نصوص أدبية

علي فضيل العربي: النّسـر

كان دائما محلقا فوق القمم. كأن لسان حاله يردد:

ـ قمم.. قمم.. قمم.. ما دونها ذل وندم..

ديدنه التحليق في أعماق الفضاء، لكنّ عينيه الحادتين أبد الدهر تراقب كل ما هب ودب في السفوح والجداول والخمائل وساحل البحر. كأنهما عينا رادار طائرة بلا طيّار.

عهدي به ـ إذن ـ محلقا . حفظت مواعيده بدقة. وتعودت أن أملأ به بصري وأحيّيه بكلتا يداي، وكنت أشعر وأدرك أنه يبادلني التحية بأن ينطلق نحوي كالسهم ثم يدور دورة كاملة فيرسم بحركته تلك دائرة مغلقة.

وكان يبدو أنه يرنو إليّ مبتسما، فرحا، يكاد يطير نحو عوالم أخرى من شدة الفرح.. توطدت بيننا العلاقة، فكنت أراه ويراني. أحييه ويحييني. وكنت أبتسم وأنا أرمق في أعين العجائز القلق والتوجس وهن يرددن:

- احذروا الحدأة، إنها تخطف الدجاجات وصيصانها.

أقول لهن من وراء حجاب الصمت:

- هذا باشقي.أعرفه حق المعرفة. ليس خطافا. أمين. لا يعتدي على حرمة أحد.

هي الصداقة يا صديقي الباشق والوفاء يوجبان عليّ ذلك الموقف.. ليس كل الناس من برعم واحد.. صحيح إن الطينة واحدة، لكن البراعم شتى.. نسري ليس ككل النسور صرت أميزه بين أقرانه في الجنس، في كل حركاته..

ـ 2 ـ

وحدث ما لم يكن في الحسبان.. افتقدته فجأة.. خلت السماء من ظلّه.. ملأت الظنون كنانة نفسي.. منذ عرفته لم يغب عن ناظري يوما كأنه الشمس في بزوغها ومغيبها.. أوجست خيفة. نذير الشؤم أسرع عادة إلى النفس من فأل الخير. هو الإنسان في هذا الزمن حالت طباعه ورغباته.. لم يعد يثق حتى في نفسه.. أورثته الحضارة الغربية المزعومة قلقا لا حدود له..

رددت بهمس من يؤمن بأن للجدران آذان:

- ربما ألمت به وعكة صحية فلم يقو على التحليق.. أواه.. ربما أصابه مكروه.. أو أصابته طلقة بندقية طائشة أو مصوبة غادرة .. أواه..

ثم رددت:

ـ أف.. اللعنة على الهواجس اللعينة والأفكار التي لا تسر الأحياء ولا الأموات..

مر يوم.. يومان.. ثلاثة.. أواه.. ثقلت الدقائق والثواني. طفقت مشاعر القلق المشحونة بالشوق تحبك خيوط عناكبها في شكلها التصاعدي، فتفرز بدايات المرارة والأسى.

رحت أنتصب على الربى تباعا لعلّني أبصره محلقا، قادما نحوي ليبذرالأمل في حقول.

اليأس.. أردد بلكنة الواقف على حافة هوة سحيقة لا يُعرَفُ لها قرار:

- ماذا دهاك يا نسري؟ أم أنك مللت منّي، واستوطن الجفاء قلبك؟ أم غيرت فضاءك؟ أخشى يا نسري أن تكون الظنون قد فعلت بعقلك كما تفعل غانية بمعجبيها.

تتناسل لحظات الانتطار والترقب. تحل قوافل المساء مخلفة وراءها مزيدا من القلق. ولاشيء في الأفق غير أسراب من الغربان والسنونوات والقطا العائدة إلى وكناتها. هكذا - إذن – يا نسري يصبح الفضاء مسرحا للبغاث عندما تهجره . يغدو مباحا لكل من سولت له نفسه العبث.. الفضاء يا نسري العزيز دونك صفحة سوداء.. أو هو أرض خراب، يباب.

-3-

وتفضي إليّ نفسي باحتمالات مبعثها القلب تارة، وكرة أخرى منبجسة من حوض  العقل. هي الحيرة تطل من شرفات حالكة الجنبات. تصحو المناجاة في غياهب الحنين. وحدها الكلمات تخوض المعركة في زمن العجز. آه يا نسري هل وقعت – في لحظة غفلة – في شرك صياد ماكر من الإنس أو الجن؟ أم أردوك قتيلا فوق ربوة أو قمة. عهدي بك أنّك تعشق القمم، وكلما أصخت إليك سمعتك تردد:

ـ قمم.. قمم.. ما دونها ذل وندم.

فأمسيت يا عزيزي طعاما للنمل والدود والثعالب تنوشك وتقضم عظامك.. أخًّ من زمن تصبح فيه النسور جيفة لبغاث الطير.. أعذرني يا أيّها العزيز الغائب.. نحن في زمن لا عهد لنا به.. الأعمى يقود البصير، والدابة تركب صاحبها، والسيدة تخدم أمتها.. أف.اللعنة على هذه الفلسفة العقيمة. ما دخلي أنا بين الدجاجة والبيضة؟ أنا همي الوحيد أن أراك سليما، غانما، بعيدا عن أيّ مكروه.. محلقا في الفضاء ومرددا ترنيمتك الجميلة:

قمم.. قمم.. ما دونها ذل وندم .

آه يا نسري العزيز، أتراك غيّرت موطنك ورحلت إلى برّ آخر دون وداع ؟ كديدن (الحراقة *) الذين أحرقوا أكباد أمهاتهم.أيعقل أن يعبث الشيطان الرجيم بعقلك كما لعب بعقول آلاف الشباب الأبرياء، ورماهم في البحار الخضمة ولججها؟.. لا.. لا.. لا يا نسري لا أظنك تهجر هذا الوطن الجميل الذي لا مثيل له ولو في الأحلام.. وتمسي (حراقا)** في أرض لم ينبت منها عظمك وريشك ولا نضج من تربتها ونسائمها جلدك.. هناك ستشتاق إلى القمم. ستنسى أغنيتك.. وستضرب على رقبتك دون أن ترفع عينيك في جلادك.

سيسألونك بفظاظة :

ـ ما الذي أتى بك إلى أرضنا؟ من وراءك ؟

ثم يقال لك بكل قسوة :

ـ أنت مسخ في صورة نسر.. لو كنت نسرا حقيقيا ما تركت وطنك وأهلك..

وفي تلك اللحظة بالذات تشعر بالخنجر قد اعتراه جنون الفتك في أعماقك..

-4-

وتركض الأيام سراعا كخيول بلا قوائم.. مازال نسري غائبا عن سواد العينين.. ما باله لم يحركه خيط الحنين إلى من فؤاده قد ذاب شوقا إليه.. انكسرت جرار الصبر وتهشمت مراياه.. قررت البحث عن نسري.. أمتطي صهوات السبل حتى آخر رمق، حتى أدرك مصيره.

قلت وأنا أزجي الخطى:

- لن أبرح البحث مهما كانت السبل وعرة.. سأجده إن كان مازال حيا يرزق أو لم يرحل إلى موطن آخر..

ثم عقبت:

- ربما هو الآن طريح التراب، عاجز عن الوقوف. ينتظر من يسعفه.طوّحت به ريح أو رصاصة غدر في فج سحيق أو هضبة شائكة الأيك، ينتظر بفارغ الصبر الخلاص على يد من يحبه.. خشيت أن يكون الأمر كما انبثق في ليل الخواطر.لا.لا.لا. أعرف نسري عز المعرفة.لا يستجدي أحدا.لا يشكو لمخلوق.أبيّ النفس، شهم، صبور.لا.لا. أليس لكل جواد كبوة؟ والدهر أنيابه حادة، ومخالبه جارحة.. من حقه أن يلومني إن فرطت فيه.. ما حاجة المرء للصديق إذا لم يعنه على صدّ سهام النوائب؟ آه يا نسري العزيز ما أبشع هذا الزمن. قلّ فيه الوفاء.وكثر الغدر. ارتفع الخفّ وقُصف المثقّل في الدرك الأسفل.يا إلهي ما ذا دهاني أأشكو لك الهمّ وأنت لي همًّا؟

رحت أخوض الدروب ؛ القمم والهضاب والفجاج. أمشي تارة وأحبو تارة أخرى كالطفل المشتاق إلى حليب أمه. أقفز فوق الصخور الناتئة كموجة بحر خريفية. كنت أردد في قلب الفضاء الأرحب:

ـ أين أنت يا نسري العزيز؟ كلمني أرجوك. اشتقت إلى ملحمتك . قمم.. قمم.. ما دونها ذلّ وندم. فيعود إليّ صدى النداء ويملأ سمعي.. يستهويني رجع الصدى فأنادي وأنادي وكأنني عثرت في هوة النداء الذي لا قرار له..

ازدادت نيران الشوق لهيبا. لم تفلح تلك الدروب الملتوية،الممعنة في الإصعاد والإنزال في كبح جماحه. لا شيء كان يوقفني هنيهة، غير ريشة تائهة علي أجنحة النسائم المقبلة من بين جوانح القمم أو رياح لينة تسللت بين الفجاج.

كنت أسأل:

- من أين قدمت يا ريشة؟ من أيّ جناح طائر أنت؟ وأرجو الرياح والنسائم أن تبوح لي بالخبر اليقين والسرّ الدفين.. أيّ يد آثمة ألقت بنسري في كهف النأي؟ أيّ يد مضرجة بدماء البراءة قصت جناحيه، ونثرت قوادمهما في مصب ريح عاصفة؟

وكنت ألمح أسرابا تمرح بين زرقة السماء وخضرة الأشجار، فأصرخ وكف الأسى تقلب القلب على جمر اللّظى:

- يا طيور القطا، أحمّلك سلاما، فبلّغيه إلى نسري العزيز..

-5-

بلغت قمة القمم بعدما أشربتني الدروب كؤوس الشوق والعناء حتى ارتويت.. تنفست الصعداء وسرحت بصري في كل زوايا المكان.

قلت هامسا:

- ما أروع القمم.. لك الحق يا نسري العزيز أن تنشد مزهوا:

ـ قمم.. قمم.. ما دونها ذل وندم.

جئتك على عجل لما طال غيابك.أين أنت يا نسري العزيز؟ القمم في غيابك مزابل نتنة

كان الصمت سيّد المكان. وشمس الأصيل تلملم خيوطها بألحان صوفية. كانت أناملها تنسج بردتها الأرجوانية، دمدمت كما الريح الخريفيّة بين الفجاج:

ـ ربّاه.. هل قدري أن لا أرى نسري ولا يراني؟

بدت لي القمة كئيبة بلا لذة. أرض سكنتها بغاث الطير.. قلت حانقا:

- هكذا يا دهر تهب القمم لبغاث الطير.لا.لا. نسري لم يمت، لم يهاجر، لم يبع قمته، فهي شرفه. لم يكن(حرّاقا). هو أعقل من هؤلاء الشباب الذين رموا أرواحهم في أتون التهلكة. نسري لم ينتحر(حرقا) ولا رمى نفسه من قمة. نسري ابن القمم. فيها يحيا وفيها يحين أجله.. ولسان حاله يردد:

ـ قمم.. قمم.. ما دونها ذل وندم..

لم أدع حجرا ولا صخرا إلاّ وكلّمته. فتشت في كل موضع وصلته قدماي.. كنت كالمحموم جنّ ليله الطويل، وجثم على صدره مسترخيا كسكير فقد عقله وتوازنه. كان أملي أن أجده. حياّ أو ميّتا.. كان الخوف من المجهول ينهش القلب . كيف أتصرف لو وجدته جثة هامدة ناشتها الغربان والبغاث أو الثعالب؟ لحظتها أهوي مغشياّ عليّ، وربما تكون نهايتي.

قفلت عائدا إلى عتبة البداية. كنت أسابق خيوط الدجى. تراءت لي الدنيا ليلا منثور الكواكب. كنت أجرجر الروح كالعائد من معركة ووسام الهزيمة على صدره:

- ها أنا عائد يا نسري العزيز مهزوما، مكلوما. لكن سأنتظرك فوق ربوتي كما عهدتني. لن أنساك ما دمت حيّا.مادامت عيناي تبصران قمتك، ولساني يردد ملحمتك:

ـ قمم.. قمم.. ما دونها ذل وندم.. .

***

(تمت)

بقلم: الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

.. .. .. .. .. .

* (الحرّاقة): لقب أطلق على المهاجرين السريين نحو أوروبا.

** (حرّاقا): مهاجرا سريّا.

 

 

في نصوص اليوم