نصوص أدبية

ناجي ظاهر: عودةُ مُهجّر

كان ألم الرحيل الابدي الأخير لخالي من هذه الدنيا، في مثل هذا اليوم قبل سنتين، مُضاعفًا، كون خالي هو آخر الرجال الكبار الراحلين واحدًا تلو الآخر في اسرتي الصغيرة المهجرة من قريتها سيرين، المقيمة حاليًا في الناصرة، وكونه كان دائم الحُلم ولم يقطع الرجاء بالعودة إلى قريته المنتظرة المسترخية على الروابي والتلال البعيدة، طوال أيام حياته، فجاء الموتُ ليضع حدًّا قاسيًا لهذا الحلم، ولينقله بالتالي إلى الابناء والاحفاد... من يعلم.

ولد خالي عوض عبد الكريم- سيدي- نسبة لوالدته، قبل 87 عاما في قريته الوادعة سيرن... حتى عام 1948. في هذه السنة، سنة النكبة، كان والداه قد رحلا عن هذا العالم، تاركين إياه هو وشقيقه الاصغر، محمد موسى عبد الكريم-سيدي، في عُهدة والديّ، وكان من الطبيعي أن يرافق خالاي حديثا السنّ في حينها والديّ ليتشرّدا في طول البلاد وعرضها، وليتنقّلا بالتالي من قرية إلى بلدة ومن بلدة.. إلى أن استقرّ بهم المقام في المدينة التي سأولد فيها وسأحبها حبي لأمي وأبي.. مدينتي الحبيبة الغالية الناصرة.

تنقّل خالاي برفقة أهلي في الناصرة من بيت مستأجر إلى آخر، وكنت أراهما، أنا الطفل حديث العهد بالحياة آنذاك، مثل وردتين تتفتّحان في حديقتنا الحزينة المتواضعة، وتكبران يومًا اثر يوم وسنةً بعد سنة. كان خالي الاصغر محمد الموسى حريصًا على الدنيا، خائفًا متوجّسًا منها ومن عقاربها اللسّاعة القتّالة، وقد كتبت عنه وعن رفيقة دربه خضراء حسين الفودي، في كتابي "حياض غثيم- سيرة ذاتية من خلال آخرين"، لذا أحيل من يُود معرفة المزيد عنه إلى هذه الكتابة، أما خالي عوض، موضوع كتابتي، حزني وألمي الآن، فقد كان لاهيًا معتزًا بنفسه، يهمه مظهرهُ الخارجي.. ارتداء الملابس الملائمة وتصفيفة الشعر، بصورة كبيرة ولا تقارن بتلك التي اتصف بها شقيقه الأصغر، وقد عمل خالي الراحل في مجال البناء طوال فترة عمله المركزية في الحياة، وعندما نضج ارتبط بابنة مهجرين مقرّبين من بلدتنا هي آمنة حسن عبد الغني العجاوي( 1941- 2009)، وانكبّ على عمله واصلًا الليلَ بالنهار، لإعالة أسرته الصغيرة التي كبرت سنة اثر سنة، وعقدًا بعد أخيه..، والغريب أنه كان يصرف كل ما يتقاضاه مقابل عمله، غير حاسب حسابًا لأيام يقلُّ فيه العملُ وتضيق فيه ذاتُ اليد، فأدخل نفسه في ديون ضيّقت عليه الحياة إلى أخريات أيامه. وقد قضى خالي في مهنته الشاقة هذه وقتًا مديدًا، تجاوز العشرات من السنين، إلى أن كبر وكان عليّ بعد كل ذلك السعي في مناكب الحياة، أن اقترح عليه عملًا آخر يريحه من معركة الاسمنت، الرمال والجير، فسألني عمّا يمكنه أن يفعله وقد كبر في العمر، فاقترحت عليه العمل في الخفارة- الحراسة، وقد عمل فيها حتى انتهاء فترة عمله وإحالته إلى التقاعد.

بعد رحيل زوجته، قبل أحد عشر عامًا، عام 2009، وانتقال كل من أبنائه ذكورًا واناثًا للإقامة إلى جانب أزواجهم وأزواجهن في بيوت مستقلة، عاف خالي بيته القديم في سوق الناصرة- البلدة القديمة، وانتقل للإقامة في بيت مستأجر في الحي الشرقي من المدينة، وكان هذا البيت يقع قريبًا من بيت آخر مستأجر أقامت فيه ابنته الصغرى- أفراح- برفقة زوجها عبد، لذا انتقل في السنة الاخيرة الماضية بعد أن نالت منه الشيخوخة والاعاقة الجسدية الطفيفة ( العرج)، للإقامة مع ابنته هذه، وكان ابّان هذه الفترة دائم التردّد على مسجد السلام القريب من مكان إقامته لأداء الصلوات والالتقاء بأناس ما لبث بعضٌ منهم أن تحوّل إلى صديق له يتقاسم معه تمرة الافطار في الايام الرمضانية، كما ذكر الشيخ فارس العابد في كلمة اختتامية له في يوم العزاء.

كان خالي رجلًا بسيطًا متواضعًا، وأكاد اقول درويشًا، أحب الناس فبادلوه الحب، وكان متسامحًا لا يحمل الضغينة والغلّ إلا لوقت قصير، ويغلب على ظني أنه ما إن كان يلتقي بمن اختلف معهم من الأقارب والمحيطين، حتى ينسى الخلاف ويمدّ يده لمصافحتهم، فاتحًا صفحة جديدة ملأى بالتسامح والمحبة، وقد شهد بيتُ العزاء على مدى محبة بُسطاء الناس، من رفاق الجامع والشارع أيضًا، لشخصه المُسامح الكريم. ومما أذكره بصدد الحديث عن شخصه الرقيق الطيب، أنني عندما كنت في سن الثالثة أو بعدها بقليل، عبّرت عن رغبتي في الحصول على ساعة يدوية، وكان أني حلُمت خلال نومي في بيته أنه يضع هذه الساعة في يدي، لاكتشف في الصباح الساعة حقيقة قائمة وتلتف حول يدي.. التفاف اسوارة حول معصم غالٍ .. اسوارة تساوي الكثير.

قبل سنتين.. في يوم اربعاء ماطر حزين، شيّعنا خالي إلى مرقده الاخير، في مقبرة الناصرة القديمة، القريبة من مستشفى الناصرة/ الانجليزي سابقًا، وآوبناه هناك إلى جانب زوجته آمنة حسن عبد الغني، بعد أن انتظره مدفنه ذاك أحد عشر عامًا، دون أن يشغله متوفىً آخر، رغم ضيق مساحة المقبرة.. بعد انتهاء التشييع وانفضاض الابناء والاحفاد.. ابتدأ المطر بالهمي رذاذًا.. رذاذًا ثم.. انهمر.

***

ناجي ظاهر

 

في نصوص اليوم