نصوص أدبية

ناجي ظاهر: مطر الزرزور

كانت أمي تولّي نظرها إلى الفضاء البعيد الرحب وسط اكفهرار السماء في الخارج، عندما توجّهت إلى النملية القديمة خشتنا الصغيرة. تناولت وعاءً أسودَ قديمًا جلبه أبي من سوق الرابش في حيفا، في السنة الماضية حينما كنت في التاسعة. كان الوعاء معلّوًا بالغبار، نفضت الغبار عنه، وانطلقت خارجًا وكلمات أمي ترنّ في أذني: لا أعرف ماذا سأطبخ اليوم. هززت الوعاء بيدي وأنا مصمّم على أن أعود بصيد وفير، بأكلة فقع شهية، أو بأية أكلة بقلية تليق بذلك الجو الشتوي البارد. عندما قلت لنفسي هذا، خطر في بالي صديقي شريف ابن عمي المُهجّر، فتوجهت من فوري إلى مسكنه في أقصى القرية. ما ان اقتربت من هناك حتى وجدته يطلّ من عطفة الدرب المفضية إليه. ابتسم شريف: أهلًا سعيد. كنت في الطريق إليك. انتابني شعور طيب حافل بالأمل. ابتسمت، فسألني شريف عن سبب ابتسامتي، فرددت عليه قائلًا إنه سبب ابتسامتك ذاتها قبل قليل. ومضينا في الطريق المفضي إلى سهل ابن عامر الممتد قُبالة قريتنا.

ركضنا كثيرًا وتوقفنا قليلًا. وعندما شارفنا شجرة الخروب المشهورة في عُمق السهل توقفنا. قال شريف وهو يرسل نظرة آملة إلى السماء المتلبّدة بالغيوم:

- بعد قليل ستمطر..، وتابع وهو يهز وعاءه الأسود العتيق بيده الصغيرة: سأملأ طنجرة أمي بالفُقع.. اليوم سنأكل لحمتنا.. هيا نبحث عن الخير في أرض الله الواسعة.4460 فان جوخ

رفعت وعائي عاليًا وانطلقنا معًا نبحث عن الفقع. كنا نفتش بين الزروع عن كنوزنا المطمورة هناك، غير أننا لم نعثر على فُقعة واحدة. جُبنا رباع السهل طولًا وعرضًا، إلا أننا لم نعثر على ما بحثنا عنه. كنا نبحث ونبحث آملين أن نعثر على فُقعة مباركة تفتح لنا باب نظيراتها الرائعات، غير أن هذا لم يحدث. بقينا نبحث حتى ساعات الضحى المتقدّمة.. وعندما أوشكنا على اليأس، طلب مني شريف أن نرتاح قليلًا فجلسنا على حجرين ناتئين قرب الخروبة ذاتها. عندها أخذ الرذاذ بالتساقط رويدًا رويدا، ابترد الجو وابتدأت طيور الرزور بالتوافد أسرابًا أسرابًا، حتى ارتشمت سماء القرية بها. أطلق شريف ابتسامة العارف ورفع وعاءه نحو السماء:

- جاء الفرج.. بعد قليل ستُمطر زرزورًا.

ما ان نطق بهذه الكلمات، حتى شاهدنا الصيّاد منيب المصري، يوجّه جفته نحو السماء، لتمطر بالفعل هذه المرة زرزورًا مُباركًا، ركض شريف وركضت وراءه حيث شاهدنا عددًا من الزرازير يتساقط هناك بعيدًا عن صيّاد القرية الميميون، انحنى شريف كذلك انحنيت أنا بين الزروع .. انحنينا باتجاه الأرض وكل منّا يعبّر عن فرحه بالعثور على أحد الطيور المُصابة، وفي حين التقط هو طيره بصمت، أوشكت أنا أن أصرخ:

وجدت زرزورًا آخر.

وضع شريف وعاءه حيث وقف قريبًا مني، واندفع نحوي مكممًا فمي:

-تفضحناش.. إسه بسمعك المصري..

فهمت الرسالة بسرعة فانكمشت على وعائي مصمّمًا على أن أعود إلى خُشتنا وبيدي طبخة اليوم الشتوي العظيم. خلّصت فمي من يد شريف، ارتددت إلى الوراء وأنا اطمئنه أنني سأضبط لساني مهما جرى، فأنا أعرف بالضبط كما يعرف هو إن الصيّاد لن يسمح لنا بأخذ صيده حتى لو امتلأ السهل زرزورًا.

نظر كل منّا إلى الآخر بتواطؤ مُحب. وما ان بدا أننا اتفقنا تمام الاتفاق حتى سمعنا طلقًا يلعلع في سماء السهل، لينهال سرب كامل من الزرازير على الخروبة القريبة. أرسل كلٌ منا نظره إلى الخرّوبة كانت مزينة بالعشرات من الزرازير. وبدت كأنما هي أثمرت تلك الزرازير.. نسينا، أنا وشريف، نسينا نفسينا وطرنا باتجاه الخروبة، تسلّقناها غير عابئين لفروعها القاسية ولا لما خلّفته في جسدينا الغضين من جروح وخدوش، كنا نريد أن نصل إلى الزرازير في أطرافها.. في اعماقها وفي كل موضع تألقت فيه. واندفعنا باتجاه أعلى الشجرة، كنّا نعرف أن الخير هناك في الأعلى، وفجأة امتدت يد كل منا إلى زرزورة عالقة في قمة الشجرة. وامسك كل منا بطرف منها:

-هذه لي. هتف شريف فصرخت به: بل هذه لي.

وتصاعد الموقف الصعب بيننا.. هذه لي.. بل هذه لي انا.. وبين هذه لي وهذه لي.. اشتبكنا بالأيدي، لنجد أنفسنا وقد سقطنا من أعلى الخروبة، على الزروع الخضراء المخضلة بالمياه السمائية المباركة. لم تكن الوقعة صعبة، رفع كل منّا رأسه باتجاه الآخر. وهو يبحث عن خيره السماوي الوفير، لنرى الصياد يقهقه.. ويطلق صلياته النارية الغاضبة في سماء السهل. ما أن رأيناه في تلك الحالة من النشوة والغضب حتى فررنا كل في اتجاه..

***

قصة: ناجي ظاهر

.................

*من المجموعة القصصية "المصيبة الثانية". تصدر قريبا.

 

 

في نصوص اليوم