نصوص أدبية

أمين كبة: آمنة تصاحب النجوم (مقامة)

تمعن آمنة بالتحديق فلا ترى إلا ضوءً تغيم فيه الوجوه، تتأمّل الضوء وتحدّثه وتسأله فيشرق وجهها ويغيم، يتورّد ثم يشحب ثم يعود يتورّد. تبقى واقفة مثل دمية خشبية فتتخلّى عن الصارمين صرامتهم، والقساة قسوتهم، وعن العتاة عتاوتهم، وتنحشر في أماكن وقوفها أنهار من دموع. (كان الصباح شبيهًا بالمساء، والمساء شبيهًا بالصباح، والليل يرتشي بالنميمة والضحك، وتصيد الغرباء حتّى وهم ميتون). كان الرجال يرتقون إلى السماء، يذهبون ويعودون، يذهبون ثمّ لا يعودون، فتخرج النسوة للانتظار، وقد هزّ الخوف أبدانهنّ، وحفر أخاديده في وجوههنّ. شاهدت آمنة كلّ شيء: الرجّال وهم يتلوون من الهوى والسهر وإيقاد الدموع، الشعراء وهم ينثرون نصوصهم عند قدميها؛النساء ينتظرن، لطم الخدود، الإشاعات وهي تتحوّل لحقائق، والعويل الذي يقطع الفضاء ويشطره ثم يقطع الصمت كما تقطعه أصوات العبوات الناسفة ورشق الرصاص.

علت صرخة في الفضاء فجأة ثم اختفت، لم تكن صرخة استغاثة ولا فزع، بل انفلات أصوات ملوّعة لم تحط بها علمًا. أصاخت السمع، لم يكن هناك إلا الصمت حاضرًا مسموعًا وملموسًا يجلّل الصرخة ويؤكدها، سارت محدّقة بالأبواب والوجوه الجامدة، بدا الطريق مهجورًا وساكنًا ولكنّ الصوت يأتيها بهمهمات مكتومة وعويل مخنوق، أحسّت أنّ حزنًا غريبًا يسري كالعدوى في النفوس، جفّفت عرقها، وتنفّست بعمق ثمّ واصلت السير، تتبّع الأصوات ثم تصغي لها باهتمام، ثم تبزغ من بعيد حشودٌ من الناس، يؤكّدون لها أنّها تنقّب عن عيوبٍ لم تكن بحاجة إلى تنقيب. كانت الجغرافيا خللًا، والتاريخ خللًا، والمجتمع خللًا، والدور الذي أتقنت تمثيله ورطة، وكانت تصغي لهم وهي تنتفض وتهدأ، وتشتعل وتنطفئ، ثمّ تتطلّع إلى السماء وقد بهتت نجومها وكادت أن تسقط. يقولون لها إنّ الحياة جميلة فلا تصدقّهم لأنّها تخشى غدرها، ولكنها لا تفصح أبدًا بل تكذب، حتّى على قلبها.

٢

آمنة تخشى الحياة ولكنّها تكذب على قلبها، تشخص بعينيها في الظلام وتلهج بالدعاء. تهمس وتتوسّل، فتلتمع وتتوهّج كأنّها واحدة من النجوم اللامعة التي تطرّز السماء. تخاف من إذعانها المستمر لعقلها ومع ذلك فهي تخشى أن تقودها عاطفتها المتأجّجة إلى أن تهدم مستقبلها بيديها. وتخشى الزمن أيضًا، تضع وجهها في المرآة لعدّة ساعات، تتحسّس التجاعيد التي قد تظهر، تنهمك في ما تفعله دون أن يطمئنها كلّ ذلك. وسرعان ما تقفز إلى عينيها نظرة الرعب كلّما فتح أحدهم سيرة العمر. آمنة تخاف الحب وتكره الضعف الذي يصاحبه، عمومًا هي تكره الخوف والضعف مع أنّها تتقن الاثنين، لكنّها لا تعترف بذلك وإنّما تصرّح دائمًا بأنّها لا تخاف إلّا من ذاتها وعواطفها الجامحة. طبعها حاد ينطوي على كثير من الرغبات المعلنة وغير المعلنة. آمنة ليست آمنة، وهي في الواقع لا تحمل من صفات اسمها إلّا القليل، ولا أدري إذا كان الله قد شاء للأكوان المظلمة التي في داخلها أن تتجلّى وتضيئ، الأكوان التي كُتِب عليّ أن أتبعثر فيها إلى الأبد.

( أحاول الكلام..

مثل طفلٍ لم يعرف نارًا أكبر من عود ثقاب.

وعليه الآن…

أن يصف غابةً كاملةً تحترق).

٣

بقايا النجوم في السماء، كتاباتٌ عنكِ، جمعتها واخفيتها ثم نسختها ووزّعتها على أقنعتي الكثيرة: لكل واحد منّا نسخة…

نقف لنطاردكِ. فتدهسنا عجلات الوقت وهي تنحدر على الطريق أينما تؤدّي، غير آبهة بمن يقف هنا مشدوهًا، حائرًا، وشاعرًا بالبرد. كتابكِ ينفتح كلّما ألقى الله على ظهر هذا الكون بالزُّهر يا آمنة.

ولكنّ الواحد منّا حالما يلمح قبسات منه ويحاول القراءة: يتعاطف مع جمالكِ.. ثم يبدأ بالمغفرة صفحة بعد صفحة، ويقرّر أن يشعل نارًا: يلقي فيها نسخته من الحكاية. حتّى لا يتتبّع أثركِ أحد. كتابكِ ما زال يرتجف تحت النيران ويهتزّ على الأرض، فوقه يعبر النهر، يتقلّب فيه الأحياء والموتى، كان قد ترك عند احتراقه أسرابًا من الفراشات قد حطّت على جسد كلّ واحدٍ منّا وروحه. يومها حلّ طوفان وفرّق حكاياته المحروقة وبعثرها. وفي اليوم التالي كان صباحًا راكدًا، وفي قعر العالم دموع متجمّدة مثل حصاة يتيمة. تذهب الأعاصير بكلّ شيء، النخلات والبيوت، والمحلات التجارية، والعيادات الطبية وتبقى هذه الحصاة في مكانها متألقة بخفوت. وأبو تمّام يراقبها وينشد:

(أَما تَرى الأَرضَ غَضبى وَالحَصى قَلِقٌ

وَالأُفقَ بِالحَرجَفِ النَكباءِ يَقتَتِلُ).

صرنا نتقلّب كالزّبد الجريح على ساحل مقفر في رأسي. كأن الخليقة كلّها تصرخ اليوم باحثة عن شطرها الآخر. وفي غياب السجع والمحسنات البديعية نصغي إلى هذه الموسيقى التي تأتينا من لا مكانٍ مثقلة بعجائب الأخبار. كأنّنا اليوم قد استيقظنا وتتبعّنا أثر الندب والجروح التي أخفيناها عندما عدنا من مطاردتك. كلّ واحد منّا، يخشى على ندبه وحروقه الغالية من سلامة الآخرين. تركتهم يطاردونكِ بندبهم وجروحهم النازفة وحروقهم المتقرّحة، ثم خلعتهم بعد أن أصبحوا أقنعة بالية و متهرّئة فظهر أمين الذي تعرفينه، تنفّست بعمق وبكيت وأنشدت :

(الحبُّ في الناس أشتاتٌ مذاهبه

وللمتيّم من هذه متاعبه

والشوق ألعن لو طالت سحائبه

(والهجر أقتلُ لي ممّا أراقبهُ

أنا الغريق فما خوفي من البللِ)

ثم رفعت رأسي لأرى الغيوم مهرولةً عبر السماء تسوقها نذر مجهولة. لا أهل ولا أصدقاء وليس لي بلد والأرض غضبى والحصى قلقٌ..

٤

حكايتك مفتوحة أمام عينيّ، مصيدة لأرواح موتاي، يمرّون على صفحاتي وهم يرتجفون ويأنّون، أسمع أنينهم مثل لغتي الأولى. عندما يربكك السؤال عن إلحاحي وتشبّثي فيكِ بعد كلّ هذه السنوات، بعد أن عرفت عيوبكِ، ذلك السؤال عن معنى وجودكِ وكيف أنّ ألمي ينسج كلّ هذه الحكايات.

(تذكّري أن عشّاقكِ كانوا مثل الورد البريّ

يطلعون من شقوق النصوص التي تدعو للقتال، تدوسهم الجيوش فتتعطّر الهزيمة

عشّاقك الذين يسحبهم العالم من خندق صمودهم السريّ، حفرة أرواحهم وسقف جسدكِ)

عندما كانت الشوارع جروحًا، كانوا على جوانبها يعبرون نحو بعضهم البعض.. وأنا الضائع في ظلمة هجرك. أنا الدودة الساعية بأنفي الحسّاس في ظلام الرؤية، أنا الذي يعيش حياته ويراها فلمًا رديئًا يخرج المشاهدون في منتصفه . أنا اليائس من مقاماتي وأيّامي وسريري الموحش وأوراقي الملطّخة بتفالة القهوة والميرمية. أنا دمية الفرح الرخيصة التي تعطب بسرعة. أنا جثث القصائد الحزينة التي تحاول النهوض لتبقى في أذهان الناس، وصفّارة الله التي ينظّم بها ازدحامات أكوانكِ المبعثرة . أنا قلبٌ متروك في العراء مثل بوصلة مسافر مات من التّيه.

(أنا اليابسُ…

الذي كلّما عادت يدي منكِ:وجدتُ تحت أظافري غيمةً

وأنا البارد الذي يستعمل غصنًا شابًا من جسدكِ

لينبش رماد العالم: بحثًا عن الجمرة..)

أنا الذي صنعتك من أخطائك ثم أحببتك، وأنا اللاجئ المستغرق في سرد حكايته، في أعلى المشارف، أو أوطأ الدركات. ومثلما تعرفين هناك دائمًا مقامة، وقصّتها ستروى. أنا سارد حكايتك المضحكة المبكية، الخارج من ثوب الزمان المتهرّئ الذي يجد دائمًا ملاذه أخيرًا لكل أجنّته المذعورة في بنيان الكلمات بضربة طائشة من القلم، لأنّ العالم بأسره في النهاية ليس سوى مقامة بانتظار أن تروى، مقامة تتلو لنفسها ما تبقّى من تفاصيلها، تلك التفاصيل الجديرة بأن تتلى ليسمعها من له أذنان. أنا الذي ربطت جرحي بجسدكِ، كثقّالة ثم قست استقامة العالم. وأنا الذي هزّ حصّالة اليأس، فرنّت في روحه الوحدة، ولعق أملاح الليل ثم قال لكِ أن السهر حلوى.. أنا الذي طليت وجه حزني وصعدت نحوك مثل ضحكة. أنا الذي لا أعرف ما الذي أكتبه لكِ الآن. أنا عشّاقك.

٥

بغداد نائمة. تسيل على أشجارها قطرات الندى. نوافذي مفتوحة تستقبل حاشية من البعوض، وثمّة من يحمل فانوسًا ويبحث عن شيء ما في الخرابات. مخدّتي تحت رأسي تتكهرب بالأرق وفرط التفكير، فأرمي بها إلى الجدار.

أخبريني دائمًا، أنّ كلّ شيء على ما يرام…عندما أكون حزينًا مثل مشطٍ يحاول أن يسرّح شعر الموتى. وعندما أمشي في الوهاد وأتعثّر بالجثث والهياكل وأستغرب ملمس الدم على وجهي. إنّني أحتاج أن تخيّطي لي هذا الجرح، أخبريني بأنّني لن أموت بسببه، اخترعي أيّ قصة وسأصدّقكِ. كلّ ما أحلم به أن لا تعصف بنا هذه الأعاصير، وأن نجد زاوية نختبئ فيها من ضجيج هذا العالم، صفحة بيضاء حيث لا تكذب الكلمات.

( أنا لا أتعمّد أن أعذّبكِ عندما أكسر حياتي..

وأطلب منكِ تجميعها

أنا فقط أريد أن أراقبكِ وأنت تلتقطيني: شظيةً بعد شظية

وأريد أن أشعر بالأمان عندما تقولين لي: يمكنك أن تمشي حافيًا الآن).

قولي إنّني ضعيفٌ وهشٌ وعاجزٌ وقبيح مثل جرحٍ متقرّحٍ في جثّة العالم لكنّني مهم. فعبري يتسرّب الألم: كلّما جرح الالم أحدًا ما..

(قاسميني تعبي يا مُتعبة، إننّي أحتاج صدرًا موجعًا أبكي عليه، إنّ بي مثلكِ شيئًا من زجاج وصدور المطمئنين رخام).

أخبريني بأنّ كلّ شيءٍ على ما يرام.. حتّى لو صرت كئيبًا لأنّني لا أملك الكثير من الحزن الجيّد للأيام القادمة، حتّى لو لم تتّخذ الأبواب شكل عينٍ عندما أحتاج أن أخرُجَ دمعة منها. أعلم أنّك غاضبة منّي لأنّني غفوت وتركت باب الأحلام مفتوحًا، وأعلم أنّني لست مرئيًا كما يجب لأحبّك في النهار، وأعلم أنّني كنت أدوس بأقدام الراكضين عنب الصراخ داخل روحي . قولي لي لا بأس حتّى لو افترقنا، برهني أنّكِ سيدةٌ مدبّرة وأنّنا سنعبر هذه الأزمات كما فعلنا سابقًا، أخبريني أنّكِ ستعلّمين غيابكِ وتدرّبينه قبل أن تذهبي؛ على أن يتصرّف معي كامرأة تخبرني دائمًا أنّ كلّ شيءٍ على ما يرام.

٦

كلّ ما أكتبه هنا في هذه المقامة حقيقةٌ يا آمنة، ما عدا الحقيقة ذاتها، كلّ الأوهام والأكاذيب والثرثرات لها صلابة الحقيقة، ووحدها الحقيقة هي الخاضعة للشك والريبة. لا يزال المشهد ذاته عتمة وشوارع ووجوه يكرّر أحدها الآخر، المشهد ذاته الذي أكون فيه وحيدًا وبعيدًا عنكِ، أرفع نظري إلى السماء. أحدّق طويلًا في فراغٍ كثيف معتمٍ وساكن، تنتابني رغبة مؤلمة بالصراخ. مجرّد صراخ يهزّ هذا السكون، فيتهاوى ويتحطّم ويتفتّت، فأرى خلفه زرقة، أو حقل ظلمة مزروعًا بكتل نيران يسمّونها النجوم. في زمانٍ كانت فيه الكلمات مجنّحة قادمة من اللّامكان، حيث كتل الضباب فيه تلعب بالبراري، وتجوب التلال. في غمرة يومٍ من ذلك الزمان، حين انبعثت من السماء أضواءٌ شقّت ستارة الظلام، وهبّت أبرد النسمات، في غمرة ذلك الضباب، وصل العشّاق من الصحراء إلى النبع، كانوا معفّرين بغبار الألم، معذّبين بأوجاع الضمأ. هرعوا إليه وشربوا، وارتووا وتعافوا، ونسوا تاريخ العذاب وأيّام الفراق والهجر وهم على ضفّته يقيمون، ومن مائه العذب يستلهمون. ثم حلّ زمانٌ يا آمنة، ظهر به جيل ضاق عليه ماء النبع، وقال أنّ له مذاق السّم، يعمي برذاذه العكر الأبصار، ويكبّل أجنحة الأحلام. جيلٌ رأى دروبًا من الضلال، فبحث في الأرض عن نبع آخر، إلى أن نال ماءً من أوهام. شربه فهام في طرق الضياع، هجر الآباء، واجتاز الجبال التي تصدّ الريح عنهم، صعد إلى قممها، ثم هبط إلى الوديان، في ذلك الزمان جفّت الكلمات المجنّحة القادمة من اللّامكان، وماتت اللغة، وأصبحت الكتابة حرفة لعديمي الموهبة، سار الجيل طويلًا في متاهات الوهم والعمى والخرافات. وصل إلى صحارٍ عديدة لا ترى فيها غير امتداد الكثبان. جرداء لا ماء فيها. لا غصن أخضر، لا ظلال. يسيرون كما يسير المرء في المنام متبّعين نداءً من الأوهام، ينهال في منتهى ذلك المدى، ثمّة بحار وشطآن، ثمّة ريح غاضبة، وسفنٌ تبحر في زرقة تمتدُّ إلى السماء، ثمّة أعاصير تدور وتغنّي، ومجهول يأخذهم إلى المجهول. علت في الجوّ صرخاتهم، وتلوّت أطرافهم، ابتلع الماء بعضهم ولم يصل إلى اليابسة غير جماجمهم وعظامهم. لا نايات تغنّي الريح، لا ريح تغنّي المدى. حينها. حينها أدركت أنّني طوال الوقت، في هذا الكابوس، أمام خيارين وحيدين: الأوّل أن أصبح شبيهًا بجميع الناس هنا، أملك وجههم وأشرب ممّا يشربونه، وأحيا بينهم بلا محن الاختلاف وعذاباته، والثاني أن أقتفي أثر ذاتي، أن أكون أمين، ممّا يعرضني لخطر العالم ورغبته في سحقي.

رأيت حزني ينهض. كانت الأكوان نائمة. لا النجوم منارة، وليس في الفضاء الشاسع إلّا خطاه. ورأيت أنّ ما أعيشه بغيابكِ لا يمكن أن يكون واقعًا، بل هو كذبة طويلة. كذبة مأساوية وتبعث على اليأس. بالقدر ذاته التي هي فيه مضحكة من شدّة حماقتها وتلفيقاتها وسذاجتها.

(أنا الذي من الذين يدلّلون يأسهم من العالم: ككلب حراسة..

أرمي له في بداية الليل لحم الضّحك.. وأنتظر

حتّى يشبع وينام

ثم أتسلّل إلى صدري: مثل اللصوص

وأخرجكِ هناك بكلّ هدوء، تحفةً من الأمل).

٧

العجز عجزان، التفريط بالأمر وقد أمكن، والسعي وراءه وقد فات…

حسن أوريد

ربيع قرطبة

٨

الجدران بيننا عالية، ولا أعرف كيف بدأت هذه المحنة وكيف ستنتهي. أنا أعتذر لكِ يا عزيزتي.. لقد علّمتكِ الدرس ثم طالبتُك بأن تخالفيه، وعلّمتكِ الكلام ثمّ تركت لكِ الأيام التي لا يمكنكِ التعبير عنها. أنا أكتب والقنابل تتساقط، والألغام تنفجر، لا طريق يقودني إليكِ، ولا مهرب عن الطريق المفروش بالخناجر والفخاخ. حتّى الشاعر الذي يكتب لك لم ينجُ، هو الذي كان يعرف كلّ شيء منذ البداية، أنا العبد. أنا العاجز، بعكازين تحت إبطيّ أعرج نحوكِ، ويتبعني الموت بأرجل عنزة سوداء، تتبع رأسي سكاكين القتلة وحراب العذّال ذات الرأسين، وأعرف أنّني رغم هذا، سأنجو لأكتب لكِ هذه المقامة التي تتلجلج في صدري، فلم أعد مالكًا لشيء سوى الرجاء ولعلّ هذا البوح أن يضمّد الجراح .

لا يوجد في مدينتنا الآن سوى الكلمات الرديئة، والناس الذين لم يموتوا بعد، وأنا ما زلت أعيش هنا وكلّ يوم أحاول النجاة ككلمة جيّدة. الجدران التي بيننا ترتفع أكثر والناس في الخارج نهشوا سيرتنا ومضغوها ثم شبعوا وناموا، وأنا أبحث عن الكلمات التي تركوها خلفهم محاولًا أن أصيغ منها رسالةً لكِ.

٩

أحبّكِ حتّى عندما تكبرين وتشيخين، وعندما تحاصرك الترهّلات والتجاعيد، ومهما كتبت عن جمالكِ فلا أمل لي على الإطلاق بالعودة إلى الماضي وإخبارك بحقيقة مشاعري حينها، فقط إن قمت بوصف خوفكِ وألمكِ وتردّدك وتفسير ابتسامتكِ الغامضة وعلاقتها بخسوف الأحزان من حولك. ستكون فرصتي حينها عظيمة للعودة هناك ولكن لفعل شيءٍ آخر: إرغامي على الكتابة عنكِ. أنا أحبّك أنت ولا شأن لي بالجسد الذي تسكنينه.

يربكني جمالك العادي تبهرني قدرته الهائلة على جعلك أجمل امرأة في الوجود . لستِ هالزي أو تايلر سويفت، ولا تمتلكين صوت سيّا ولا أديل، أنت بعيدة للغاية عن فتاة أحلامي، ولكن صدّقي إنّه إذا ما حدث واجتمعت كلّ الجميلات عند عتبة قلبي ومددن مفاتنهنّ وقلوبهنّ لي سأخبرهنّ بأسى أنّني أريدكِ وأحبّكِ أنتِ وحدكِ.

(لم أقع في حبك بل تعرضت لإصابةٍ مميتة به، إصابةٌ مباشرة بعثرت حصون القلب و أضرمت القصائد في أحشائي . أنا طَريحُ عِشقك يا هذه .. أنا مريضٌ بك وأكثر ما أخشاه في مرضي .. شِفائي).

١٠

آمنة تصاحب النجوم، إنّها أمّا أنجم ساقطة أو نذر ترعد في وجوهنا بالنبوءات، هناك من يُعبّئ الأجواء بالخوف، بالجنون، والريبة. والليل من العمق بحيث لا تصل الصرخات إلى السماء. الفرق الممزّقة تطفو في الداخل على شكل بقايا: صاحب المقتلة يبدو كأنّه الضحية؛ الصوت الذي لا يعرف صداه. يبدو أنّنا دومًا نأتي إلى هذا المكان. نعدّ خطانا كأنّ الغد يدعونا بجمع كفّه في الأفق، وإذا بنا نأتي بهذه الفسحة من الصمت، هذه التي لا تؤدّي إلى مكان، أريد أن أخبرها فيها وأخبر العالم بأنّني بخير ولكنّني لا أملك أيّة أدلة.

(أحتاج إلى إشارة منك،

إشارة تخبرني بأن كلّ هذا السواد سينجلي ولو بعد حين..

أحتاج أن تضع لي نقطة ضوء في نهاية هذا النفق الضيق والمظلم..

أن تدلني إلى زهرة غافية في هذا الحقل المحروق،

أن تُسمعني صوت قرقعة مفاتيح خلف هذه الأبواب الكئيبة الموصدة..

أحتاج يا الله لحافز صغير

كي أصمد).

كلّ ما أفعله هو الانشغال والابتعاد عنكِ ونسيانكِ، سلكت طرقًا متطرفًة من أجل ذلك، وآذيت كثيرًا من الناس، مرّة صرخت في أطفال الحي ووبّختهم بعد أن قالوا (نحبّك) تذكّرت أنّني أسرفت في قولها لكِ من دون أن أحصل على الجواب، كل الأدوية التي تعاطيتها، كل الكتب والأفلام التي حاولت أن أنساكِ وانا أتسلّى بها، وكل ما كان يحدث هو تكاثركِ وتعاظمكِ في قلبي. لكِ أسلوبكِ في الرفض ولي طريقتي في الندم لا ينقصنا الآن سوى التهوّر، واستجلاب إيقاع مكسور يليق بهذا الحب، هناك في مداراتك شاهدتُ كواكبًا صغيرة وأقمارًا ملوّنة ونجومًا مشتعلة، صادفت منها نجمة ناعسة تسرّح خصلة من خيط ضوءها، رأيت مذنبًا صغيرًا يلوّح لي، أتذكّر أنّني كنت عجوزًا عندما رأيتكِ في المرّة الأولى، في المرّة القادمة التي سأكتب فيها عنكِ، لن أنبّش عن طفولتك، ولن افتّش بقائمة أصدقائك ولن أستجوب صديقاتك عمّا تفعلينه وتقولينه وأنت بعيدة عنّي، سأواجهك بالأمر مباشرة وأقول: أثمّة كونٌ تخفينه عنّي؟

(أنظر إلى النجوم التي ترصّع الكون فيخيل لي أنني أحدق في عينيك..

لأن الحال كانت هكذا دائمًا بالنسبة لي :

أيّ ما يضمر الضوء لا بدّ و أن له علاقة بك،

و كل ما لا نهاية له

محاصر بك).

١١

بسم الله

حين تلتقط الشوارع خطواتي المتعثّرة، وتتبدّل عليّ الفصول، وحين تنعقد ألسنة الليل ويأفل نجمه وتلبسه المدينة، وعندما تنالني أفواه الغياب، وأصبح فريسة للوقت، ويأتي الفجر حاملًا اسمي نبوءةً خطرة، أكون فيها إشراقة المأساة على جبين العالم.

حين تمسي البيوت أقفاصًا رحبة، وتكون الشوارع أفاعيًا تلدغ الخطوات، وعندما يموت مغدورٌ واسم قاتله ينمو على لافتات الشوارع ونشرات الأخبار.

باسمكِ

حين أسير على الأرض حائرًا وعلى جبيني نجمة عشق، وفوق رأسي أدلّة على أنّنا الكائن نفسه.

باسمكِ وهو يمنح الليل خطورته، فتتفتّح فيه أبواب إيابٍ لأرواح مخطوفة، فينضجُ فيّ خوف الزوال، كما ينضج ورد الصباح في الحدائق، وتجيئ الساحرات حاملة كتابكِ، ليتوقّف على يديكِ الزمن.

باسم وجهك الجارح وعينيك السوداوين، وسمرة بشرتك وشمسها الساطعة حين يتثنّى منها الضوء ويهزّ قرارة الظلام وترتعد أشباحه، باسم الفراشات التي تحلّق حولك عندما تؤدين صلاتكِ وتقرأين الحمد والإخلاص.

باسمي وارث الجزع والمرض والوحدة، أحمل نهايتنا التي تحيّر الناس وأسألكِ . كم ميتة أحتاج يا آمنة حتّى أولدَ منكِ؟

***

أمين صباح كُبّة

 

في نصوص اليوم