نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: نثرات من صباي

خوفا من مداهمة الجنود الفرنسيين الذين نزلوا المدينة العتيقة بفاس* فاحتلوا الأزقة والطرقات، كانت أبواب المنازل في حينا، كالنوافذ داخل البيوت، تطبق أبوابها، ومعها نطبق نحن الصغار عيوننا للنوم قبل أن ينزل الظلام وتصير بيوتنا كأقبية بلا أنوار، فأن ينفذ بصيص نور من شق باب أو نافذة، فمعناه هجمة محققة على البيت من قبل العساكر، وتقليب البيت راسا على عقب، تعقبا واحتراسا من وجود فدائي، أوجلسة ظاهرها سهر عائلي، وحقيقتها تدبير مؤامرة تحاك ضد المستعمر الفرنسي ..

قلقا على أبي كانت أمي تظل نازلة صاعدة أدراج بيتنا الثالثة والثلاثين مترقبة طرقات الباب، لا ترتاح حتى يدخل البيت بعد أن يكون قد صلى العشاء في مسجد القرويين* او مولاي أدريس*، مصرا على صلاة الجماعة وقراءة الحزب القرآني بعد المغرب، ومتحديا عساكر فرنسا الذين كثيرا ما يتعمدون عقابه بتركه ينتظر مع غيره ممن تأخروا وراء الرتاج الضخم الذي يفصل المشاطين* عن بين المدن* وحي البليدة* حيث دارنا الواقعة بين دار الدبغ شوارة* وبين مولاي أحمد الصقلي*. والتي ينغلق رتاجها بعد المغرب مباشرة الى أن يصدر القائد الأعلى للكتيبة حسب مزاجه وحسب غليان المدينة أوهدوئها إذنا بفتحها ..

لم يكن والدي مجهولا لدي العساكر، فالشريف اصيل النسب، يحمل تاريخا عريقا، مشغول بذكر الله، بعيد عن السياسة، لا ينتمي لحزب أو منظمة ولاحتى جمعية، وبيته ـ دار الزاويةـ لا يدخلها الا الفقراء من اجل الذكر، أو أفراد العائلة للتزاور وصلة الرحم ..

في الصباح، قليلا ما كنت ألتقي بأبي، فهو يخرج لصلاة الصبح في عز الظلام في مولاي احمد الصقلي* ولا يعود الا بعد صلاة الضحى حيث اكون قد انصرفت الى المسيد (الكتاب) ..

ذات يوم خميس وقد ضاق سكان المدينة بالحصار، وساد الشلل جل المرافق حتى ضاقت سبل الرزق بالناس، استنجدت بنا احدى بنات خالتي، فاعدت أمي ترابية (قفة كبيرة من الدوم) من الخضروالقطاني، والسميد، قنينة زيت وطنجية للخليع (قديد تشتهر به مدينة فاس}، وقبل أن يحملها ابي الى بيت بنت خالتي دخل بها الى احدى الغرف التنتين في بيتنا، غاب قليلا ثم عاد وفي قعر القفة لفافة من ورق أزرق كالذي يكون على قوالب السكر، ثم نسق فوقها قالبا من السكروعلبة شاي، وربطة من قنارية (خرشوف) وخضرا متنوعة وقبضتين من قصبرة خضراء ومعدنوس، وربطة كبيرة من النعناع، ثم خنشة السميد الورقية، وكلفني بحمل طنجية الخليع*، أما القطاني وكانت في" كموسات" من ثوب (أكياس صغيرة) فجمع عليها اسفل جلبابه وحين سالته امي لماذا ؟ خاصة وهي تعرف أنه لا يرتدي السراويل ابدا قال: لله في خلقه شؤون ..

استغربت امي لرده كنت معها مثل" العروبي في الشماعين"* .. ميت العصر مايدي خبار ما يجيب خبار"*

كانت بنت خالتي تسكن قريبا من سيدي أحمد التجاني*، واقرب طريق اليها ان نقطع حي البليدة*، أو نأخذ طريق درب الطويل، لكن أبي فضل ان يخترق المشاطين* ثم الصفارين* صاعدا السبطريين*، حين سألته: قال بلهجة الأمر: ـ زد واسكت ..

ما أن تجاوزنا سيدي أحمد الجازولي في باب النقبة وبلغنا جامع ابن عبد الصادق* حيث دكاكين المشاطين* حتى باغتتنا وحدة عساكر فرنسيين مصوبين بنادقهم الى وجوهنا، ارتعبت، أغلقت عينيَّ من خوف، وأحسست قلبي سيتوقف عن الخفقان، في حين أن والدي ظل ثابثا رابط الجأش كأنه متعود على مثل هذه المواقف، يركز النظر في أحد الجنود الذي أثارتني حمرة وجهه كأن الدم منه يكاد يتفجر في وجوهنا،

ورائحة كريهة تنبعث من فمه حين يهم بالكلام:

ـ شنو يكون تم سيدي؟ في نفس الآن أخذ مني آخر وكان أسود اللون تبرق عيونه بريق اسنانه البيضاء طنجية الخليع* من يدي، نزع عنها غطاءها المحكم بلفات الثوب والطين كالصلصال الذي نمحو به ألواح المسيد (القفال)، ثم شرع يحركها قريبا من أذنه، توهمته يبحث عن قديدة كبيرة يريد أن يلتهمها، أما أبي فوضع الترابية التي كانت في يده على الأرض ثم رفع طرفي جلبابه بكلتي يديه الى أعلى، فتبدد ما كان مجموعا وظهر ما جعل الجنود يصيحون ويضعون أيديهم على وجوههم:

ــ حشومة سيدي، انت ما يلبس سروال؟ امش سيدي أمش ...

أنزل ابي طرفي جلبابه دون أن يرد بكلمة، وشرع جنود ثلاثة يجمعون أكياس القطاني التي تبددت على الأرض ويضعونها قلب طية الجلباب طالبين منه بإشارة من أيديهم انزاله قليلا الى أسفل،  ثم تابعنا السير عبر المشاطين* تشيعنا قهقهات الجنود :

حين بلغنا حانوت ابن الراضي السلاوي* وكانت مقابلة لدكان أبي في السبطريين، دعاني لنرتاح قليلا؛ اقبل علينا شاب وكأنه كان على موعد مع أبي، تسلم من والدي القفة، غاب قليلا داخل حانوت ابن الراضي ثم رجع بها دون أن يتغير لها شكل ..

ونحن نتابع الطريق الى بيت بنت خالتي شغلني سؤال لماذا أخذ الشاب القفة ؟ ماذا أضاف أو نقص منها ؟

في رحبة القيس*وجدنا وحدة أخرى من الجنود تقدم منا أحدهم، اكتفى باطلالة على ما نحمل ثم تقليب مافي القفة بيده، دون أن يهمل تحريك الطنجية سائلا عن وجهتنا، ثم تابعنا الطريق نسلم الأغراض لأصحابها..

عدنا خفافا من نفس الطريق، لكن شققنا الشماعين* ثم راس الشراطين* الى باب السنسلة* حيث اشترى ابي شفنجا (فطائر مقلية) قبل أن ندلف الى "مول الروس" (بائع رؤوس الغنم المبخرة)، تلك كانت متعة لحظات كثيرا ماكان يخصني بها والدي، في بعض الصباحات أو يعوضها مساء عند "مول الكواح" (قضبان الكبد تشوى على الجمر} ..احيانا كان يعوض شراء الكواح بريالين أو أكثر، فابادر الى" بَّا الكبير" مول الكرداس* في باب السنسلة* ..

ماكان يغيضني أنه كلما جلست مع ابي في دكانه الا

 وتزوره سيدة متسربلة في حايك صوفي أبيض لا تظهرمنها غير عين واحدة، عكس والدتي التي كانت ترتدي الجلباب وتغطي وجهها بلثام مطرز، ما أن تقف السيدة بباب دكان ابي حتى يخرج لها مفتاحا كبيرا من تحت اللحاف الذي يجلس عليه، تغيب بلا عودة، ويأتي بدلها بعد حين رجل بنفس طولها يرتدي" دراعية " فضفاضة، يغطي راسه بعمامة صفراء كالتي كنت اراها على رؤوس الجزائريين في حلقات جنان السبيل* كلما زرت عمتي الكبيرة الساكنة في فاس الجديد*، فيقدم نفس المفتاح الى والدي الذي يعيده الى مكانه الأول ..كان سر المفتاح يأخذ بكل تفكيري، من تكون المرأة التي تأخذ المفتاح؟ ولماذا يعوضها رجل عند استرداده ؟ وما علاقة أبي بهما معا ؟

لم استطع كتمان الامر على أمي التي قالت لي بلهجة حازمة: "أنت فضولي ادخل سوق راسك لو أخبرت اباك لمنعك من زيارته في دكانه".. أضحك وأرد: وشكون يتسخر لك عندو ؟ لم أكن اقصد التحدي بقدر ما كنت افكر فيما يمنحه لي ابي من ريالات ومشتهيات ..

كم كان يحيرني هذا التوافق والاتفاق الذي كان بين أمي وابي، هو عكس ما كنت ألاحظه في بيت عمتي الصغرى الساكنة في الدور الأول تحتنا والتي كثيرا ما كان النزاع بينها وبين زوجها يتفاقم الى أن أدى بهما الى الطلاق ..

.كنت أعي وأحس محبة ابي واعتزازه بي، حتى أنه لم يعاقبني غير مرة واحدة في حياته وقد كلفه عقابي دموعا واستنكارا من قبل أمي ثم ركضا الى ساحة الرصيف* لجلب أحد زرزاية (حمال أمتعة على كتفه) حتى يضع جبيرة ليدي . أذكر اني نزلت لأملأ سطلا من الماء من السبالة حيث لم يكن بيتنا مرتبط بشبكة التوزيع العمومية، انشغلت باللعب مع رفاقي ونسيت حاجة أمي الى الماء فتأخرت، لما صعدت البيت تسلم أبي مني السطل ومسك يدي اليسرى، كنت ادرك أنه سيعاقبني، فشرعت أتنثرمنه، لما أطلق يدي لم تكن ورائي غير باب الفوقي (بيتنا)تراجعت متدحرجا على الادراج، فتكسرت من مرفقي ومعصمي ... رغم هذا لم أشك لحظة في حب أبي لي، فانا بِكرُه بعد ست سنوات من زواجه من أمي التي أتت بعد أن فرض عليه جدي تطليق زوجتين قبلها، واحدة بعد الأخرى لم ينجبا له ...

لا أذكر ممن ولدتهم أمي غير أخي الغالي وأختي نفيسة، لكن الصورة تظل قوية عن أختي بهية التي أتت بعد أخي الغالي وماتت، وقد تجاوزت السنة ونصف وكما كانت تحكي أمي وقلبها حرقة على فراقها كونها البنت الوحيدة التي أتت بعد أربعة من الذكور، اثنان بعدي، مات أحدهما بالغيال، والثاني جراء بوحمرون (الحصبة)، وماتت بهية بضربة عين !! .. لما وهبها الله من جمال العيون ودقة التقاطيع، وقد صارت أمي بعد موت بهية كمن أصابها الاكتئاب، الوهم والوهن الى أن عوضها الله بنفيسة بعد ذكر مات هو الآخر فصارت قرة العين التي استحوذت على قلبها ..

ذات صباح عاد أبي بعد صلاته بزلاك من الشفنج (أوراق النخل تحمل فيها الفطائر مثل خيط السبحة) وفرخ (سلل صغيرة من قصب) من الكرموس (التين) وآخر من التفاح طالبا من أمي أن تفتح النوافذ لتهوية البيت، على لسانه بشرى مغادرة الجنود الفرنسيين الأزقة والدروب تاركين خلفهم متاريس الرمال والطوب والحجر .. تنفس الناس الصعداء بعد أن استعادت المدينة نشاطها، عاد الحرفيون الى درازاتهم والتجار الى دكاكينهم ومتاجرهم وشرع الناس يتحدثون عن الاستقلال، والمفاوضات وعودة الملك من منفاه، وخرج عمال دار الدبغ شوارة (محل دباغة الجلود) في مظاهرات بأهازيج، كم أبهجتنا نحن الصغار وجعلتنا نقفز بين ألأرجل فرحة:

"كان منفي ورجع قلبو سليم فرحان، على سلامتو سيدي محمد" ..

كثير هي الأشياء التي كانت تغيب عن ادراكي، فأنا لم أكن أعرف أن بُعدَ أبي عن الشبهات كان يستغله في إخفاء المنشورات والسلاح في دهليز يقع عند مدخل بيتنا مساعدة للفدائيين الذين كانوا يحاربون الاستعمار الفرنسي، وضدا على أحد أبناء عمومتنا مزوار(نقيب) الشرفاء الذي باع نفسه للاستعمار والذي كانت بينه وبين والدي نزاعات قوية، وقد سمعت والدي يقول له يوما وقد اتى الينا يتبرأ مما قد يقع لأبي اذا استمر في علاقته مع ابن الراضي السلاوي*:

" آبوبكر!! .. اليوم راك سبع عندك يدور الزمان وغدا نصيبك ضبع .."

لم أكن اعي معنى استعمار ولامفاوضات أو استقلال، ولا معنى نفي الملك ..بل حتى الخصام القوي الذي كان بين ابي وبوكر ابن عمنا لم استوعب أهدافه الا بعد أن كبرت ..

أشياء كثيرة وقعت في حينا، ظلت راسخة متجذرة في نفسي، بعضها ظل يراودني في أحلامي زمنا طويلا من قوة الأثر، منها: يوم تصفية أحد الجواسيس اسمه الجامعي في باب النقبة* بجانب دريبة (تصغيردرب مول الكيف، كنا أطفالا ثلاثة عائدين من الصفارين* التي قصدناها لشراء شلوان (مسحوق الحمص الناضج) لازلت الى هذه اللحظة أستحضر القاتل بكل تفاصيله، قامة قصيرة، بجلباب أسود وطربوش أحمرعلى الرأس، لحظتها تم اقفال جميع الأبواب وحوصرنا بين المشاطين* وسيدي ابن عبد الصادق* ثم أتى رجال الشرطة وقادوا جميع المحاصرين الى كوميسارية النجارين، يومها بكيت بحرقة متوهما أنهم سيقتلوننا، لكن لم يطل الامر كثيرا حتى أخرجني شرطي ليطمئن عليَّ أبي الذي اقبل باحثا عني، لم يطلق يومها غير سراح الأطفال في حين ظل الكبار في الأسر.. أول ما سألني ابي بعد وصولنا الى البيت: هل رأيت القاتل؟ ثم حذرني أن أتفوه مع أي كان بما رأيت .. تلك كانت واقعة كم هيمنت على نفسي وحرمت عليَّ تجاوز باب بيتنا واللعب في الدرب مدة ليست بالقصيرة، بل حرمت علي زيارة دكان أبي ومشتهياته...

ثم تأتي واقعة أحد أتباع الفقيه الزيتوني* الذي ذبح حصانه النافق في الروى الملاصقة لبيتنا، وبدل أن يستدعي السلطات لتقوم بواجبها في مثل هذه الأمور، شمر عن ساعديه وشرع يقطع الحصان أجزاء ويرميها في واد بين المدن*، فانكشف امره بعد أن اكتسحت الحي روائح النتانة، وقد كانت فضيحة كبرى ذاعت وشاعت مما دفع الكثير ممن كانوا يعتنقون طريقة الفقيه الزيتوني ويثقون بأقرب تابعيه وما يفرضونه من تشدد في الدين والبعد عن مظاهر اليسر التي ألفها السكان، يتخلون عنه بعد ان استفحل امره وصار يفرق بين الاب وابنه والمرء وزوجه، وينعت من لم يتبعه بالكفر، وكأنه قد أعاد الناس الى زمن البعثة: مومن وكافر، فتعالت خصومات البيوت بين افراد الأسرة الواحدة، وبدا التفكك يسري بين العائلات، طلاق وفرقة وهجر ... . حاصرته الدولة في بيته ومنعته من الخروج بعد أن كان يشق واصحابه حي البليدة* في موكب استعراضي لأداء صلاة العشاء في مسجد الأندلس*..كنا نحن الأطفال نصعد سطوح الدرازات* وقد ملأنا أفواهنا بالماء نستفرغه على طابور رجاله وأطفاله الذين كانوا يتميزون بحلق رؤوسهم وجلابيبهم القصيرة فنتصايح بيننا:" تبولوا بسرعة " كل هذا لتشكيك أصحاب الزيتوني في طهارة ثيابهم، فنراهم يتراكضون وهم يصوبون أضواء بطاريات يحملونها نحوالسطوح..

في أحد ليالي رمضان نمت بعد فطور المغرب، ثم صحوت على نداء أمي تكلفني بسخرة عند ابي في دكانه . نزلت من بيتنا والنوم يطبق علي لا أدري الى أين أسير، دون أن أدري دخلت الدهليز المهجور اسفل البيت وهناك تابعت نومي وانا لا احس بمكان ولا زمان .. عاد ابي من دكانه وتفاجات أمي اني لست معه واني لم اصل الى الدكان ..ظل البحث عني طوال الليل، ما ترك ابي مشفى ولا مركز شرطة الا وزاره بحثا عني، جنازة في البيت تقيمها أمي وخادمتنا، وحركة بين الازقة والدروب بحثا عن الطفل الذي سرقه الجن فلا أحد تصور ان تكون سطوة النوم قد غيبته في مكان لا يمكن أن يلتجئ اليه وهو من كان يخافه نهارا فأحرى أن يقصده ليلا ...

كان يطلق على بيتنا منزه درقاوة*، كان قد اهداه الملك مولاي سليمان العلوي الى جدنا مولاي العربي مع رياض كان مدخله في السبع لويات*، باع جدي الرياض لتزويج الفقراء، وحافظ على المنزه كمأوى له لموقعه الذي كان بمثابة اطلالة تشرف على مدينة فاس بصوامعها وقببها ودورها العتيقة الأصيلة، .كان الفقراء (المريدون) القادمون من خارج فاس يقضون ليلهم في الزاوية بحي البليدة* وهي أول زاوية بناها جدنا يجتمع فيها درقاوة ومريدو الطريقة ويأتون لبيتنا من أجل طلب الأكل الذي كان غالبا خبزا وتينا، أو رغائف بالسمن والعسل أو كسكسا أيام الجمع ..

أحد غرف بيتنا كانت بها نافذة تطل على زاوية للا ميارة*، تسكنه امراة في الثمانين، مجذوبة يعاملها الناس لسنها ونسبها

 وزهدها، كانت لها لازمة ترددها حين كانت تستشعر خطرا قادما للمدينة، يتوهمه الناس من جهل وثقة بالأولياء إخبارا بغيب :

"الماندرين (فاكهة اليوسفي} الكبير غادي ياكل الماندرين الصغير، مشى للي مشى وبقى للي بقى" "الحجر غادي يضرب الحجر"

حين أكون عائدا من المسيد الواقع بدرب الطويل أمرعلى زاوية للا ميارة*، اتسلل الى الداخل، اذا وجدت للا كنزة ساكنة الضريح تراحعت، واذا لم اجدها تقدمت صوب "الهيدورة" (قطعة من جلد الخروف) التي تجلس عليها ارفع طرفها وآخذ ما أجده من نقود تحتها ..

ذات ليلة والفصل حار ونحن نائمون على السطح، حلمت كان للاكنزة تتسلق السور الذي يفصل بيتنا عن الضريح، في يدها ثعبان ضخم تريد ان تكتفني به، افقت خائفا مفزوعا أبكي، بادرتني أمي تسالني عما بي فاخبرتها بما كنت افعل، في الصباح اعطاني أبي أوراقا مالية وأصر ان ادخل عند للا كنزة واعترف لها واعطيها الأوراق المالية ..

كان أبي يريد أن يواجهني مع نفسي، أن أكون صريحا معها صادقا بعبدا عن مس ماليس لي، لكن لحظتها كان الامر شاقا بالنسبة الي، فقد ركبني رعب مخيف وهي تصيح في وجهي:

ــ شكون أنت ؟

أخبرتها وانا أكاد اتمتم:

ــ انا ولد مولاي سليمان ..انا للي خذيت لك الفلوس ديالك، را با عطاك هادو ...ثم بسطت يدي أمامها ..

حدقت في وجهي طويلا، وكأنها تقرأ فعلتي التي لا يمكن أن يقوم بها الا لص لا ابن الزاوية سليل الأولياء ؛ رفعت طرف الهيدورة وقالت: حطهوم هنا ..

تقدمت اليها وجلا خائفا، أهتز فرقا، بسرعة وضعت المال تحت الهيدورة، وانا اتراجع قالت:ا وقف بلاتي: غاب دمي، واحسست رعبا يسري في ذاتي، وخفت أن ترميني بالثعبان الذي رأيته في حلمي، فقالت: سلم لي على الشريف، وقل له ولدك مبروك عمرو ما يتخص، ثم قدمت لي يدها وقالت: بًس يدي، لما قبلت يدها البيضاء المعروقة قالت: هات يديك بزوج: قبلتهما معا ظاهرا وباطنا، ومسحت بهما على وجهها ثم قالت: عمرك ما تخاف انت الماندرينا لكبيرة للي ديما مزهرة..

بصراحة طيلة عمري وأنا أحس نفسي مبروكا، ما داهمني ضيق الا انفرج وما توسلت الله في شيء الا أكرمني به، وهبني ربي الكثير مما توسلت وما لم يخطر لي على بال، وما بدلت جهدا ابدا من أجل مصلحة دنيوية، يكفي أن يلهمني ربي، فأبدأ، ثم يتمم الله بعون ونصر وفوز ... أكذب لو قلت أني عانيت في حياتي مشقة مما بلغت، ولعل الحب الذي كان يؤثرني به أبي حتى أنه كان يرحمه الله يفضل أن يقبل يدي على أن اقبل يده هو سبب اليسر الذي حباني به ربي ورافقني في حياتي في كل شيء ..

في آخر سنوات عمر ابي كان يلذ لي أن أزوره في دكانه أسترجع صباي وما عشته من ذكريات، أحد تجار الجلد وكان متجره يقابل دكان أبي (أحمد بنبراهيم) خاطب والدي قائلا له: غبَّرالجنان آمولاي سليمان (كناية عن الرضا ودعوات الخير)فأتى رد والدي في دموع وحشرجة:

"خذا كلشي وماخلا والو، هو خصو يدعي معي ومعك "..

يومها أدركت أني مادمت من أبي محبوبا الى هذه الدرجة فحاشا ألا أكون ملفوفا في رضا الرحمن الرحيم، فالشريف كما كان معروفا به والدي يرحمه الله نية وخير ورجل بركة، وهو الرضا الذي أتوسله لأبنائي وذريتي الى أن نلقى الله ..

وهم فعلا في الرضا يسبحون وبفيض الله وستره يتمتعون ....اللهم أتمم عليهم نعمك الظاهرة والباطنة، واجعلهم أولا أنى حلوا وارتحلوا ..اللهم لا تذر ابناءهم ذكورا واناثا لأنفسهم لحظة عين ولا اقل من ذلك وكن لهم عونا ونصيرا ذرية بعضها من بعض، خيرا من خيرك، وكرما من عطائك، وسترا من حفظك، اللهم يا لطيف الطف بهم فيما جرت به مقاديرك فأنت حق ووعدك حق ولا اله الا أنت ..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب 

........................

تعريفات:

فاس: عاصمة المغرب العلمية، شمال المغرب، أسسها ادرس الثاني عام 182 هجرية وبها دفن

مسجد القرويين: جامع في مدينة فاس المغربية وهي أقدم مؤسسة للتعليم العالي في العالم تم الشروع في بنائه في الأول من رمضان 245 هـ الموافق (30 نوفمبر 859م) بمطالعة العاهل الإدريسي يحيى الأول، وأن أم البنين فاطمة الفهرية هي التي تطوعت ببنائه

مولاي ادريس: ابن ادريس الأول وهو الحاكم الثاني لدولة الادارسة بالمغرب المستقلة عن الخلافة العباسية

المشاطين: أحد الأحياء القديمة بمدينة فاس القريبة من جامع القرويين بها صناع المشط تقليديا من قرون العجول والكباش

بين المدن: يقصد بها بين عدوة القرويين وعدوة الاندلس والمنطقة عبارة عن واد يفصل بين الحضرتين

حي البليدة : أحد أحياء المدينة العتيقة لفاس وأقدمها به تقع دار الدبغ شوارة أول واعرق مكان لدباغة الجلود بعد دار الدبغ سيدي موسى قريبا من مولاي ادريس وثالثة في عين أزليتن بالطالعة الكبرى

مولاي أحمد الصقلي: أحد متصوفة مدينة فاس، وملقن الطريقة الخلواتية

العروبي ف الشماعين: الشماعين مكان مشهور ببيع الشموع والحلويات والفواكه الجافة كثير الأضواء والألوان والأنواع لهذا ينبهر به البدوي حين يزوره فينشغل حتى عن نفسه

ميت العصر: مثل يضرب للذي لايحس بما حوله، غفل غشيم

أحمد التيجاني: الزَّاوِيَة التِّجانِيَّة مُجَمَّعٌ دينيٌ داخِلَ الحي القديم للمدينة في حي البليدة، بالقُرب من جامعة القرويين وهو مكرَّسٌ لمؤسس الطَّريقة التيجانيَّة في القرن 18 .

أحمد الجازولي: صاحب دلائل الخيرات، مجدد الطريقة الشاذلية

سيدي ابن عبد الصادق: هو أبو عبد الله محمد بن عبد الصادق الدكالي الفَرجي، نزيل فاس، العلامة المشارك المدرس المطلع المفتي النوازلي. دفن بالجامع المزدلجة بأعلى حومة الجرف بطالعة فاس.وكانت له خلوة في باب النقبة قريبا من المشاطين لازال يقرأ فيها دليل الخيرات بعد صلاة العصر الى اليوم

ابن الراضي السلاوي: هو والد الفدائي المقاوم محمد بن الراضي السلاوي المحكوم بالاعدام في عهد الاستعمار الفرنسي

رحبة القيس:توجد بالمدينة العتيقة التاريخية قرب العطارين. وقد اشتهرت في الماضي بجامعها المتواضع، كان يجتمع فيه نخبة من علماء الحي والتجار يتدارسون الوضعية الاجتماعية للحي. يقصدهم من أراد أن يزوج ولده أو بنته للمشورة. كما كانت هذه النخبة تسهر على تزويج من ليس له استطاعة مادية..

جنان السبيل بفاس، أو جنان بوجلود، من أجمل الحدائق على المستوى الوطني، يمتد على مساحة تناهز ثمانية هكتارات، ويقع قرب ساحة باب بوجلود التاريخية، محاذيا لساحة البطحاء التي بصمت تاريخ المغرب بالتوقيع على وثيقة الاستقلال في 11 يناير سنة 1944وهو يوم مولدي

فاس الجديد هو أحد الأجزاء الثلاثة المكونة لمدينة فاس شيده يعقوب بن عبد الحق أول ملوك المرينيين عام 1276ملادية المُوافق 674 هجرية كمتمم لفاس البالي، وأطلق على المدينة اسم المدينة البيضاء، إلا أن السكان سموها منذ ذلك الحين فاس الجديد

.باب النقبة كان يطلق عليه قديما باب شيبوبة.وهو أحد الأبواب الاثني عشر الفاصلة التي بناها ادريس الثاني بفاس

الفقيه الزيتوني: أحد المتزمتين الذي لم ينل فتحا في التجربة الصوفية فانقلب ضد كل متساهل فحرم كل شيء وكون اتباعا عادوا بالناس الى أول ظهور الإسلام

جامع الأندلس: جامع الأندلس أو جامع الأندلسيين هو مسجد عريق بمدينة فاس، . بنته مريم الفهرية سنة 859 م وكان قائما في الضفة اليمنى لوادي فاس (عدوة الأندلس

يعتبر الجامع من أقدم المساجد بفاس أخد مكان مسجد الأنوار الذي يعتبر أقدمها حيث تم بناؤه سنة 808.

درقاوة: تنسب الطريقة الدرقاوية إلى الشيخ مولاي العربي الدرقاوي، الحسني الادريسي (1239/1823)، وهي طريقة شاذلية، تلقاها مولاي العربي عن شيخه علي بن عبد الرحمن العمراني الفاسي، المعروف بالجمل، من طريق أحمد زروق، وعن أبي المحاسن يوسف الفاسي من طريق الجزولي. فهي أيضا شاذلية جزولية زروقية.

وتلح الطريقة الدرقاوية على الزهد وكسر شهوات النفس، والعزلة، والتقلل في المأكل والنوم، والاستغراق في العبادة، والإكثار من الصدقة في حال الاستطاعة..

السبع لويات: أحد دروب فاس الطويلة يقع ضمن حضرة القرويين وضريح مولاي ادريس

محمد ميارة الفاسي (999هـ - نحو 1590م / 1072 هـ - نحو 1661م فقيه مالكي من أهل فاس. كان إماماً علامة متبحر في العلوم وكان ثقةً أميناً معروفاً بالورع والدين.ترك زاوية تعد خلفية لمنزه درقاوة فيها كانت تسكن بنته للاكنزة..

في نصوص اليوم