نصوص أدبية

فؤاد الجشي: شهرزاد.. وجه آخر

كان يريد الانعطاف يمينًا إلى الجسر البحري متجهًا إلى منزله، عندما سمع صوت المنبّه (الهورن) والأنوار المتكرّرة العالية (الفلاشات) الصادرة من السيارة التي كانت خلفه، إذ وقفت بصورة جنونية جعلته يفقد إيقاعه الطبيعي. أخذ نظرة سريعة لا تتجاوز الثواني في المرآة الخلفية، قفز خوفًا ورعبًا إلى خارج السيارة. أشار بيده اليمنى رافضًا ومستنكرًا الموقف السّلبي الذي حدث.

سمع صوتها وهي تصرخ بطريقة هستيرية: "أنت الغلطان"، تضرب بكلتا يديها على مقود سيارتها على بُعدِ خمسين مترًا، مشفوعة بتلك الألفاظ النابية القبيحة، من شتم ولعن وتهديد.

أرخى الليل سدوله، فحال ذلك دون رؤيتها بوضوح، شعر بالخزي والعار والألم وسقوط هيبته أمام نفسه، من شابة مجرّدة من الأخلاق، وهو رجل تجاوز الستين عامًا. ثمة ما يدعوه إلى مواجهتها وردّ الصّاع صاعين، لكنّه فَطِنَ إلى أنّها امرأة لا تستطيع كبح جماح غضبها تجاه أسهل المواقف، فكيف بها أمام موقف قويٍّ كانت سببًا فيه، وترك أثرًا سيّئًا على طرفي النزاع.

فكان لا بُدّ له من ضبط النفس، وحتى يفوّت على الفضوليين فرصة توثيق المواجهة الدامية، حيث كانوا بالمرصاد حاملين كاميرات رصد الأحداث الساخنة بُغية نشرها على أوسع نطاق. انعطف نحو الجسر، والتزم المسار الأوسط يقود سيارته. مزاميره المزعجة أحدثت ضجيجًا قويًّا، تحت تأثير ألم حادّ يضغط على حلقه، متبوعًا بشعور بالاختناق والاحتقان، بعد أن أعطته جرعة لا تتناسب مع مبادئه وتاريخه الأخلاقي.

تداعت الصور التي يحملها في ذهنه عن المرأة قديمًا وحديثًا، فتملّكه شعور جارف يدفعه لأن يكون قاتلاً هذه الليلة؛ بسبب الاضطهاد النفسي واللفظي الذي يشعر به، يُسائل نفسه ما إذا كان موقفه الليلة أهو من الحكمة في شيءٍ أم هو خوف من مواجهة فتاة؟

ربما الحكمة لم تكتمل بعد عندما تبعته بسيارتها الفارهة، تحدّق في شابة أخرى، حاولت ترويعه في دفعه بسيارتها خارج المسار قليلاً، لكنّه بقي في المسار دون انحراف. نظر سريعاً في المرآة الخلفية، تأكّد من عدم وجود سيارات أخرى قريبة.

جاءه النبأ الأعمى، أشعل سيجارته يفكر في الخطوة التالية، تذكر مارك عن قولته الشهيرة "تحرّك سريعاً وحطّم الأشياء". مشهد الانتقام، أخذ في مجاراتها، حاول أن يدفعها خارج الجسر بعيدًا إلى البحر، ولسان حاله: لم تعد الأشياء كما هي ممثلة بألوانها الأبيض والأسود".

في حياة كلّ إنسان لحظة لا يعود فيها كما كان، المغفرة والتسامح، أصبحت كلمات لا قيمة لها، والانتصار على النفس توقف حتى إشعار آخر! يقول كيف يتحول رجل حضاري مثلي إلى شخص متجرّد من الإنسانية، لديه رغبة الانتقام والقتل، بسبب امرأة لا يستطيع أن يغفر لها أو يتجاوز الحدث بكلّ تفاصيله!.

حين يصفعك القدر بشدّة على وجهك تصرخ أمام تلك المكالمة الهاتفية، إنّها والدته، لم يرد عليها، توقف عن القرار قبل البدء في دفعها خارج الجسر، تجاوز طابور السيارات بشكل متهوّر من الأمام والخلف، أخذت المسار الأوسط وحافظت على تتبعه حتى تجاوز الجميع الإشارة الخضراء.

الخوف في التوقف والحديث معها، كان مقدارًا من المجازفة في تكرار الصّراخ والتجاوز أمام الناس في قصة مفبركة، تأثيرها على وضعه الاجتماعي والثقافي، بسبب المكانة المكتسبة، الفكرة التالية الدخول في الأحياء القديمة الضيقة، ما زالت تتبعه، انعطافه داخل الحيّ عبر الأزقة الضيّقة، والممرّات التي قد لا تساعد سيارتها الفارهة استيعابها، مع ذروة أحد المنعطفات وجدت نفسها غير قادرة في الاستمرار.

اختفت فجأة من المرآة، لم يكن سعيداً بذلك؛ بسبب محاولته استدراجها إلى المزارع المظلمة، هناك سوف يكون الغرور والكبرياء، أمام تلك المرأة التي لا يتذكر ملامحها. بدأ طريق الظلام يتغلغل في المكان أمام غضبه الذي لم يتوقف. إنّها الليلة التي لا يلد فيها الإنسان إلّا مرة واحدة. تأنّى في قيادته حتى أصبحت أنوار المدينة نجوماً صغيرة، بدأ طريق الظلام يتغلغل في المكان، إلّا من ضوء شحيح يصله ميتًا بين منعرجات الطريق.

أغلق مصباح السيارة، ووقف أمام منبع العين (الزراعية) الحارة الدافئة المتبخرة في فصل الشتاء البارد في بدايته، يتأمل الماء، ذكريات الطفولة البريئة، المليئة بالذكريات والقصص المضحكة المبكية والحزينة في بعضها.

أشعل تلك السيجارة في هدوء قاتل، ينفخ بشفتيه، يتذكر إهانتها بتلك الطريقة الوقحة، لكمة قوية كانت وليست مجرّد صفعة كفٍّ، تركت له جُرحًا ينزف. كلمات الوقاحة والشتائم (العضوية) المتنوعة التي احتدّت بها تجاهه، أصبح الأمر مخيفًا أمامه في بعض سلوك النساء أثناء القيادة، حتى أصبحت ثرثرة الرجال في المجالس المختلفة توازي ثرثرة النساء.

شعر بالرعب يجتاح جسده، فجأة أطلقت صرخة مدوّية من خلف رأسه، لا تتحرّك أيّها الكلب، المسدّس الذي بيدي يستطيع قتلك في أقلّ من ثانية، حافظ على وقوفك، استدارتك سوف تكون نهايتك.  

تذكر البيت القديم، بين الخيال أو الحقيقة التي يراها من النافذة، الظلام احتكر المكان، شخصٌ ما ينظر إليه، ذهب إلى جدّه يخبره بذلك الشبح الذي يراه، نهض جدّه خارج المنزل، أمام النافذة، نظر جدّه: هل ترى شيئاً؟، ابتسمَ، اِسمع "يا بابا"، لا تخف، الخوف لا يمنع من الموت ولكنّه يمنع الحياة.

- أنتِ تعلمين لم أفعل شيئاً يؤذيك.

- اِخرس، أيّها اللعين، أنا امرأة لم أخطئ يوماً في حياتي.

لا تحرّك رأسك، مصيرك بيدي هذه الليلة، اعتقدت أنك ذكي، لا أحد يستطيع الوصول إليك أيتها المرأة، توقفي عن جنونك، قلت لك لا تحرّك رأسك، أعدك بأنه سوف ينفجر.

شعر بأنّ الموت أفصح عن نفسه مع هذه المجنونة، كيف يتحول الإنسان من الشعور الطبيعي، إلى قاتل في الدفاع عن النفس! توقفت عن الانفعال فجأة، لكنّ هناك شيئاً يدعو للقلق والخوف.

- لا تحاول الالتفاف أو النظر إلى الخلف!

- أنا أكرهك، لماذا تكرهينني؟ لم يسبق أن التقينا.

- اِجلس على الأرض، لقد بحثت عنك طوال ثلاثين سنة، أنت اليوم بين يدي، أريد قتلك ثم تقطيعك إرباً للكلاب الضالة التي تسمع صوتها.

- أنتِ مخطئة فيما تقولين.

- اِسمك راشد عبدالله، تبلغ من العمر ستين عامًا. غادرت البلاد للدراسة لسنوات طويلة.

بدأت بعض الفلاشات تبرز شيئاً من ذكرياته تحت طقوس الظلام والوجع، همست في أذنه بصوت رخيم عابق مخملي في شهوة الجنس، لا شك أنك سمعت هذا الصوت من قبل؟

استأذن منها أن يذهب إلى السيارة لإضاءة المصابيح لرؤية وجهها، حتى يتذكرها جيّداً، لكنّه أدار ظهره سريعاً. ضربها على رأسها بواسطة الحجر الذي التقطه أثناء جلوسه على الأرض. صرخت ثم استوى على جسدها، ولما انتهى من قراءة ملامحها، كان الشتاء قد تدحرج في مفصله يُنذر بقدوم المطر.

 أيّها اللعين، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، قالت: المسدس ليس حقيقيًّا، أنا شهرزاد التي أحببتها، الفتاة التي كانت تصرخ ابنتك.

قبل أن يبكي جاءته الطلقة الحقيقية في رأسه، ارتفعت الستارة، وصفّق الجمهور في رحلة البحث عن القاتل.   

***

فؤاد الجشي - البحرين  

 

في نصوص اليوم