نصوص أدبية

علي صالح جيكور: شكرا لروبرت دي نيرو..

في أيام العزوبية ومجدها، كنت أرتاد حانة على ضفاف نهر الماس، في مدينة روتردام، هرباً من السأم والوحدة وروتين العمل المضني، على مدار الإسبوع.

وكان أغلب رواد هذا المكان من العوانس والمطلقات والمحرومات عاطفياً وجسدياً، أو من قليلات الحظ، اللواتي لم يفلحن بإيجاد شريك حياة مناسب.

فكانت هذه الحانة هبة من السماء وملاذاً لهن وللرجال على شاكلتهن، يدخلون اليها فرادى ويخرجون منها، مثنى وثلاث ورباع ونادراً ما يصيب أحدهم سوء الحظ، فيغادر خالي الوفاض، كسير القلب والخاطر.

كنت أتخذ لي مقعداً ثابتاً أمام البار، من ساعة دخولي وحتى نهاية السهرة، بعيداً عن مكان الرقص المكتظ بالأجساد المتعرقة تحت الأضواء والمصابيح المتوهجة، التي تومض وتدور وتتكسر على وجوه الراقصين واجسادهم، صحبة موسيقى وأغاني صاخبة.

ولكوني لا أحب هذا النوع من الموسيقى والرقص والغناء، ولست ممن يبادر في التقرب من الآخرين، أصبح حظي بالتعرف على النساء ضئيلاً، فكنت أدخل وحيداً وأخرج وحيداً، ولم يكن هذا الأمر يقلقني او يزعجني كثيراً، فقد كان لي عالمي الخاص في التأمل والإستمتاع بتفاصيل صغيرة، قد لايفهمها غيري من الحاضرين.

في ليلة من تلك الليالي وبينما كنت جالساً في المحل الذي لا اتزحزح منه، أحتسي شرابي بهدوء، تقدمت ثلاث فتيات يحير المرء في معرفة من هي الأجمل، وقفن بأجسادهن الممشوقة وتنوراتهن القصيرة أمام البار وطلبن كوكتيلات شراب متنوعة ورحن يترشفن من الكؤوس بقصبات رشيقة ملونة.

لم أكن الوحيد الذي تمنى أن يكون قصبة بين تلك الشفاه الندية، فقد ظل هانس النادل فاغراً فاه وهو يصب الشراب في الكؤوس وتعثر هنري أثناء جمع القناني، وتقاطر البائسون و المفلسون وراحوا يطلبون الشراب الغالي، لعلهم يحظون بإبتسامة أو إلتفاتة من هذه الساحرات.

بعد مضي ساعة إنفض المتطفلون والبائسون من حولهن وذهبوا الى شؤونهم وعاد بعضهم الى مسرح الرقص، بعد أن يئسووا تماماً من إستمالة هؤلاء الجميلات ولفت إنتباههن.

إلتفتت إحداهن الى الجهة التي كنت أجلس فيها، فتوقفت عن رشف شرابها لبرهة وربتت على كتفي صاحبتيها وهمست لهن بشيء،

تطلعن ثلاثتهن نحوي ووضعت أرشقهن، كفها على فمها وصاحت: واااو ..

إلتفتُ خلفي فلم أجد أحداً سوى الجدار، يا إلهي هل أنا المقصود بهذه الرشقات المميتة من الإهداب القاتلة؟!

تطلعت بكأسي التي مازالت عامرة، أحصيت في داخلي عدد الكؤوس التي شربتها، فوجدتها لم تصل بعد الى إدخالي في اخيلة السُكر والرؤيا الغائمة، إذاً أنا مازلت في صحوي ونظرات الحسان هذه تعنيني أنا وليس أحداً غيري!

أصابني الإرباك ولم أعد أعرف ماذا أفعل، شربت كأسي دفعة واحدة، ثم سرت خطوتين نحو البار لطلب كأس أخرى، فدنت مني الفتاة التي صاحت واااوو، تبسمت لي وقالت: هلووو

دارت بي الأرض والبار والطاولات والكراسي، قبل أن أجيبها: هلوووو

هل أنت إيطالي؟!

لا، أنا عراقي..

هل تعرف من تشبه أنت؟

لا والله ياعزيزتي لا ادري من أشبه أنا !

إلتفتت الى صويحباتها وقالت: اليس يشبهه تماماً؟َ

رددن بصوت واحد، أجل هو بعينه..

دارت بي الأرض والطاولات والكراسي مرة أخرى ولكن بسرعة أكبر، فقد خشيت أن يكون سوء حظي قد أوحى لهن شبهي بقاتل مطلوب او نشال أو مغتصب عجائز من أولئك الذين تلصق صورهم على الجدران واعمدة الكهرباء، أو تتصدر الصفحات الاولى من الجرائد والصحف في ذلك الآوان.

كيف لا تعرف بأنك تشبهه؟

أشبه من؟ قولي بحق السماء..

غمزتني بعينها اليسرى وقالت:

ومن غيره؟ روبرت دي نيرو، ألم يخبرك أحد بذلك ؟، يا إلهي نفس الشامة والعيون والشعر، آآه انت وسيم مثله، ضحكت ثم حضنتني بلا إستئذان وطبعت قبلة على خدي..

دارت بي الأرض والكراسي والطاولات ولكن هذه المرة درواناً لذيذاً، فقد اسكرني عطرها وشفاهها وغنجها وكلها..

قضينا السهرة متلاصقين، تفرغ كؤوسنا ثم تمتليء، ثم تفرغ ثم تمتليء، نقرعها بصحتي وصحة روبرت دي نيرو، عشت لحظات من تلك التي يحياها مشاهير هوليود وحصدت في ليلة العمر تلك، الف أوسكار من الضم والشمِ والقُبل..

***

علي صالح جيكور

في نصوص اليوم