نصوص أدبية

احمد غانم عبد الجليل: مطاردة ضبابيية

كانت تتوقع رؤيته في شقة خولة ما أن تفتح لها الباب، ربما تكون صديقته، أو عشيقته، ربما تكون جاسوسته لدى مؤسسة كمال ياسين، وربما كمال ذاته يعرف ويتركها لتنقل لرجل المخابرات ما يريد أن تصله من معلومات، وربما وربما...

 لا بد لها أن تعلم، أن تتأكد، أن تعثر على خيط يقين عبر تلبية دعوة الغداء في عطلة نهاية الأسبوع من قبَل صديقتها التي شعرت بفتور علاقتهما تدريجيًا، تجرأت أخيرًا وسألتها عن علاقتها بعمّار عسى أن تتحرر من شبكة الخداع والظنون التي تحتويها أينما ذهبت، فتأسرها بلا أسرٍ واضح ومحدد المعالم.

انتفضت خولة من السؤال غير المتوقع، فسألتها بدورها: ومن هو عمّار الذي أوصل له أسرار سيادتك؟

 تلعثمت هالة، لا تدري ما يمكنها أن تقول عنه وعن حكايتهما منذ بدئها وكيف صاغ حياتها مثل نقشٍ يتفنن في نحته، تكلمتْ، تكلمت كثيرًأ، متفلتة من سطوة الخجل المداخلة نبرات صوتها لئلا تجبرها على معاودة الكتمان، ولمّا أجهدت العودة سنوات إلى الوراء أنفاسها دوّت في أذنيها ضحكة خولة المجلجلة والطويلة فظنت إنها لن تنتهي منها أبدًا، والقهقهة تنقر أعصابها، ثم صمتت وكأن هناك من ألزمها بالتوقف.

انتظرت هالة أن تسمع منها أي رد يمزع القلق المثقل أيامها، كما لو كانت تترقب النطق بحكمٍ غير قابل للنقض، حتى بدأت خولة الكلام: أنتِ مجنونة أو على وشك، كلامك هذا لا يصدقه عقل، حبيبك أو صديقك السابق يخطط لك حياتك من العراق إلى هنا؟ ربما الفراغ الذي سكن زواجك منذ البداية أوهمك بوجوده (الشبحي)، محاولة جيدة للتعويض، لكن لا تتركيها تسيطر على تفكيرك إلى هذا الحد وإلا سببت لكِ مشاكل كثيرة.

هالة: ماذا تقولين؟ أنا لست مجنونة لأتوهم كل هذا.

ـ وأنا لا أعمل لصالح المخابرات العراقية التي فرغت من كل مهامها وانصرفت إلى مطاردة فتيات الماضي في كل مكان، ولست قوّادة لأنقل له أخبارك فأسّهل له طريق وصوله إليكِ، ادخلي وفتشي الشقة، ربما تجدينه ينتظرك في غرفة النوم.

ردت في خجل: أنا لم أقصد هذا.

ـ لا، قصدتِ هذا وأكثر يا فتاة الجامعة الهاربة من عشق رجل الدولة المهم.

دمعت عيناها وقالت: لا أعرف ماذا أفعل، منذ فترة وأنا أريد أن أخبرك، لكنني خفت أن يحصل مثل هذا الموقف بيننا، صمتت للحظات متوترة ثم أردفت: أريد أن أرتاح من كل الوساوس التي توقضني فزعة من النوم، ربما أجن فعلًا.

ـ خذي من حبوب زوجك، يمكن أن تريحك.

ـ تسخرين مني؟

ـ لا أسخر ولا قدرة لدي على الكلام المخبول، كل ما سنقوله سيجرَّحنا أكثر، وأنا كبرت على مثل هذه المراهقة والخيالات، وحياتي فيها الكثير من المشاكل التي لا أحب أن أتكلم عنها، إلا مع عمتي نوال أحيانًا.

ـ لكنه خابرني وأنا عندك بعد الإجهاض مباشرةً، ولما رأيته وسألته قال إنه علم منكِ بشكلٍ غير مباشر، أريد أن أعرف أمام من تكلمتِ عن حملي و...

قاطعتها في حدة: أف... اخرجي يا هالة، لعلكِ تجدين عشيقكِ القديم في انتظارك عند باب العمارة، ما دام يتتبع كل تحركاتك بهذه الدقة المخابراتية، لترتاحا من أشواقكما التي تسيطر على عقلك، لكن بالتأكيد ليس عندي.

صفعة قوية تلقتها وكان عليها تحمل وجعها في صمت لازم خروجها من الشقة ومشيها الوئيد من شارعٍ إلى آخر حتى أدركها الوهن، عادت إلى شقتها الموحشة وكلام خولة يواصل طنينه في رأسها، فقالت، وكأنها تسأل الجدران: "يمكن أن يكون كل هذا وهمًا؟"

 اتصلت بها نوال بعد عدة أيام وطلبت منها زيارتها، توقعت أن تكون خولة قد أخبرتها عن الحجارة المتناثرة التي قذفتها كل منهما نحو الأخرى وخدّشت صداقتهما، إن لم تهشمها تمامًا، فأعدت نفسها لمحاكمة وتأنيب عليها تجرع مرارتهما، لكنها لن تقبل أبدًا التشكيك في قواها العقلية والانصياع للغو الوهم الذي أوجد عمّارًا أمامها بعد ترك زوجها الشقة والبحث عن استقلاليته بمنأى عنها.

 استقبلتها ابتسامة نوال المشعة حنانًا، بعثت فيها الطمأنية بعض الشيء، في الصالة كانت تجلس خولة بوجهٍ عابس، بالكاد ردت التحية، كما صارت تفعل كلما تقابل وجهاهما صدفة في المؤسسة، وقريبًا منها كان يجلس زياد، حياها بأدب وعيناه تلمحان علامات الاستغراب البادية عليها من وجوده بينهم، رمت نظراتها المستفسرة نحو خولة، إن كانت قد قررت تعريتها أمامه أيضًا، ولمَ هو بالذات، فما شأنه بها وبحكايتها القديمة مع عمّار أو غيره!

 ابتدأ زياد الكلام قائلاً إنه عندما سمع اسم رجل المخابرات في سياق كلام خولة ونوال أراد أن يتأكد إن كان هو ذاته الشخص الذي يعرفه، فطلب منهما أن يراها كي توضح له الأمر.

استفزها سؤاله، فأجابت بكلمات سريعة: أي أمر تريد أن أوضحه لك، ولماذا؟ هذا موضوع يخصني وحدي وليس من حق أي شخص أن يسألني عنه، نظرت إلى خولة في غضب وأكملت: مهما كان زعلك مني فعيب أن تشّهري بي بهذه الطريقة، وأمام شخص غريب، لا هو زوجي ولا أخي ولا قريبي حتى.

نوال: هدئي نفسك يا هالة، لا نقصد أبدًا إهانتك، كما أني أعرف الناس جيدًا وأحببتك مثل ابنتي، زياد يريد أن يعرف أكثر معلومات ممكنة عن عمّار هذا، وفي نفس الوقت هي فرصة لتجدي من يسمعك، أو حتى يحميكِ إن كنتِ في حاجة للحماية، في الغربة نحن عائلة واحدة، واحدنا يخاف على الآخر.

ـ أستاذ زياد، أرجوك لا تدخلني في مشاكلك وحروبك مع أي شخص، أنا غادرت العراق لأرتاح من كل هذا القلق الملعون، عمّار لا أعرف عنه شيئًا، وأتمنى ألا أراه أبدًا، لكني أشعر أنه يراقبني باستمرار وفي كل مكان، ربما هو الأن يعلم إنني هنا، في بيت طليقة الأستاذ كمال الذي تجمعه به علاقة عمل، رغم أن كلًا منهما في جانب يتوّعد الآخر بالفناء، صمتت لتخفف من اضطراب أنفاسها المتسارعة ثم أكملت: خولة سخرت مني وقالت إني أتوهم أوهام المراهقات، وجهت نظراتها الحانقة نحو خولة: إن كان كل هذا من وحي خيالي، فما سبب اهتمامك بنقل هذياني؟ كان الأحسن أن تخبري صحف المعارضة والفضائيات،

 طفر الدمع من عينيها ولم يفطن إليه انفعالها، تعسر عليها النطق بمزيدٍ من الكلمات المسترسلة دون انقطاع، فانحنت للصمت والعيون تنصب عليها بنظرات دهشة لم تود الإجابة على تساؤلاتها الملقية عنها ثوب الاتهام الذي انساقت إلى ارتدائه على عجل وفرض عليها الدفاع عن نفسها بضراوة كمن يواجه خطر حكم الإعدام.

نهضتْ وهمّت بالمغادرة، فاستوقفتها نوال وطلبت منها البقاء بحنو أمها البعيدة.

 أجابت: أنا قلت ما عندي رغم أني غير مجبرة على أي تبرير، هذه حياتي وليس من حق أي أحد التدخل فيها، وليتدبر كل منا حماية نفسه أولًا، الخطر يلاحقنا جميعًا وفي كل مكان، التفتت إلى زياد وقالت: اليس كذلك؟ تحب إن قابلته مرة أخرى أن أخبرك، أم أنقل إليك ما أسمعه منه ويمكن أن يفيدك لتحمي نفسك مما يمكن أن يدبره اك؟

 أحنى زياد رأسه ولم يجب، وغزه تهكمها المبطن كأنها تهدهد مخاوف طفل، تطمئنه على حياةٍ لم يستطع ضمان سلامتها أبدًا، نظراتها ذات نظرات زوجته السابقة قبل انهيارها رعبًا عليه، تركمه بأحجار العجز أكثر فأكثر، لم يتمكن من تخطيه عبر كل ما نشر ويعد لنشره، فيضعه في مواجهة جديدة مع عمّار أو سواه، وكما تتوقع مراقبته أو أحد رجاله لها، لا يستبعد رصاصة خفية تستقر في جسده أو سيارة تنتظر عبوره الشارع لتدهسه بسرعةٍ خاطفة لدى خروجه من بيت نوال، خاصة بعد اتصال عمّار به وسؤاله عن قراره بشأن الصفقة التي عرضها عليه فأتى بذات الرد، يصفع الباب أمام إغراء جَزَرته وعليه الاستعداد لتلقي ضرب عصاه، لا يدري متى وأين وبأي شكل أو طريقة ستصيبه هذه المرة، ربما تكون الرصاصة الأخيرة المخترقة أوراقه، تنثرها في كل مكان أقام فيه أو عبره واللهاث يدوّي في صدره، دون أن يحذوه رجاء في إعادة لملمتها.

 ركب سيارته، وقبل أن يشغِل المحرك نظر بعينين اعتادتا الريبة إلى الشارع علّهما تبصران ما يثير الانتباه، ففطن إليها وهي تمشي على الرصيف بخطوات متمهلة تحتار أي اتجاهٍ تسلك، أوقف السيارة بمحاذاتها وطلب منها الركوب كي يوصلها دون أن يعلم إلى أين تريد الذهاب، ركبت إلى جانبه بعد تردد، مـتأهبة للرد بقوة على أي كلمةٍ تصدر عنه وتستشعر منها الإساءة.

سألها بجرأةٍ استغربتها، دون أي مقدمات، عن مدى عمق العلاقة التي ربطتها بعمّار في بغداد.

ردت هالة بعصبيةٍ: أنت وقح، كيف تسمح لنفسك أن تسألني مثل هذا السؤال؟ مع الأسف، عندما سمعت حكايتك من الخالة نوال احترمتك كثيرًا رغم نفوري من هذي الأجواء البطولية التي تذوقت مراراتها وخيباتها كل عمري.

ـ أنا لم أقصد أن أجرحك، ربما سألت بطريقة غبية، أعتذر.

ـ لا تهم الطريقة، المعنى واضح مهما زينته بأسلوب الكاتب الهمام.

ـ أنا اعتذرت، وأنتِ لم تقصّري بالرد.

ـ ولن أعتذر، أقصد ما قلته، أوقف السيارة، سأنزل، أحسن من النزول إلى هذا المستوى.

حاول تدارك خجله بالضحك، وقال: أنتِ الآن الكاتبة، تعرفين التلاعب بالكلمات.

ـ أنا لا أتلاعب بشيء، واضحة وصريحة وطموحي أبسط بكثير مما تسعى إليه من أحلام جربها كثيرًا جيل والدي ووالدك وهذه هي النتيجة، صرنا مشردين في بلاد الدنيا، اكتب عن هذا في مقالٍ جديد، ربما يفرح به من يبحث عن الكلام المنمق لتخدير أوجاع غربته الممتدة إلى ما شاء الله.

 أوقف السيارة إلى جانب الرصيف، أدار رأسه نحوها، وجد في ملامح وجهها الهادئة، رغم لهب الانفعال  المتحفز لجلده، جمالًا نقيًا يحمل نسائم من بلاده ومدينته المغترب عنهما "إلى ما شاء الله" على حد قولها، يلملم مشاق أسفاره في لمحاتٍ (جورية) محببة، عبء ما عاش وعايش من حروبٍ وفقدان وأخطار يواجه مخالبها كل حين، لكنها لم تعطه فرصة لانسياب تأملاته المخضبة بالحنين، نزلت من السيارة في صمت، وخطت مبتعدة عنه، فيما ظل يرقب تهاديها حتى غابت عن ناظريه.

 استغربتْ تلك النظرات المسترسلة من عينيه فجأة إثر موجةٍ الغضب المجتاحة كلامها، تخللت مسام ظنونها المثارة باستمرار، كادت ترجع إليه ليعلو صراخها في وجهه، تنبهه إنها لسيت في متناول كل من تهفو شهوته إليها كما يظن، تصفع كل فكرةٍ مهووسة لديه بشأنها وماضيها الذي لا يخصه بشيء، وكلام كثير كانت تريد صبه كالماء المغلي فوق رأسه في انجراف ساخط لا يحد تدفقه أي حاجز، إلا أنها مضت في طريقها متكتمة على زوبعة حنق كان سينوشها عصفها أكثر منه، وشطرٌ من تفكيرها يجنح نحو عمّار.

 راحت تتوقع اتصاله في ذلك الوقت بالذات، قد يحنو على قلق أسئلتها، يهدهد توترها ولو بعض الشيء من بعد أن تسبب في فضح سرها الذي نجحت في اخفائه عن الجميع في بغداد، رغم مخاطر لقاءاتهما في ذات منطقة سكناها، وقد تستعلم منه أي خبر عن زوجها أيضًا، وإن أصر على إنكار أي علاقةٍ له برحيله عنها إلى حيث لا تدري بالضبط، وكم سيطول ذلك الرحيل، وأي خيبة جديدة ستكلل عودته التي صارت تتوقعها كل يومٍ وساعة، أوَ يكون صاحبها القديم قد أخبره بكل شيء عنهما فازداد انكسارًا وخيبة أخفياه من دنياها تمامًا هذه المرة، دون أن يجد في انعدام ثقته بنفسه ما يدفعه للتمسك بحبيبته التي عشق منذ أمدٍ لم تكن تدري عنه شيئًا؟

 تنعته في سرها بالغبي لأنه لم يدرك مدى احتياجها إليه ولا قدرته على تحقيق الطمانينة التي تمكِنها من تحدِ عمّار، خاصةً وأن رجل المخابرات لا سلطة لديه يمكن أن يلوّح بها هنا، ولو على نحوٍ غير مباشر، ليته عرض عليها بدء حياة جديدة (أخرى) معه في مانسشتر أو أي مكانٍ آخر، لعله كان سيمدها بعزم تركها العمل والعالم الذي أُقحِمت فيه دون إرادةٍ منها ولا حق في الاختيار.

***

أحمد غانم عبد الجليل - قاص وروائي عراقي

......................

* من رواية "عصفورة الكَواليس" غير المنشورة

في نصوص اليوم