نصوص أدبية

عقيل العبود: الصياد الغريق

ذات ظهيرة من أيام الصيف، وفي زمن لم تكن الحياة إلا فضاء تجتمع المحبة فيه مع ألفة أبناء المحلة والجيران. هنالك في منطقة تقترب من مدرسة الشرقية الابتدائية، عند بدايات ستينيات القرن المنصرم، إذ لم يتجاوز عمري الخمس سنوات. كان والدي في بدايات مراتبه الوظيفية، وكنا نسكن في محلة، أو حي أسمه البلدية، والذي تم تخصيصه حصرا لموظفي البلديات في مدينة الناصرية.

كانت الظهيرة تستهوي أخي الكبير عبد الحسين الذي اعتاد اصطحاب دراجته الهوائية السوداء لاصطياد السمك بصحبة أخي الثاني علي والذي يصغره بسنتين.

وكانا يذهبان  في أيام العطل وبعد الدوام المدرسي إلى ما يسمى (الموحية) وهي عبارة عن بحيرة تقع في منطقة المتنزه، في الصوب الثاني من المدينة.

 عند الساعة الرابعة والنصف من مساء يوم داكن، كانت الأجواء تميل إلى اللون الرمادي، وفي البيت الصغير، كنت انتظر احتساء (قنينة البيبسي كولا) والتي اتذكر منها تلك السطور البيضاء المكتوبة على الزجاجة.

رن جرس الهاتف الذي كان بلون أسود، وبصوت مرتفع، توجه أبي للرد، لكنه فجأة وبعد برهة قصيرة، لم أسمع إلا نحيب، ونواح دب في المحلة كلها بطريقة مريعة.

خرجت والدتي تصرخ وتضرب على رأسها ما يجعلني استحضر مشهد (أم مساعد) في فلم بس يا بحر الذي شاهدته في نهاية سبعينيات القرن المنصرم.

اجتمع أبناء المحلة في الساحة التي تقع البيوت على جوانبها؛ فلاح، وصبحي وغيرهم ، كان الجيران كأنهم يجمعهم نسيج  اجتماعي واحد- النساء، والأطفال، والكبار، الكل خرج مذهولا من الصعقة للمواساة حيث بكاء أمي الذي أشغل مشاعر الجميع.

بقيت الحكاية غامضة بخطوطها، وخطواتها، رغم أن هنالك إعصارا من الهواجس صار يضطرب في داخلي، يحثني لأن أطلق دموعي التي احتبست، ثم راحت تحترق في داخلي على شاكلة عويل أخرس، لم أكن حينها عارفا بما جرى، لا أحد يلتفت لاسئلتي، أضحيت مهشما خائر القوى، ألوذ بأجواء الحزن وطقوسها الشاحبة، ليتني استنطق تلك الجدران، أتحدث إليها أو أدنو نحو خطوات أمي التي انصعقت مع نوبات بكائها على أمل أن أعبر عن بعض مواساتي أسوة بغيري.

لحظتئذ جاء رجل يظهر على ملامحه الوقار، وأبلغ والدي بخبر لم اسمعه حينها.

اتضح فيما بعد أن أخي الأكبر والذي كان يمازحني، لم يعد بعد كعادته بدراجته السوداء، رحت مع صور، وخيالات لا أقوى أن أحلق بين طياتها، أواستنطقها، خاصة عندما أطبق الغروب أسوار هيبته مع الظلام.

حل الليل رويدا رويدا، قفز إلى ذهني سوال تحشوه تفاصيل غريبة،  ترى أين ذهب عبد الحسين؟ قال أحدهم أن النهر ابتلعه، قال الثاني أنه انقذ أخاه الذي يصغره سنا، وأخذته الأمواج بعيدا.

اختمرت الحكاية في عقلي ومشاعري، لتنمو على شاكلة لغز ما زال يبحر في عمق التفاصيل، لعله يستقرئ معنى الرحيل، مع صيحات النوارس التي كنت اسمع عنها، وأقترب نحوها دون أن أخوض في مساحات معانيها،  مضافا اليها هتاف أمي الذي امتزج بشوط الفراق المبكر، لولدها البكر الذي استهون الموت، لينقذ حياة رفيقه الذي اصطحبه لرحلة الصيد.

***

عقيل العبود

 

في نصوص اليوم