نصوص أدبية

طارق حنفي: صَوتُ حَيَاة

دقّاتُ الساعةِ تُعلن تمام الواحدة بعد منتصف الليل، وأنا ما زلت جالسا في غرفة المكتب، لا أقو على الحراك، أدفن رأسي بين يدي، أضغط بهما عليها؛ أحاول أن أسكت الصوت بداخِلِها دون جدوى، ظلَّ يَطرُق البابَ في إلحاح، يأملُ في العودة، يشتاقُ إلى الظهور، يتمنى لو يتردد صداهُ، وأن يحتلَّ تلكَ المساحةَ الشاسعة بداخل عقلي مرةً أخرى؛ على أملِ أن يحتلَّه كلَّه يومًا ما، كأنَّ مجردَ وجودِهِ بداخله بالنسبة له هو الوجود.

اختبرْتُ نفس الحالة معه كثيرًا من قبلُ، إنها أوقات، تأخذُ من وجداني، وتُسَيِّرُ عاطفتي، وتهيِّجُ أشجاني كيفما تشاء، لكنها بالنسبة له هي الحياةُ، كلُّ الحياة.. وفي كل مرةٍ طالتْ أم قصرت أختار رجوعَه، على الرغم من علمي بما أمرُّ به في تلك اللحظات من عذابٍ وقلق وخواء، ومع يقيني من أنه في وقتٍ ما بعد عودته يجبُ أن أقاومَه حتى أمنعَه من احتلالِ عقلي كلِّه، إلا أني في كل مرة أسمح له بالرجوع، وكأنِّى لا أتعلم شيئًا.

يطرق الباب، بمجرد أن أواربَه يجمعُ بقايا قوته في لهفة؛ فيدفعني ويقفز إلى الداخل في سرعة، لا أجد معها بُدًا إلا أن أُفسِح له الطريق.. إنها، وبطريقة ما، بالنسبة إليه دورة حياة، يبدأ فيها همسًا، ثم ينمو حتى يعظم، ثم ما يلبس أن يخفت ويذبل حتى يموت، ومن ثم ينبعث من جديد ليبدأ دورة حياته مرة أخرى، ولكن بثوب جديد.. إنه صوت يطلب الوجود على أمل أن يجد الرحمة، ينشد العودة على أمل أن يجد السعادة التي حُرِم منها طويلًا، يملك الإصرار والدافع في كل مرة ليعود، لعلّه يتعلم من أخطائه، لعلّه يجد الأمان الذى حُرم منه طويلا إلا من تلك اللحظات التي يسكن فيها عقلي، فنتشارك آلامه وعذابه وآماله ورجاءه.. هل أسمح له بالعودة في هذه المرة؟ هل هو حقًّا قراري؟ وما خياراتي؟

إن الإنسان في حرب ضروس مع كل القيود، يطمح إلى كسرها جميعًا، يطمع في أن يجد المجال ليفكر كيف شاء، ويفعل ما يشاء دون رقيبٍ أو واعزٍ أو واعظٍ، على أمل أن يجدَ المطلق، وتكون أنفاسه الحرية، لكنه في كل مرة يستطيع أن يكسر قيدًا، يذهب مهرولًا إلى قيد ما وراء القيد، يذهب سريعًا إلى قيدٍ ما يشتهيه هو نفسه، إلى بواعث كسره للقيد، وما أكثرها من قيود! فهل هي رحلة لاستبدال قيد بقيد، وقيود بقيود؟ أم دائرة الخواء؟! أم الخيارات والقرارات التي يتخذها كل إنسان على حدة في رحلة بحث عن ذات وتحديد هوية، في عمل دؤوب لاستخراج مكنونات نفسه؟

أتذكر ما حدث ذلك اليوم جيدًا، فمع إصابتي التي تَحول بيني وبين مواصلة القتال بجانبه، حاولتُ أن أجعله يعدُل عن التصدي للعدو بمفرده، حاولت منعه من مجرد الظهور لهم، سألته أن يختبئَ حتى يأتي المدد، لكنه لم ينصت إلى كلامي، لقد بدا وكأنه لم يسمع منه حرفًا واحدا، نهض في همة يصرخ ويطلق عليهم النار في جسارة، قتل عددًا منهم وأصاب أُخر، وأتى المدد ليجهز على البقية، كان خياره الذي أنقذ حياتنا.

هو عناده، رُبَّما شجاعته، أو رُبَّما حبه لي ومحاولة إنقاذي هو ما قاده إلى التصدي لهم بهذه الطريقة السافرة.. لا أدري، لقد أعطاني تبريرًا مختلفًا في كل مرة عاد فيها إلى عقلي، لم أراه أو أسمع منه بعد الحرب.. ثم أتاني خبر موته.. سأجمع شتات نفسي هذه المرة؛ لأسأله: “ماذا حدث له؟ كيف لمثله أن يموت بجرعة زائدة من المخدرات؟”

هل اختياراتنا ما تحدد مَن نكون حقًّا؟ أم هي رحلة ما تلبث أن تبدأ لتنتهي، وما تلبث أن تنتهي لتبدأ في استمرارية لامتناهية، على أملِ أن يجدَ صاحبها الرحمة، على أمل أن يجد السعادة، على أمل ألَّا يرتكبَ نفس الأخطاء، على أمل ألَّا يتخذ نفس الخيارات، وعلى أمل أن يجد الطمأنينة والسكينة والراحة؟.. تمامًا مثل ذلك الصوت في عقلي.

***

طارق حنفي

في نصوص اليوم