نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: طَرحَة سَوداء...

عاد أبي بعد صلاة الجمعة مكفهر الوجه عابسا كمن تهجمه عدو في الطريق، بين عمتي وبين أمي كانت النظرات تنوب عن الكلام..

لحقتُ بأخي الذي كان يخلع جلبابه الأبيض بعد أن رافق أبي في صلاته فربما التقطُ منه ما غير أبي وعكر مزاجه..

على مائدة الغذاء غابت ضحكات أمي غياب مدح أبي على قصعة كسكسها التي يعبق سمنها البيت والتي تعوَّد أبي أن يكيل المدح ليد قد أعدتها، فكأن كسكس هذه الجمعة قد أعد لمأتم. كانت عمتي تتطلع لأبي تحاول أن تفجر صرة عبوسه فتتراجع خوفا من أن يترك المائدة غاضبا قبل أن يتمم غذاءه..

لعق أبي أصابعه ثم انسل الى غرفة نومه داعيا أمي اليه.. ضحكت عمتي وأومأت لأمي بغمزة تنهدت على إثرها أمي وقالت: "كِيْتي" وهي تحرك اصبعها الوسطى فوق كتفها كدليل "لاشيء" ؛ بعد برهة وصلني نداء منها..

منعتني عمتي من تلبية ندائها الا وهي معي اثر كلمات تبادلتها مع أخي..

ما أن واجهتُ أبي حتى بادرني:

اسمعي، منذ اليوم لن تخرجي من البيت الا وانت محجبة..

انقباض لف صدري، وظلمة تغشت بصري، لماذا ؟ لم أتجاوز العاشرة من عمري !!

بسرعة تتدخل عمتي بعد أن رأت دموعي تتسربل على خدي:

ـ النصيحة من وحي خطبة امامك اليوم، أليس كذلك ؟

وضع ابي عيونه بين رجليه، ولم يزد عن القول:

ـ الامام لم يبلغ الناسَ غير أوامر الله..

لا يستطيع ابي مجادلة عمتي فهو لا يملك علمها ولا ثقافتها، انشغل من صباه بالتجارة مع جدي وهي اهتمت بالدراسة وطلب العلم الى أن صارت أستاذة جامعية فضلت التقاعد بعد حادثة سير مع المرحوم زوجها..بادرته:

ـ كيف تئد صبية فتكفن جسدها قبل الأوان؟ وكيف استطاع فقيهك الجاهل أن يقنعك وأمثالك بهذا الرأي السحري الذي ارهبك وتركك تعود الى البيت مفزوعا تصدر أمرا ظلاميا؟ أي عقل سليم يكتم أنفاس طفلات الا إذا كان يستقي معلوماته من غياهب الكهوف، أو له في ذلك غاية ماكرة ؟ متى تنتبه الأوقاف الى أن فقهاء مساجدها صاروا لا يتمنطقون الا بتمديد كل ممل سقيم يسخر منه الناس ضاجرين بملل ؛هل تدري ما قاله ابنك حين سألته عن موضوع الخطبة ؟

" خرافات كالعادة لا تقنع أحدا، كثير من أصدقائي ماعادوا يرافقون آباءهم الى المساجد أيام الجمع "..

انسلت أمي وهي تشدني من يدي، وبقيت عمتي وجها لوجه مع أبي..كانت حركة أمي تعكس رفضا لما أمر به والدي..

حاولت من وراء الباب أن استرق قليلا مما يدور داخل الغرفة، كلام كثير دار بين ابي وعمتي لم يتوضح منه غير هذه العبارات من عمتي وهي ترد على كل حجة من أبي:

ـ الإسلام لا يعترف برجال الدين ولا يخولهم حق الفتوى على الناس، الدين عدل، أمن وأمان يا أخي وليس لباسا ومظاهر، في المجتمع اعوجاجات أحق بالمتابعة والإصلاح من الخوض في التفاهات التي لا تتسلط الا على المرأة دون غيرها..

تحول صوت عمتي الى همس كأنها تلقن أبي درسا خاصا ختمته بنصيحة قبل خروجها:

فقهاء يغيب عنهم العلم بحقيقة ربهم فظلوا يهرولون خلف التهديد والوعيد بالجنة والنار وعذاب القبر وما أحوجهم الى دعوة صارمة لتطبيق قانون العدل والمساواة بين الناس..

لم أفهم الكثير مما قالته عمتي لكن وجهها وهي تغادر الغرفة كان يرمي بشائر وينشر قناعات..

كانت أمي متلهفة على نتيجة النقاش بين ابي وعمتي، ضحكت هذه وقالت:

ـ أستغرب كيف غرق أخي في هذا "بوخرارب" من التزمت العقلي والانغلاق الفكري؟

تربينا في أسرة لم يكن ابونا فيها غير تاجر للألبسة التقليدية، يحضر دروس العلماء بين العشائين في مولاي ادريس والقرويين، يناقش ويحاور ويتطلع لكل جديد، وأمنا غيرت الحايك بجلابيب أنيقة تاركة شعرها يرتاح على كتفيها بلا غطاء عدا أيام البرد والمطر، ولا أحد تدخل في اختيارها..

تتنهد أمي حتى أن دمعاتها شرعت تتلألأ في عيونها ثم تقول:

صارت بيوتنا مآتم لا حديث الا عن الأئمة والصحابة وأمهات المؤمنين والحلال والحرام وكأننا مفروض علينا أن نعيش زمانهم حتى نجد مقعدا في الجنة،ولا تلفزة الا اذا كانت حديثا لفقهاء الظلام، اعلاء للذكورة وتسليط القهر على النساء، وفرض واجب الطاعة والامتثال عليهن، اماء بلا عقل ولا إرادة.. معدلات الطلاق تتفاقم والكل يغرس راسه كالنعامة في الرمال ولا يجأر أحد بحقيقة والتي لا تعود للمرأة كما يحاول الفقهاء تلبيسها للنساء..

صلى أبي العصر بعد قيلولته وقبل أن ينظم الى مجلس القهوة انحنى على رأس أمي وقبله.

ضحكت عمتي وقالت مازحة: يبدو ان أخي لم يبلغه خبر موت والدك الا اليوم وأقبل يعزيك، الله يتقبل...

ضحك الجميع وكنت السعيدة بينهم، ارتميت على صدر خالتي وعانقتها فلولا وجودها اليوم معنا لاستقبلتني المدرسة غدا بطرحة سوداء كم عبتها على غيري من الصغيرات...

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

 

في نصوص اليوم