نصوص أدبية

علي فضيل العربي: حكاية نخلة

قالت له والدته:

- كل النخلات أثمرت إلا نخلتنا.

قال بنبرة من وجد نفسه محاصرا من كل فجّ:

- ربما هرمت وأصابها العجز.

كأنّ كلماته وقعت على رأسها وقع الصاعقة على راع أعزل.

قالت غاضبة:

- اغرب عن وجهي يا قليل الخير. أتقول عن نخلة جدّك أنّها هرمت ولا تستحي؟ وهي التي أنقذتك من الهلاك في زمن القحط والجوع.

- الدائم، الله في ملكه. كل مخلوق مآله الهرم والعجز والفناء.

- ونعم، بالله يا ابني.

هدأت جدته. هي هكذا منذ وعى على الدنيا. سريعة الغضب. لكنّها سريعة الهدوء أيضا. ليس من طبعها الشطط في الغضب. تارة تصوم عن الكلام حتى نعتقد أنها فقدت لسانها، ونسيت أبجديات الحديث. خطابها إشارات ونظرات وذكر فقط.

- ربّما نخل الشاطيء، ليس كنخل الصحراء؟

- النخل هو النخل. أينما غرسناه أثمر.

طالت نخلة الجدّ عمران. أطلت على الجيران والشارع الخلفي، والبحر. انحنى ظهرها كما انحنى ظهر جدّتي زهرة. مال رأسها ناحية البحر، كأنّها تسترقّ أسراره العجيبة. وكم للبحر من أسرار وأحاديث يشيب لها الولدان.

- نخلتنا، يا جدتي، أخجلها البحر. لم يشفع لها طول ولا جيرة.

- كلام الشعر لا يشفي غليلي. منذ تعلمت قرض البلاهات، وأنت بعيد عنا. صرت لا تعي ما تقول. أنت في واد ونحن في واد.أحدثك عن نخلة جدّك، فتحدّثني عن البحر. ما دخل البحر في ثمر النخل؟

انتفضت كعادتها عندما يصل رأس الألم إلى سويداء القلب. لقد نيّفت على التسعين. ذبل بصرها، ووهن سمعها. تروي لنا جدتي زهرة، أنّها كانت تسابق جدّي عمران في تسلّق النخلة. هي لا تعترف بالفرق بين الذكر والأنثى، إلا في أمور الشرع. والولادة والرضاعة والحيض ووو. لكن أن يفضلها زوجها في أمور الدنيا، فلا، وألف لا. إنّ المساواة عندها ليس فيمن يركب الآخر. إنّما في الحقوق والواجبات الفطرية.

لم تفقد نخلة الجدّ عمران اخضرارها ونضارة وجهها. امتدت عروقها حتى لامست البحر. وأسدلت ضفائرها حتى كادت أن ترتشف من وابل الموج.

قال لها، لعله يخفف من قلقها:

- أظن أن رطوبة البحر وأملاحه، وروائح طحالبه هي السبب.

- آه أيّها الشقيّ. أحدثك عن النخلة، فتحدثني عن البحر. ما قصتك مع البحر؟

- ليتها أنتجت لنا سمكا.

- كل هذا البحر لم يملأ عينيك. لولا أنّي أمك التي حملتك في بطنها، وبين يديها، وأرضعتك حتى الفطام، لقلت أنّك من سلالة الكلاب الضالة.

- أهاه، يا أماه، لم أقصد إغاظتك.

وقاطعته:

- أصبحت طويلا بلا جدوى.

لم يعد السرير يسع كل جسده. يحاول الانكماش. سواء تقلّب على ظهره أو بطنه، فالأمر سيّان. يطوي ساقيه إلى أسفل. يرفعهما إلى أعلى. لا جدوى. كأنه توأم النخلة. بدت على ظهره أمارات الانحناء. يدلف الدار مطأطأ الهامة، ويخرج منها كذلك.

ها قد بلغ عتبة الأربعين. التهم البحر زهرة شبابه. كره حياة البر. البحر هو هويته. وخطوته الأولى والأخيرة. شغلته طحالب البحر. ورث عشقها عن جدّه من أمه. كان صيّادا ماهرا، لا يهب الأمواج مهما علت أكنافها. مغامراته مع البحر، حديث رواد المقاهي من القاعدين والمتقاعدين والعجزة والتائهين وأهل الأرصفة.

قالت له والدته بفخر واعتزاز:

- في زمن جدّك عمران – طيّب الله ثراه – كان الفقراء لا يشترون السمك. يقصدون المرسى، أو يرسلون أبناءهم، بعد عودة مراكب الصيد، فيتسابق البحارة على منحهم نصيبهم من الصدقة، شكرا لله على نعمة السمك والسلامة. كان جدّك يتصدّق بالنصف

و يبيع النصف.

- رحم الله زمن جدّي. لقد جفّ البحر يا أماه.

- أبدا، يا بني، البحر هو البحر، لكن قلوب الناس جفّت.

- نقضي الليل كله، ولا نعود بحفنة سمك.

- لأنّ الأكف لم تعد مبسوطة يا بنيّ.

- ربما بسبب بالوعات المدن. رحل السمك بعيدا عن سواحلنا.

تنهدت والدته. أحجمت عن الكلام برهة، ثم رددت:

- لم يعد البحر يتحمل حماقات المجانين. البحر هو مرآتنا المصقولة.

منذ أشهر ستة لم يبحر مروان الميرو*. لم يرم شباكه. سكنتها والمراكب القطط والجرذان وملوحة الرطوبة. هناك في الميناء تلفي البحارة جالسين على الرصيف كالمتسكعين. وجوههم تلفحها شمس الظهيرة. تمتصها، تجعلها داكنة. يدخنون بلا توقف، ويضعون تحت شفاههم الشمة. وأحاديثهم لا تبتعد عن البحر قيد أنملة.

و يعود بها خيط الحديث إلى النخلة. لا شيء يشغلها هذه الأيام إلا هي. هل أصابها مرض ما؟ أم أتعبتها ملوحة البحر أم أصابتها عينه حسدا؟ أم عادت والبحر سيّان، وجهان لموجة واحدة؟

- ربّما البحر هو السبب.

- كأنّك تقول أنّ جدّك أخطأ المكان.

- عفوا يا أماه. وهل تّغرس إلا في منابتها النخل؟ لولا جمال البحر وسعة صدره، ما أينعت نخلة جدّنا عمران.

- أف منك، كلما حدثتك عن النخلة حدثتني عن البحر. وأنت تعلم أنّني لا أكره البحر. لكن نخلة جدّك أعزّ.

-2-

أمرته والدته بالسفر إلى واحات النخيل الجنوبية. هناك سيجد أناسا لهم خبرة في مداواة أمراض النخيل كالتفحم الكاذب وتعفن الطلع والبيوض وتعفن القمة النامية. لا يمكن ترك الحبل على الغارب. إهمال النخلة معناه خيانة أمانة جدّه عمران.

قالت له:

- لو كانت صحتي مثل الأمس ما توسلت لأحد.

- سمعا وطاعة يا أماه.

لما عاد مروان (الميرو) من سفرته تلك نام ليلتين متتاليتين دون أن يكلم أحدا. بدت سحنة وجهه داكنة اللون. بادرته والدته بحزمة من الأسئلة:

- هل جلبت الدواء؟ ماذا قالوا لك؟ هل وصفت لهم حالة النخلة بدقة؟ وهل، وهل، وهل؟

- أجل يا أماه.

- وماذا قالوا لك؟؟

- نخلتنا مصابة بمرض أعفان الجذور، أو مرض عفن البرعم القمي أي أصبحت مجنونة.

- أتقول على نخلة جدّك أنّها مجنونة، ولا تستحي؟

- قال لي أهل الواحات:

ـ أن النخل يصيبه الجنون مثل الانسان والحيوان.

- إلا نخلة جدّك. لو كانت كما قيل لك لماتت منذ زمن. مرت عليها العواصف وسيول الفيضان. وجلب لها بحرك - الذي تحبه حتى القداسة – المصائب من زبالة الكفار، ولمّا تزل واقفة، يانعة، خضراء، جدائلها تغيظ الحساد، لا ينقصها سوى الثمار.

كاد أن يقول لها:

- ما الفائدة من جواد بلا قوائم؟

لكنّه أشفق عليها. قمع تلك الحماقة التي لا جدوى منها.

- لا، لا، نخلتنا أصابتها عين حمراء. دع الأمر لي.

وأبصر والدته، بعد فراغها من صلاة العصر، تطوف حول النخلة، وفي يدها مبخرة، فيها ملح على جمرات، وهي تردد تعويذات لم يتبيّن كنهها.

و لاحت لمروان (الميرو) فكرة قد تزيل عن والدته هذا الهم الذي ألمّ بها، وسكن قلبها. تردد مرات ومرات. كان كلما وصلت الكلمات إلى حافة الجهر، أجهضها إحساس مرّ وتوجس من ردّ فعلها وغضبها. هو يعلم أنّ روحها معلقة بروح النخلة.

لقد روت له عنها أخبارها أول بأول. لم تمل، ولم تتعب يوما. كان تمرها لا يضاهى. وكان والده -رحمة الله عليه وعلى الشهداء جميعا – يقول، أنّ مقامها عنده كمقام وليّ صالح. تختزن بين جوانحها عطر الأجداد والآباء الذين أذاقوا القراصنة والغزاة مرارة الذل. وكم كانت عونا لهم على ترقب مراكب الصيادين عند منتصف الليل، أو عند بزوغ الفجر.

سُقِط بين يديه. البحر من أمامه، والنخلة من ورائه. لا تمر ولا سمك. هل حلّ زمن القحط؟ ها هي أمه معلقة من عرقوبها. لا هم لها سوى نخلة الدار. أحس بأنها تذبل بذبولها اتصل دمها بنسغها. وآهاتها بوشوشة سعفها.

و لاحت له فكرة، لعلها تريح والدته، وتزيح عن صدرها هذه الصخرة التي حبست أنفاسها وأرّقتها الليالي الطوال.

- ماذا لو نقطع النخلة، ونغرس مكانها فسيلة جديدة؟

لكن والدته انتفضت، وزعقت في وجهه:

- أتقطع نخلة جدك عمران؟ تقولها بلا حشمة يا رأس البغل.

- هذه النخلة ميئوس منها يا أماه.

- اغرب عن وجهي. اذهب إلى بحرك ودع نخلتي. لا شأن لك بها.

وانفرط العقد بينهما. امتلأت الأيام حزنا وأرقا. الأم معلقة الكبد بالنخلة، كأنها تنتظر معجزة سماوية أو عبقرية أرضية تشفيها من دائها، وتنقذها من الهلاك. أما مروان (الميرو) فقد تاه عقله بين زرقة البحر وأمواجه وروائح طحالبه ونسائمه ومعاناة والدته المعذبة.

( تمـــت)

***

قصة قصيرة:

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

........................

* الميرو: نوع من السمك، يعيش في الأعماق، بين الصخور.

في نصوص اليوم