نصوص أدبية

آسيا رحاحلية: أربعون!

لم تتضمّن رسالة صديقتي مريم سوى كلمة واحدة آمرة " شاركي!"، وكان هناك ملف.

ترى ما الذي تريدني أن أشارك فيه؟

فتحت الملف. إنّه إعلان لمسابقة في القصة القصيرة. مريم تعرف عشقي للقصة وتتبّعي لأخبارها. كثيرا ما حدّثتها عن أمنيتي في الحصول على جائزة أهديها للطفلة التي تسكنني لكي أرضيها وأرى الفرح يملأ ماضيها. فتحت الملف ورحت أقرا شروط المشاركة. جيّد. لا وجود لشرط السن. متعبة تلك المسابقات التي تصفعكِ بــ " تحت سنّ الأربعين "!

 يا لحظ الأنثى. كأن لا يكفي أن وسموها بيأس أنثوي مع حلول الأربعين!

كان عليّ أن أنهي وأراجع بعض النصوص القصصية لكن المشكلة هي الوقت.

 الكتابة قضيّتي وأنا قضيّة الوقت!

 المثير للقلق أنيّ سأكون مشغولة جدا. حماتي وحماي سيعودان من مكة المكرمة بعد يومين، وبما أني كبيرة " الكنّات" في عائلة زوجي تقع على عاتقي مهمة التحضير للمناسبة والاهتمام بكل ما يلزم لوليمة العمرة لكن المفرح أنّ الأربعين غير موجودة في هذه المسابقة. لا وجود للأرقام. ستكون الحروف فقط.

الأرقام مدهشة لكن الحروف مدهشة وخلاّقة .

 لكن مهلا. مهلا. ما هذا؟ هنا؟ (مجموعة قصصية لا تتعدّى أربعين صفحة ) يا للخيبة. لماذا ليس اثنين وأربعين مثلا أو ثمان وثلاثين؟ ما سرّ العدد: "أربعون"؟ ولماذا أصادفه حيث ولّيت قلمي؟

 حسنا. عليّ أن أجد الوقت لكي أكتب.

 ما العمل؟ كيف أحوّل أربعين صفحة بيضاء على حاسوبي إلى حقول من الأبجدية؟ ليست مشكلة. هذا أهون من شرط السن. تستطيعين إضافة صفحة أو أكثر لكن مستحيل حذف سنة أو اثنتين من عمرك.

 نعم. شرط مقدور عليه. لم يصل خيالي سن اليأس وشهيّتي للقص مفتوحة. ليحفظك الله يا أمي. زاد حكاياتك لم ينضب. رغم أنّ الواقع مختلف تماما عمّا رويتِه لي. لا الجميلة الفقيرة تزوّجت ابن السلطان ولا الفارس المغوار قتل الغول ذا العين الواحدة، ولا أحد عثر على الكنز المدفون في حقل الذرة. (عرفت حكايات خوخو في حجر جدتي قبل أفلام الكرتون، آمنت أن خوخو يأتي في صفة طائر صغير، أو رجل نعرفه. وقد يأتي في صفة حيوان، أو يتحول إلى لعبة نشتهيها، فنحملها إلى البيت فيعود إلى صفته الأولى)1.

نعم.. لقد أتى خوخو يا صديق الحكاية، أتى على هيئة ثمان وعشرين حرفا، وتحوّل إلى لعبة ساحرة تدعى الكتابة.

عمّ الهرج والضجيج بيت العائلة الكبير. حضر المقرّبون من الأهل والأصدقاء قبل الموعد وبين كلمة مع هذه وضحكة مع تلك وترحيب بآخرين، ودورة تفقّدية للمطبخ، كنت أسرق بعض الوقت وأدخل غرفتي لأكتب والأربعون تحوم حولي. ما سرّك أيها الرقم؟ ما قصتك؟

 لو أن هناك قاعدة أخرى بعد الأربعين قاعدة للعشق؟ ماذا ستكون؟ ربما عليّ أن اخترعها يوما لتصبح" قواعد العشق الواحدة والأربعون". هكذا من باب الخروج من سجن العدد. ثم كيف للعشق الذي يملأ الدنيا ويشغل البشر أن تحدّد قواعده؟ آه. علي بابا واللصوص الأربعون. كنت مجرد طفلة حين قرأت الحكاية في مجلة أطفال مصوّرة. يا الهي! أربعون عدد كبير! مبالغ فيه جدا. لو كانت علي بابا واللصوص الخمسة أو العشرة لكان معقولا وربما موافقا لواقعنا اليوم. الآن أتساءل كيف استطاعت الجارية مرجانة وبكل بساطة أن تقتل بالزيت المغلي أربعين لصا داخل الجرار؟ حين كنت صغيرة لم أهتم ورأيت الجارية مرجانة بطلة . مازلت أراها كذلك لكن الحكاية اليوم تبدو لي ملفٌّقة ومستحيلة. ثم كلما كبر عدد السارقين كثُرت فرص تقاتلهم واختلافهم حول المسروق. السر إذا جاوز الاثنين شاع . ألم يعلمّوننا هذا؟. لعلّ أمثالنا الشعبية وحكاياتنا القديمة تحتاج إلى رسكلة. ربما أفعل ذلك يوما.

نعم. نعم .أيتها العبقرية. الآن عليك ملء الأربعين صفحة أولا.

يطرق باب غرفتي. تطل عبير برأسها من الباب. ابنة أخ زوجي.

 تسألني : قولي . كم حبّة " ماندرين "/ يوسفي / تريدين؟ أربعون، أربعون. أقول دون أن أرفع عينيّ عن الحاسوب. أسمعها تشهق مستغربة، فانتبه. لا. لا . أقصد أربعة . كنت قد طلبت منها أن تحضر لي اليوسفيّ .أحيانا يرافق كتابتي القصة " ما يشبه الوحم" 2 . أبدأ الكتابة وأشعر فجأة برغبة في قضم تفاحة أو فتح كيس من "الشيبس". يحدث أيضا أن أرغب في فنجان قهوة أو شاي. في ذلك اليوم، لم تخطر ببالي القهوة ولا الشاي ولا " الشيبس ". رغبت في الفاكهة، وبالذات اليوسفيّ، فطلبت من عبير أن تحضرها إلى غرفتي وترجّيتها أن تهتم بالضيوف، وأتبعت رجائي بــ " يرحم باباك " وتذكرت أبي وترحّمت عليه أيضا ومرّت بفكري عبارة كان يقولها ( اللي فات الربعين يولّي يعرف الموتى أكثر من الحيّين! ) وفكرت في حكاية الميت الذي تسقط ورقته أربعين يوما قبل يوم وفاته. حين كنت صغيرة ويموت أحدهم كنت أسمع أمي تقول " إيه مسكين..لقد كان معنا وسقطت ورقته قبل أربعين يوما ولا هو يدري ولا نحن ". ورقة! ورقة شجر أم ورقة كتاب؟ ربما ورقة كتاب على أساس أنّ حياتنا كتاب وأنّ كل يوم يمر نطوي فيه صفحة. آه تذكّرت الآن كتابا آخر جاء فيه عدد الأربعين. " الأربعون النووية" . ربما أحمّله وأقرأه قريبا. قرأت أنّ العنوان أربعون بينما الكتاب يحوي واحدا وأربعين حديثا!

يقال أيضا في أمثالنا " من عاشر قوما أربعين" يوما صار منهم. هههههه. ماذا لو عاشرهم اثنين وأربعين يوما، هل يصيرون منه مثلا؟

قالت لي مريم حين تحدثنا عن مشكلة " الأربعين " أخبريني.. هل من يكتب أربعين قصة يصير قاصا؟

 قلت لها لا أدري لكن صدّقيني من يعاشر قاصا أربعين يوما يصبح مجنونا!

 وضحكنا.

 مريم من اللواتي يشبهنني في عشق القصة .آه. تذكرت!يقال يخلق من الشبه أربعين. ليس القصد الشبه في الملامح فقط بل ربما يتعدّاها إلى الروح والطبع والشخصية والجنون. شبيهاتي أين أنتنّ؟ أي مكان يمكن أن يحوي جنونكنّ؟

 حمدا لله أننا متفرقات في هذا الكوكب وإلا كنا أغرقناه في الفوضى.

في اليوم الموعود كان الاستعداد على قدم وساق، بل على أقدام وسيقان. انشغلت كثيرا ونسيت المسابقة والقص والأربعين وبقيت على ثقة بأني سأعود إلى كلماتي بعد أن تنتهي الوليمة.

مع العصر، اتصل زوجي، قال إنّهم في المطار بمدينة قسنطينة وسيكونون بالبيت في حدود أربع أو خمس ساعات

و قبل أن ينهي المكالمة قال لي " هل كل شيء جاهز؟ للعشاء اعملوا حساب حوالي أربعين شخصا!".

***

آسيا رحاحلية

....................

1- من رواية اليربوع/ د. حسين فيلالي/ الجزائر

2- ما يشبه الوحم/ مجموعة قصصية لــ د. حسين فيلالي .

في نصوص اليوم