَجنونةٍ

فَـمسلّتُها الشامِخةُ تَروي مجدَ الشّرقِ كحِكاياتِ جدّتي

يتأرجحُ بينَ اللصوصيةِ والهِـباتِ

نِصفُ تاريخِـنا سُرِقَ مِـنّا

وحينَ رُحْـنا نتفرجُ عليهِ في أوربا

ابتهجَ اللصوصُ بمديحِنا

ولهُمْ بكبرياءٍ فارغٍ

قدّمنا الشُكـرَ والاحْـترامَ والتقـديرْ

بأروَعِ معانيَ المودةِ والتعـبيرْ

ربّما كانوا أكْـثـرَ وفاءً منْ(سَمؤَلِـنا)(12)

إذْ حفِـظوا تاريخَنا منْ (حواسِـمِـنا)(13)

أسمِعْـتُمْ بِشعْـبٍ سرقُ نفْـسَه؟

يا للخَـيْبةِ !

**

دعْـكَ منْ هَـذَيانِكَ..

وتأمّلْ حضارةً قـدْ تجدُ فـيها بَعضاً منْ ذاكرةٍ مجْـنونةٍ

بهُدوءٍ كالصَمتٍ، تأملْ تاريخكَ المـبْصومِ بالدّمِ !

واجلسْ على رصيفِ هذا المَقْهى

اشرَبْ قَهوتَك (العربيّةَ أمْ التُركيّة)..

على حافةِ الجسرِ، وضفافِ نهـرِ (السين)

وبينَ أحْلا وأحْلا الجَميلاتِ

دَعكَ يا هذا منَ المُسمّياتِ !

هُنا للقهوةِ مذاقٌ مُـرٌ بطعمِ الحرمان منْ تاريخِكَ المسروق

ونشوةٌ عذبةٌ بِطعْمَ قُـبْلةِ (جانينْ) !

التي انفرطَ عقْـدُ ذكرياتِها في تلكَ الليلةِ العَجـيبةِ

بارييييـييسُ..

كانتْ بعضَ ذاكَ الحُلمْ

كيفَ تسَنّى لكَ أنْ تحتفِـظَ بهِ كلَّ تلكَ الحروبِ التي عِـشْتها رغْـماً عنْ أنفِـكْ؟ !

تتوجسُ في خطواتِك بِجادّةِ (الشانْـزِليزيه)

وعَـيناكَ صوبَ قوسِ النّصرِ

تسمعُ طَقْـطقاتِ حوافِـرَ خيلِ (بونابرتَ)

وتتأملُ جُـنوداً ببِـزاتِ الفَـرحِ، والنصرِ تمرُّ منْ هُـنا

و(جنّياتٌ) يُلوِحْـنَ بقـلبٍ يرتعـشُ بالبهجةِ والأُنوثةِ

بَيْنما قلبكَ ينبضُ بكلِّ هذا الجَمالِ في عاصمةِ الجُنونِ والرومانسيّةِ

تعيشُ لحَظاتِ دهْـشَةٍ عَجيبةٍ، وفـريدةٍ

لمْ تكنْ مُصدّقاً ما أنتَ فـيه !

هلْ حقّاً أنتَ هُـنا؟

هلْ عَـمّدتَ ذِكرياتَكَ بماءِ نَهـرِ السينْ؟

وهـلْ لوَّعَ قـلبَك الحَنينْ

هل حقّاً حـيّتكَ (الموناليزا)(14) بابتسامتِها الغامِضَة؟

وهل حقّاً لامسَتْ يَداكَ مَسلّةَ حَمُورابي؟

كيفَ شعَـرتَ بالشّموخِ حـينَما شاهدْتَ اللونَ الأسودَ للمسلّةٍ؟

وتلمّستَ تلكَ الحُروفَ المُبهمةِ المحْفـورةِ بأعَـماقِ كُلِّ القُـرونْ التي مـرّتْ

حَمورابي أيّها الملكُ العّـظيمَ الذي صاغَ أولَ قانونٍ مكتوبٍ في العالم

هنا وجَدتُ بَعْضاً منْ أثـرِكْ

وَلكِنْ أسَفاً لمْ نَهتَمُ لِأمْرِكْ

يا الله..

في قصْرِ (فِـرساي)(15)

وتلكَ حدائِقُ الأحْلامِ تطوفُ حوْلهُ

كأنَّ العالمَ بينَ يدَيكَ على أطرافِ نَهـرِ السّينْ

الذي عـمّـدْتَ فيه روحكَ

و(برجُ إيفـل) يُطاردُكَ بالسّحرِ والخَـيالْ

يا لهذا الحُسْنِ والجَمالْ

أنّا حَـلِـلتَ في كُلِّ شِـبـرٍ هُـنا

يا لهذهِ الحَـياةِ المُفعَـمةُ بالحَـياة

بينما لا تزالُ ذكرياتكَ تحْفـرُ في الرّوحِ شَوقاً

لِذاكَ الصّبيّ الّذي لا يَزالُ في بَيتِ الطينِ حالِـماً !

باريس

***

د. ستار البياتي

في 10/11/2013

..........................

1. من ديواني (لا أحد سواك) قيد الاصدار، الذي سيصدر عن مؤسسة شمس للنشر والاعلام في مصر.

2. فتحة صغيرة للتهوية، ومرور الضوء تحفر في أحد جدران غرفة الطين، تقوم بديلاً عن الشباك المعروف.

3. اشارة الى رواية الحي اللاتيني للكاتب سهيل ادريس التي تدور احداثها في هذا الحي مع بطلة الرواية جانين، وهي ضمن أفضل مائة رواية عربية، تصور العلاقة الجدلية بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، من خلال المرأة باعتبارها هي المحك الأساسي لهذه العلاقة، والرمز الإنساني.

4. قصة حب مجوسية: رواية رومانسية للروائي الرائع د. عبد الرحمن منيف.

5. شطب الرُمّـان: تسمية يطلقها العراقيون على غصن الرمان، جميل لعدالته وقلة اعوجاجه، ومجازاً يتم وصف أو تشبيه المرأة الجميلة ذات القوام الطويل الممشوق به.

6. جانين: هي الشخصية الرئيسة في رواية (الحي اللاتيني) للروائي سهيل ادريس.

7. اشارة الى ديوان الحرمان الذي اشار اليه الكاتب في رواية الحي اللاتيني.

8 و9 و10. شخصيات في رواية (قصة حب مجوسية) للروائي عبد الرحمن منيف.

11. كونكورد: احدى ساحات باريس المعروفة، تقع في نهاية شارع الشانزليزيه، وفي وسطها تقف شامخة مسلة كبيرة من آثار الحضارة المصرية.

12. السموأل: شاعر جاهلي يهودي عربي، ذو بيان وبلاغة، كان واحداً من أكثر الشعراء شهرة في وقته، عاش في نهاية القرن الخامس وفي النصف الأول من القرن السادس الميلادي، ضُرِب به المثل في الوفاء.

13. الحواسم: الكلمة أو الصفة التي أطلقها الناس على الذين قاموا بعمليات السرقة التي طالت مؤسسات الدولة على أثر الحرب التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية على العراق في العام 2003.

14. الموناليزا: لوحة نصفية رسمها الفنان ليوناردو دا فينشي في القرن السادس عشر، خلال عصر النهضة الإيطالية، معلقة في متحف اللوفر خلف لوح زجاجي مقاوم للرصاص، توصف بِأنها أكثر الأعمال شهرة في تاريخ الفن.

15. قصر فرساي: يقع في ضاحية فرساي التي تبعد (25) كم غرب مدينة باريس، تم تشيّده في فترة حكم لويس الرابع عشر في العام 1682م وأقام فيه، ثم كان مقراً للملك لويس الخامس عشر. وبعد (100) عام سكنه الملك لويس السادس عشر وزوجته الملكة ماري انطوانيت اللذان تم إعدامهما بالمقصلة على أثر الثورة الفرنسية في العام 1789.

 

في نصوص اليوم