نصوص أدبية

ناجي ظاهر: مواء الجبل

ما ان ترجلت من الباص قرب الميناء، حتى امتلأت أذني بالمواء. كان المواء حزينًا. نساني ما أنا قادم لعمله من بلدتي الناصرة إلى مدينة حيفا.

أمضي في طريقي باتجاه بيت أختي هناك في أعماق حيفا القديمة. أغذ الخطى أريد أن أبثها خبر سرقة هزت أركاني. لم يتبق لي في هذه الحياة غير تلك الاخت الحنون الغريبة المقيمة في حيفا مع زوجها وأبنائها منذ أكثر من ثلاثين عامًا. يوم تقدم إليها من سيصبح زوجها، ابن مدينة حيفا، في تلك السنوات البعيدة عارضت زواجها منه قلت لها أنا لا أحب السفر. وإنني لن أتمكّن من زيارتها إلا في المناسبات والاعياد. في بداية حياتها هناك زرتها عددًا من المرات في هذه المناسبة أو تلك. بعدها توقفت عن زيارتها في المناسبات، وتوقفت زياراتي لها على الاعياد. في السنوات الاخيرة توقفت عن زيارتها كليًا تقريبًا. وها أنذا آتي إليها اليوم لأخبرها بما حصل لي سأقول لها إنني ادخرت مبلغًا من المال لإنهاء قصة التشرّد التي ابتدأت عام النكبة حين تشرد أهلي من قريتهم سيرين، سأخبرها انني ادخرت مبلغًا محترمًا من المال وخبأته بين أوراقي وكتبي. وسوف ألقي بجسدي المتعب هناك على أريكة قريبة منها. سأضع راسي بين يدي وسوف تسألني عمّا حلّ بي عندها سأنفجر في البكاء، سأنسى أنني أصبحت في الخمسين وسوف أقول لها بعينين تملؤهما الدموع.. لقد سرقوا ثمن البيت وانني سأحتاج إلى خمسين عامًا أخرى لادخر مثله، كي أستقر في بيت حلمت به طوال سنواتي الماضية وعندما اقتربت منه ولّى فارًا من بين يدي ومنسربًا كما تنسرب الآمال أحيانا من بين أيدينا دون أن ندري.. أفكار جنونية تلاحقني.. ترى كيف ستستقبلني أختي؟ وهل ستغفر لي نسيانها شبه التام في غربتها؟

أغذ السير باتجاه البلدة القديمة. المواء يلاحقني. الشوارع تتحوّل إلى مواء. كل شيء في هذه البلدة يموء.. روحي تموء والاشجار تموء وحتى أشرعة السفن الراسية في ميناء حيفا تموء. أتوقف عن السير باتجاه بيت أختي في حيفا القديمة. أتخذ قرارًا جنونيًا أنا يجب أن أتابع المواء.. يجب أن أصل إلى مكانه حتى لو كلّفني ذلك العودة إلى بلدتي حاملًا أحزاني وأشجاني.

أتسلّل على رؤوس أصابعي إلى مكان قصيّ هناك في عمق البلدة القديمة.. أصيخ السمع لذاك المواء.. إنني أقترب منه.. أقترب إلى مصدر ذلك المواء الحارق الحزين. أدنو من جبل من الاطارات المهملة. أقترب منه.. المواء يقترب من أذني. يقترب يقترب.. أشعر أنني وصلت إلى مصدره. يقينًا أنك وصلت إلى سرّ الاسرار إلى عُمق أحزان ذلك المواء الباكي.

أرسل نظرة إلى عمق جبل الاطارات المطاطية المهملة.. أرى هناك فروة سوداء تتحرّك ببطء. أنعم النظر يعلو المواء. أتأكد بحاستي الجيّاشة وعينيّ الثاقبتين أنني وصلت إلى عمق المواء. أراها.. إنها قطة وحيدة.. مؤكد أن أهلها تركوها هنا وحيدة تبكي حظها التعس في هذه الحياة. من تكون هذه القطة؟ ألا يمكن أن تكون قد هُجّرت من قريتها في عام النكبة لتبقى هنا وحيدة هي ودموعها؟ ألا يمكن أن تكون قد ادخرت مبلغًا من المال لوضع حدّ لقصة تهجيرها من قريتها، وعندما وجدت البيت المتمنّى توجهت إلى حيث خبأت مدخراتها فلم تجدها؟. أرسل نظرة حانية إلى عيني تلك القطة الصغيرة فأراها ترسل نظرة موازية إنها تشعر بمثل ما أشعر. ترى ماذا بإمكاني أن أفعل؟ ماذا بإمكاني أن افعل لها وأنا الغريب في هذه المدينة الغريبة؟

أتخذ من إطار وحيد غريب وجد ذاته ملقى بعيدًا عن إخوانه في الجبل.. أتخذ مقعدًا لي.. يخفت مواء تلك القطة هناك في أعماق الجبل يدخل عميقًا عميقًا في أغوار أعماقي.. تلوح لي عيناها الدامعتان تحدقان في عيني.. أنا لا يمكن أن أتركها هنا في هذا الجبل الموحش وحيدة وحزينة.. سآخذها معي.. إلى أين ستأخذها؟ وأنت لا بيت لك؟، سآخذها يعني سآخذها.. دعها هنا تواجه قدرها كما تركتك يد التشرد تواجهه.. لن أدعها، سآخذها يعني سآخذها.

أنتصب فجأة أشدد قبضة يدي أصرّ على ما تبقى لي من أسنان.. أصغّر جفون عيني وأوسعهما.. أندفع باتجاه الجبل الموحش. أهاجمه بشراسة أين اختفت تلك القطة الصغيرة.. اخذ في تناول الاطارات واحدًا تلو الآخر القيها بعيدًا في فضاء الميناء.. أين تراها تلك القطة اختفت؟ أواصل القاء الاطارات في كلّ الاتجاهات.. أنقل جبلها من مكانه إلى مكان آخر إلا أنني لا أعثر على تلك القطة.. لقد اختفت ابتلعتها الأرض.. لم يعد لها وجود هل كنت أتوهم؟ هل كانت تلك القطة الصغيرة الوحيدة الغريبة هي أعماقي الدامعة؟ يتوقف المواء لحظة ويعود ليملأ فضاء حيفا القديمة.. أتوجه نحو بيت أختي هناك في عمق أعماق حيفا.. في البداية أمشي بهدوء بعدها تخطر لي خاطرة غريبة فأركض باتجاه بيتها أركض أركض أركض.. ويركض ورائي المواء.. أركض أركض فمن يعلم قد أجد قطتي الحزينة الوحيدة هناك.. في بيت أختي.. وربّما في حضنها.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم