نصوص أدبية

ستار البياتي: سنوات النفط والهذيان

الى: صديقي الذي قال يوماً في منشور:

سيجف هذا النفط الملعون على جلودنا،

أقول:

***

نعمْ أيُّها الحالِمونْ

بحياةِ..

مجردُ حياةٍ في هذا الوَطنْ

برقعةِ أرضٍ قَـدْ تحفَـظُ الكرامَة

يقولونِ..

أنَّها تصْلحُ للسَكنْ بِلا ندامَة

الطامِعونَ ب (شِـبْـرٍ) من شارعٍ مُعَـبّدٍ

يصْلحُ لسيرِ المُتعكزينَ على أحلامِهم المُتعـثرِة

الحالمونَ منْ زمنٍ بعـيدٍ.. بعيد جداً

الذين صاروا يتمنونَ

يوماً..

أو لحظةً..

من حياةٍ (هـنيّة)!

قطـرةِ ماءٍ نقـيّة!

من نهرٍ عظيمٍ كدجلةَ أو الفُـراتْ

مُجردُ أحلامٍ وأمنياتْ

مغروسةٍ في رحَمِ الواقعِ الذي بقـينا فيه كلَّ عَـصرِ النفـطِ

خرافاً نُقادُ كقطيع

عقـودٌ منْ عـُمرِ النفـطِ تتراكمُ فوقَ بَعضِها

سنةٌ تصدأُ بعدَ أخرى

سنةٌ تأكلُ بِجنونٍ أخرى

وأهلُنا كعادَتهِم يقـولونَ بِعفـويةٍ ساذِجَة: (ماكو أحدْ ينامْ منْ غـيرْ عَـشا)

أو ينَبريَ أحدهُم فيقول: (ماكو أحدْ يموتْ منْ الجوعْ)

يا لَها مِنْ قناعةٍ عجيبةٍ موْبوءةٍ بالعَـوزْ!

لقـدْ ماتَ مَلايينُ النّاسِ منَ الجُوعْ

(وكلَّ عامٍ ــــــ حينَ يعشبُ الثَرى ـــــــ نَجوعْ

ما مـرَّ عامٌ والعـراقُ ليسَ فيهِ جوعْ)(1)

ونحنُ في البَلاءْ

ننتظر تلكَ الجِمالِ التي على التّـلِّ

حتّى المَساءْ

الذي يُغلّفهُ ليلٌ بظلامٍ دامسْ

ينتظرُ صباحُهُ الذي لم يَأتِ بعْـدُ

والسؤالُ حتى الّلحظةِ يلفُّ حـيْرتَـنا: الى متى يَبقى البعـيرُ على التلِّ؟

وفي لحْظةٍ خَـرساءَ بغْـتةً

تُداهمُنا طفولَـتُـنا الجُنونيةِ

تُذكّـرُنا ببراءةٍ ب (القِـراءةِ) الخُلدونيةِ

وذاكَ البُلبلُ الفَـتّانْ

كيفَ تسنّى لهُ كلَ ذلكَ الوقتِ

وكُلَّ تلكَ الحروب

أن يَبْـقى يُغني على الأغْصانْ

بأعْـذَبِ الألحانْ؟

وذاكَ الراعي الّذي ما انفَـكَ يُنادي على أهلِ القَـريةِ

كذِباً!

حتى أكلتْ خِرافَهُ الكِلابُ قَـبلَ الذِّئاب!

ولَطالَما ظلَّ (قَـدّوري) يدقُّ بابَنا ولا أحدَ يُجيبهُ!

إذْ (لا حياةَ لمنْ تُنادي)(2)..

لا أحدَ يعرف الى متى سَيبقى (قـدّوري) مُنتظِراً؟!

والى مَتى يَبقى البعيرُ على التّلِ؟!

والى مَتى يَبْقى البُلبُلُ الفتّانُ يُغنّي بِأَعذَبِ الألْحانْ؟!

نعمْ يا صَديقي

بعدَ سِنينٍ مِنَ الفـقْـرِ والقَحطْ

برائِحَـتهِ النَتِنةِ فوقَ جُلودِنا

سيَجفُّ هذا المَلعونُ النِفـطْ

وسَنودِّعُ حتْماً السبعَ السِّمانْ

الى آخـرِ أيامِ هذا الزّمانْ

بعدَ سقوطِ أولَ قطْرةٍ منْ ذِكرياتِنا باللّونِ الأحمرْ

ويظلُّ مَقـطوعاً معَ الحَياة شِريانُنا الأبْهـرْ

ويحينُ موعِـدَ اللّقاءِ بألفٍ منَ العِجافْ

عِندَها لنْ يَنفَعنا النَّدمَ

ولَنْ يُفيدُنا كُلُّ ذاكَ الصخب والهتافْ

وسَنبْقى..

نَعيشُ على ما تبقّى منَ الماضي

ونتّكأُ على القـلْبِ!

الذي سيَبقى يحِنُّ الى الأيامِ الخواليَ في المُستنْصِريةِ

حينَما كانتْ السّنواتُ سِماناً

وأيامَنا أكـثرُ بهاءً وأماناً

كانتْ زاهـيةً بالتسامحِ والحُبِّ

بَعيداً عنْ ذاكَ (الّـَريْع) المليءِ بِاللعْـنة

هذا النفطُ الملعونُ الذي صارَ علينا نقْـمَة

منذُ انبجـسَ أولَ مرةٍ بِلحْظةٍ فارِقَةً منْ بِداياتِ القَـرنِ العِشرينْ

ظلتْ نارُهُ الأزليةُ

تحرِقُ أرواحَـنا المُنهكة

أكثرُ منْ تِسعينَ سنةٍ يُزّينُ المكانَ بالجوعْ

ويملأُ تدفقاتَهُ..

بالكوابيـسِ والحُروبْ

بِالطُغاة والحُفاة

بِالأغْـنياء والفُـقـراء

الأصحّاءِ حدَّ التُخمة

والمَرضى حدَّ القَـبْرِ

العاجِزونَ حدَّ الصَبْرِ

يشمونَ رائحةَ براميلَهُ العفِـنةِ

بيْنَما يبقى أهـلُـنا يُقـدّمونَ النُذورْ

أمَلاً في يومٍ فيهِ الدُّنيا قد تدورْ

والنفط ُمنْ حولهِمْ في كلِّ مكانٍ

بملياراتِ الدولاراتِ يفـورُ، يفورْ

ليسَ لهم فيها (لا ناقةٌ ولا جملْ)

بعد أن تفضلَ أصحابُ المعالي والسِيادة

الغارقونَ حَدَّ الغَثيانِ بالرفاهِيةَ والسّعادة

بسَرقةِ (الجملِ بما حملْ)

وخسرَ الحالِمونَ حتى أحلامَهم

ظلّوا في العّشْوائياتِ مُشتَّـتونْ

بلا ملامِحَ يعيشونْ!

خارجَ خرائِطَ التخطيطِ العُـمْراني

وبالشِّعاراتِ والأحلامْ يحْتمونْ!

لكنْ!

في الزمانِ الخطأِ المليءِ بالأوهامْ

***

د. ستار البياتي - بغداد

في 29/5/2020

.........................

1. من قصيدة وديوان (أنشودة المطر) للشاعر الكبير بدر شاكر السياب.

2. هو تعبير في اللغة العربية يُستعمل للدلالة على أن الشخص الذي يُوجه له النداء، لا يُعير الموضوع أي اهتمام، وعادة ما يُستعمل هذا التعبير عند العامة العرب للتعبير عن السخط الحاصل تجاه شخصية مؤثرة. ويُنسب الى الشاعر عمرو بن معد يكرب بن ربيعة الزبيدي، حيث قال:

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً          ولكن لا حياة لمن تُـنادي

في نصوص اليوم