نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: نساء مررن من هنا

بضعف شديد، كانت تحرك جفنيها، بادلة جهدا عساها تتبين ماحولها، يتغشاها الدوار، فتعيد إغماض عينيها من جديد، فكل مرئي أمامها يثيرها بغثيان، رائحة بخور كريهة كأنها تهف من أرواح شريرة فتملأ خياشمها، تحاصر صدرها، فتوشك على التقيؤ، تحاول النهوض فتترادف عليها مطارق راسها، فتهوي قاعدة، ركبتاها الى صدرها دون أن تدري أنها مكشوفة بلا أدنى غلالة من ستر، نسمة برد تهب ضعيفة، بتثاقل تحرك يدها فتضعها على صدرها، تنتبه انها عارية تماما، تجفل !!.. ويهتز قلبها باعصار قاتل، ماذا وقع ؟ من جردها من ملابسها ؟ وكأن الخوف قد ايقظ حواسها، فتتذكر كاس الشاي، ثمالة الاسياد الذي أعطته لها الجارة قبل أن تدخل خلوة الفقيه، مقصلة اعدامها، سمعت خطوات بعيدة كأنها آتية من قلب بئرعميقة، تحسست راسها، اين حجابها ؟....

ترقبت ان تصل اليها الخطوات فتفتح باب الغرفة، قد يتسرب منها هواء ينعشها فتعرف حقيقة ماحل بها، بصعوبة استقامت في مكانها، تحاول أن تتكيء على جدار يسند ضعفها.. لأول مرة تتذكر أنها لم تأت وحدها عند الفقيه، كانت معها جارتها، أين هي؟، بدأت تقاوم ضعفها، تمسح غبش عيونها عساها تتبين ما حولها، على الأقل لتجد ثيابها فتستتر..

ينفتح الباب، ومع انفراجه يشع ضوء كهربائي في الغرفة، لم تكن غير جارتها، كانت تراها بين تلافيف من كثافة دخانية هي ما يحجب رؤيتها رغم قوة المصباح الكهربائي الذي يشبه مسقاط الضوء لدى المصورين..

اقبلت عليها الجارة ضاحكة بعد أن فتحت أحدى نوافذ الغرفة، عانقتها مهللة مكبرة:

مبروك !.. تسعة اشهر او أقل ونفرح بالضيف العزيز..

وكأنها لم تسمع ماقالت، كانت لا تسأل الا عن ثيابها وقد تكومت على نفسها ووضعت راسها بين فخديها تقي عيونها من وهج الضوء المسلط على وجهها، كانت تريد ان تستتر أولا ثم تعرف ما وقع..

كلما خفت رائحة الغرفة الكريهة استعادت هي بعضا من وعيها، لمحت ملابسها مرمية ككومة غسيل في زاوية من الغرفة، اشارت بيدها الثقيلة الى الجارة التي امدتها بها.. كانت هذه فقط تتابعها دون كلمات وكأنها مرتاحة لما وقع، لكنها حذرة من أن تنبس بأكثر مما هي مأمورة به، وما تعودته في مهمتها كسمسارة مساعدة للفقيه، حدقت في جارتها طويلا بعد ان شعرت بقدرة على التركيزثم سألت:

الآن أخبريني ماذا وقع بالضبط ؟

رسمت الجارة ضحكة نفاق، باهتة صفراء على وجهها ثم قالت:

ـ لا شيء، عادي، كثير من النساء العاقرات مررن من هنا فصرن أمهات..

أرعبتها العبارة فصاحت بملء صوتها، ورغوة زبدية تتطاير من فمها:

ـ أمهات !!.. أمهات بالحرام !!.. والفاعل من ؟ الفقيه !!..ماذا أقول لربي يوم الحساب ؟ ان حقيرا ادعى العلم والبركة صارباسمك يعبث بالارحام ؟!!.. فيكيف أواجه زوجي ؟كيف انظر الى المولود يوم يلفظه رحمي ؟

بدأت الجارة تربت على كتفيها، تمسح على راسها وكأنها تقوم بمهمة قد تعودت عليها، وفي قليل من اهتمام بدأت تردد أمامها:..

مابك ؟ قلق لامبرر له، ومبالغة فوق الحد...الزلة مغفورة لانها مستورة، لاشيء قد تغير منك، هل نسيت ضغوط عشر سنوات وما كنت تعانينه من أهل زوجك ؟هل غاب عنك كم دمرتك نظراتهم ؟ماذا نقص منك امام غبنك واحساسك بالنقص والقصور والعجز امام النساء ؟هي لحظة و قد مرت بسلام.. بلية لكن مستورة لن يعاقب الله عليها !!..

- هل انت تعرفين الله حتى تتكلمي باسمه ؟لو كنت تعرفين الله ما سقتني كشاة بلا إرادة الى مجزرة فقيهك اللعين !..ماذا فعلت بي؟ وكيف تواجهين ربك يوم الحساب ؟...

تركت لدموعها العنان، أخذت تضرب على فخديها، تلطم وجهها وقد صار صدرها كمنفاخ صاعد نازل يعصره ندم شديد:

ـ انت لم تخبريني أن الامر يصل الى حد الاغتصاب، أنت فقط قلت أن الفقيه سيدخلني الى غرفة البخور وأنت معي، ويرسم خاتم سليمان على بطني من فوق ثيابي، لانه يسخر جنا مسلما يخاف الله...هل أنتما معا تخافان الله؟ !!.. وهل انا استحضرت قوة الله حين وثقت بك؟. يا ويلي من غضبك ياالله !!!..

وقفت الجارة وكأنها تدعوها للانصراف، وقد صارت تخشى ان يصل صوتها الى الخارج حيث تنتظر أخريات خاتم سليمان من بركة الفقيه !.. أبدا ما عادت هي الصديقة التي تقربت منها ولازمتها، تغريها بالأولياء الصالحين، وبركة الجن المسلمين، وقدر ة الفقيه على فك عقدة عقمها، وجدت أن الجارة صارت امرأة أخرى تتعامل بغير ما تعودته منها من نصائح واغراءات بحمل سعيد من بركة الفقيه الذي يعرف مابينه وبين الله، عاودتها هزة من بكاء وقبل أن تكمل وقفتها قالت لها الجارة:

الفقيه يريد بقية أتعابه مع فتوح بنجاح المسعى..

صاحت في وجهها:

الفتوح !!.. أما كفاه ما أخذ ؟ كل ذهبي وما سرقته من زوجي من أجل ان اسقط في لحظة زنا لاتغتفر..فتح الله أبواب جهنم في وجهه ووجهك..

قالت الجارة في لهجة آمرة وكأنها تحكي عن عقيدة وعلم ويقين:

ليس هو من يأخذ، هي طلبات الأسياد التي لا تنتهي، وليس هو من يفعل وانما ينفذ أوامر سلطان الجن الذي يأمره بما يفعل وكيف حتى يكتمل المقصود..

ارادت أن تخرج فمنعتها الجارة وهي تقول:

ليس قبل أن تحددي متى ستدفعين الباقي والاعرض الفقيه صورك على زوجك..

ضجت بصراخ كمن أصابها مس من جنون، وقد أرعبتها العبارة:

صور!!..أية صور ؟!!، ومن أخذ الصور ؟ومتى؟.... ادركت من سريان الم يتغشى جسدها لماذا تمت تعريتها بالكامل ؟وما علة وجود المسقط الكهربائي؟ احست بانهيار تام وضعف لم تعد تستطيع معه وقوفا، جثت على ركبتيها، دموعها حفرت سواقي على خديها، ماعادت تستطيع شهيقا ولا صدرها عاد يقبل هواء:

بدات تسعل وكانها على وشك الاختناق..اية ورطة وضعت فيها نفسها ؟ ماعادت تريد خلفة، ليت حرقة عشر سنوات من العقم تحرقها بنار ذات لهب ثم تحولها رمادا بدل ان تجد نفسها في موقف كهذا..شرف ضائع وكرامة مهدورة ثم فضيحة على رؤوس العباد وبالصور..أي عقاب أمكر مما تحسه الآن في نفسها؟

ضاع الزوج، وانهد صرح بيتها، قتلت عشقا قويا، هو ما يكنه لها زوج أحبها ووثق بها، وقد جعل منها صندوق اسراره العملية والمالية، والذي كثيرا ما كان يهدئ من الهوس وسوء الظن الذي يأكل صدرها، وهو يعايش غيرتها خوفا عليه من أن تحول انثى غيرها مجرى حياته معها..

هي دوما كانت تطمع في بنت أو ولد يعمي عيون اعدائها ومن ينظرون الى الزوج بعيون الشماتة رغم ما يبديه لها من تفان وحب:

ـ "لا تقلقي ياحبيبتي فالعقم مني وأنا راض بحياتنا يكفيني وجودك معي..."

كم مرة نصحها ان يتبنيا طفلة من الملجأ تبهج حياتهما، لكنها كانت تمتنع ايمانا منها أنها ستحمل ذات يوم لانها تريد خلفة من صلبه..

دخل عليهما الفقيه، وقد اتسعت على وجهه ضحكة شماتة، فقد فاز بأنثى بجمال كتحفة فنية، تبهر بقدها المتناسق، ووجهها المشرق ببسمة لؤلؤية، وعيون واسعة حجلية، كانت تتركه مقتولا بسحرها كلما زارته مع الجارة؛ لأول مرة تراه كخنزير بري بلحيته السوداء وعمامته الصفراء الفاقعة ؛ قال بعد ان امر الجارة بإعادة ترتيب الغرفة:

ضيوف جدد قد أتوا، لابد ان تنصرفي، غدا سأنتظر مابقي بذمتك..

اشتعل في عقلها أمر، فهي الآن بين يقين اليأس والموت الآتي ولن تتصور بان حياتها سيجري فيها نهر من امل في الزوج والبيت كما جرى من قبل، جفت الحياة من حولها، و الفضيحة آتية لا محالة مهما طال لها زمن، وما اكتشفته في الجارة زاد من مخاوفها، هي امرأة حقيرة قادرة على كل شيء، بين لحظة وأخرى تصير حرباء يتغير لونها، حية رقطاء لا ترحم كل من منها قد اقترب.. تطأطئ برأسها الى الأرض، "ليته ينقطع تحت مقصلة تنهي حياتي ؛غدا يصبح

 ويفتح "..

تخرج وهي تشيع شابة جميلة في بهو الدار تنتظر دورها مع إحدى قريبات جارتها، تستوعب الدرس وتبلغ الحقيقة، لكن بعد ان ذبحتها سكين الطعم الذي رمته لها الجارة مذ لازمتها بالاغراء والتخويف، بان العيون مسلطة على زوجها من سكان الحي، ، وحقيقة الغول الذي ابتلعته كضحية لتنشئة لا تخضع لتبرير عقلي أو مفهوم علمي، حقيقة التصديق بفقهاء الرقية الشرعية وعلماء اغرقوا المجتمع في مغاور التخويف بالجن وقدرته على امتلاك البشر والسكن في اعماقهم، تعرف الآن من تكون الجارة وقريبتها هذه التي مع امرأة أخرى، ينتظرها الفقيه لصب مكبوتاته بلا خشية من خالق او خوف من قانون.. عصابة تستغل جهل الناس بدينهم فتزين لهم طقوس الشعوذة كوعد بتحقيق ما استعصى على العلم والطب.. لم تقصد بيتها، فلابيت عاد لها، وانما كانت الى مركز الشرطة اسرع...

***

محمد الدرقاوي - المغرب

في نصوص اليوم