نصوص أدبية

فؤاد الجشي: ليلى الشمالية

إنّها المرة الأولى التي أدخل هذا السوق التجاري الضخم (المول).

كنت سعيدًا أن أفاجئ زوجتي بهدية عيد ميلادها الخمسين، كنت حائرًا في اختيار الهدية المناسبة. دعني أبالغ بقولي: إنّ النساء تنفطر قلوبهم بالذهب من العيار الثقيل. إنّها المرة الأولى التي أملك فيها مبلغاً كبيراً جداً بعد سنوات طوال في تسديد الديون التي لا تتوقف.

وقفت أنظر خلف الزجاج لبعض العروض المقدّمة، الحيرة تأسرك في الأشكال المختلفة بأحجامها وأشكالها!

سألني البائع: هل وقع نظرك على شيء معيّن؟

ابتسمت، وقلت له: هل لديك عرض خاص؟ مثلاً تشتري قطعة واحدة وتأخذ اثنتين؟!

ضحكنا سويًا، ثم قال: عندما تقرّر الشراء، سوف أنظر في مسألة السّعر.

فجأة، التفت فتاة بجانبي وحيّتني بقولها: مساء الخير!

وقع صوتها كان رخيمًا، يلامس شغف الروح.

أجبتها: أهلاً سيّدتي.

الفتاة: هل أنت الكاتب يوسف المرشد؟

أجبتها: نعم.

الفتاة (مبتسمة): لقد قرأت جميع مقالاتك، خاصة القصّة الأخيرة، لقد أعجبتني كثيرًا، خاصّة عندما انتهى اللقاء بين فريد ونجوى بالعودة معًا إلى عشّ الزوجية. لقد لاحظت عند قراءتي للكثير من القصص الزوجية أن تكون نهايتها مأساوية، لكنّك أبدعت، أستاذ يوسف.

كنتُ منبهراً من سرد القصة أثناء حديثها التلقائي، كأنّها هي التي صاغتها وكتبتها بخطّ أناملها. وبلمحة خاطفة لاحظت عدم وجود خاتم الزواج في إصبعها. ومع أنّي قدّرت بأنّها في الأربعين من عمرها، إلّا أنّها تتمتع بوجه طفولي، وعيون زرقاء، وفم صغير وشفاهٍ ممتلئة.

قبل أن أشكرها وأعود إلى البحث عن عقد أو خاتم، تدخلتْ بشكل سريع، قائلة: يبدو أنك حائر في أيّ قطعة تشتريها؟

أجبتها: نعم.

الفتاة: هل أستطيع المساعدة؟

اقتربت قليلاً، بينما رائحة عطرها الشّفافة علقت في أنفي، وحينها اضطربت نبضات قلبي بسبب تلك الرائحة الثرية النقية المسالمة.

الفتاة: انظر إلى هذا العقد، ربما يناسب زوجتك!.

نظرتُ إليها بعينٍ أخرى: أنتِ حاذقة!

الفتاة: كم سنة استمرّ زواجكم؟

أجبتها: سنوات طويلة.

الفتاة (بشيءٍ من الإحراج): أو ذاك الخاتم ربما يناسبها أكثر!.

سألتها: سيّدتي، ما اسمك؟

الفتاة: أنا ليلى الشّمالية.

استغرقتُ بعض الوقت ضاحكاً، ثم قلت لها: أنتِ الكاتبة إذًا؟! أهلًا بكِ، لقد قرأت قصّتكِ الأخيرة، (الطيور على أشكالها تقع)، إنّها قصّة جميلة، قرأتها العام المنصرم، إذاً اتفقنا.

ابتسمتُ مرّة أخرى، إنّها الصّدفة التي جمعتنا. أنتِ في خيالي منذ فترة، أين ذهب خيالك؟

الفتاة: ما رأيك أن تشتري ذلك العقد؟ سوف تعجب به زوجتك، يبدو أننا اتفقنا!

البائع: أهلاً سيّدي، يبدو المدام أقنعتك أخيراً.

ضحكنا سويًّا، نعم أعتقد إنّها تشعر بالسّعادة.

الفتاة: هناك كوفي شوب في الناحية الأخرى، ما رأيك أن تكون ضيفي مع فنجان من القهوة؟

لم أستطع المقاومة! قبل الوصول نظرت لي وكأنّها اعتادت رؤيتي منذ فترة طويلة، اقترحت أن ندخل تلك المكتبة المشهورة، قبل الكوفي شوب، بدأت نظراتي تفوق كلّ توقعاتي، ما زلت ممسكاً بالكيس الأنيق الذي بين يدي، لا أعلم، ربما جمالها ورقة عذوبتها وشخصيتها وأناقتها، أفاضت شيئًا من نفسي!

الفتاة: تعالَ إلى هنا، انظر! هذه روايتك الأولى "الصّيف المجنون"، لقد قرأتها عدّة مرّات، لقد ألهمني وصفك للبحر عندما قلت: "ظلّ السّماء كان مؤثراً في هدوء البحر!". 

ابتسمتُ، إنّها رواية كاتب ميتافيزيقي، يحاول فكّ الرموز الماورائية، لكنّها جميلة، أيضًا، هذه روايتك الثانية (ليلى) كما أعتقد "النصف الآخر".

انتابني الخوف أن يكون نصفي مشابهاً حلقات روايتك. استدعت أذنيها مرّتين للكلمة الأخيرة، في الرّف الأعلى للعرض، وقع نظري على إبراهيم نصر الله "مأساة كاتب القصّة القصيرة"، أمسكت بنسختين وضعتهما في السّلة اليدوية، سوف يقرؤها كلُّ واحدٍ منّا في انتظار اللقاء الآخر قريباً، لكن ما زال لدينا وقت للجلوس في الكوفي شوب.

سأعتذر إليك أ. ليلى!

الفتاة: أرجو أن تناديني باسمي (ليلى)، إنّه يشعرني بالثقة والألفة تجاه الطرف الآخر.

أجبتها: الوقت لا يسعفني حاليًّا!

الفتاة: هل أنت واثق مما تقول؟

أجبتها: أعترف أنّها مناسبة جميلة، لكن لا تقلقي، سوف نلتقي مرّة أخرى.

لم تكن (ليلى) سعيدة بهذا الهروب السّريع، لكنّها انطوت على الفكرة التي تقول: قدرٌ يقبل قدرًا.

ودّعتها، وقبلها تبادلانا الكلمات التي لا تنتهي.

بين المغادرة، كانت أمامه، أمام الملأ، تصرخ بصوتٍ عالٍ: كم أكرهك وأمقتك! ولم أعد أريد رؤيتك مرّة أخرى!

أجابها: قال لها: أنتِ طالق!

صُعِقَ الجميع، إلّا (ليلى) التي كانت تبتسم من وراء حجاب.

***

فؤاد الجشي

 

في نصوص اليوم