نصوص أدبية

آسيا رحاحلية: جنحة

مقعدكِ الشاغر شوّه وجه القاعة وأفسد يومي.

رسالتك على هاتفي جافة كقطعة خبز يابسة في حلق طفل جائع. " آسفة، ظروفي لم تسمح بالحضور ".

كم مؤلم أن يحضر الجميع وتغيبين !

أقصد يغيب الجميع وتكونين وحدك الحاضرة، في بؤبؤ العين وفي الذاكرة.

أعددتُ لك ما استطعت من شوق ونسجت لعينيكِ غزلا رقيقا، لكن حين اعتليتُ المنصة ونظرت أمامي، قابلني وجه الغياب المجرم وسمعت الشعر يبكي على كتفي فقرأتُ قصيدة في رثاء الوطن.

شعرت وأنا أرى غيابك بفراغ كاسح يملأ القاعة ويملأني ويقفز من كتب الشعر والنثر.

الغياب: ثقوب سوداء في جسد الحضور.

أتعبني عشقك يا امرأة، وتمنيت  لو أنّني امتلأ بحضورك حدّ التخمة، لدرجة يتساوى فيها حضورك والغياب.

لو أنّ حبي الذي زاد عن حدّه ينقلب إلى ضدّه. لو أبكي من فرط  شوقي بكاء غزيرا  يدوم لأيام، لأسبوع، لشهر ثم أتوقف، وأبحث عنك في ملح دموعي  فلا أعثر لك على أثر.

لو أنّي أنفق اهتمامي بك وقلقي عليك حتى آخر قطعة فأصبح مفلسا منك ومن كل شعور له علاقة بك.

لو أنّي أنادي عليك في كل ثانية مثل ببغّاء إلى أن يتساوى اسمك في سمعي مع أية لفظة أخرى.. يصبح مرادفا لــ " لاشيء" .. مجرّدا من كل معنى.

يومٌ أدبيّ ختامه خيبة.

غادرتُ دار الثقافة قاصدا قريتي التي تحارب العشاق ولا تعترف بالشعراء. كان طريق الخروج مزدحما. توقفت عند إشارة حمراء انتظر الضوء الأخضر، ووجدت نفسي أفكّر في الدائرة الصغيرة الخضراء التي تتزيّن باسمك في الجدار الأزرق.

الأخضر.. يا لون الغواية!. الأخضر لون عينيك. الأخضر جنة. الأخضر جحيم. الأخضر حضور. الأخضر غياب. الأخضر سلم. الأخضر حرب. الأخضر قصيدة.

الأخضر.. يا لون الفرح. الأخضر أنت.

"آسفة، ظروفي لم تسمح لي بالحضور "! هل كان يجب أن تذكري الكلمة ؟ لو أنك فقط كتبت " لن أحضر" أو" سأغيب لهذا اليوم " أو " استمتع بيومك" أو أيّة عبارة أخرى.. لماذا لفظة" ظروف"؟

مستفزّة ، تذكّرني بتاريخي ومعاركي معها.

يحدث أن يكون لك تاريخ مع... كلمة.

يوم بدأت أعي معنى الكلمات ونتفا من معاني الحياة صدمتني كلمة " ظروف". ظروفنا صعبة"، كنت أسمع أبي يقول،" ظروفنا لا تسمح ". أما أمي فتتمتم بقلب مشبع بأمل صلب لا يعشّش سوى في عيون الأمهات " انتظر يا ابني حتى تتحسّن الظروف".

و لكنها لم تكن تتحسّن، ربما قليلا فقط ونادرا.

كنت لا أفهم  لماذا ظروف عمي دائما تسمح  بينما ظروف أبي دائما لا تسمح!

أتذكر ذلك اليوم كأنّه الأمس. كانت نهاية السنة الدراسية، في المتوسطة. كنت متحمّسا لمباراة لكرة القدم بين  مدرستنا وبين المدرسة التي يرتادها محمد ابن عمي. التقيت به عشية الموعد. كان مبتهجا، متباهيا بحذائه الرياضي الجديد غالي الثمن. عدت إلى البيت وطلبت من أبي أن يشتري لي حذاء ، لكنه قال " ظروفي لا  تسمح يا ابني". ابتلعت حزني  ولعنت الظروف، ولعبت بحذاء لم يبق فيه  سوى الهمزة على سطر الفقر. ورغم ذلك ولحسن حظي انتهت المقابلة بحدثين سارّين: الأول، لا أحد تفطّن لحذائي الممزّق والثاني.. كان الفوز حليف مدرستنا.

يومها تعلمت أن الظروف متناقضة وعشوائية، وليست بالقوة التي نعتقد. لقد أدخلتني مباراة مدرسية بحذاء رياضي متهرئ، لكنها جعلت مني مديرا لشركة كبيرة وشاعرا كبيرا أيضا. تعثّرت في سنتي الجامعية الثانية لأني كنت أدرس نهارا وأعمل ليلا كي أوفّر ثمن دواء أمي المريضة ومصاريف مدرسة أخواي سمير وأحمد. أبي كان قد غادرنا باكرا متأثرا بسرطان الرئة. سألني عميد الكلية لمَ أريد ترك الجامعة فأخبرته أنّها الظروف. قال وهو يحدّق في وجهي  بنظرة تأنيب حاد  " الظروف مشجب يعلّق عليه الضعفاء فشلهم ".

يومها كسرت المشجب وتقدّمت.

في الحقيقة لم أكن أتخيّلها مشجبا، بل امرأة / لم لا رجل؟ ..لا أدري / امرأة  رأسها كوكب تسكنه الملائكة والشياطين. نصفه الأيسر أسود مظلم بارد كليل الشتاء والأيمن مضيء متلألئ ناصع الحظ. ذراعاها طويلان ينتهي الأيمن بخمس وردات بيض وينتهي الأيسر برأس أفعى تستطيع شوكتها أن تمتد لمسافات بعيدة وتقطف كل أمنية في قلب طفل فقير. كم تمنيت أن ألتقي بالظروف وأطبق يديّ على عنقها بقوة  إلى أن تلفظ أنفاسها وأرتاح منها ويرتاح  العالم، خاصة حين تيقنت أنّها لا تحب من يستسلم لها ولا ترضخ سوى لمن يقف في وجهها ويلوي ذراعها- الأفعى، ويقتلعها من الكتف ثم يرميها بعيدا.

لولا الظروف... الــ... اللعنة ! ها أنا مرّة أخرى أذكر الكلمة التي أكره ! لولاها لكنت الآن معي. بجانبي، على هذا المقعد الشاغر، نستمع لفيروز ونستمتع بمنظر أشجار اللوز المزهرة على جانبي الطريق.

بدأت تمطر. ذلك المطر الذي يجتهد لكي يكون غزيرا . لكن لا جدوى فالشتاء يحتضر والربيع بكل عنفوانه يطرق الأبواب. رحت أقود وفكري مشغول بك وعيناي تتابعان ماسح الزجاج يتراقص  يمينا وشمالا، ومع  كل حركة، يرسم أمامي وجها من وجوه حياتي. وجه أبي ثم أمي، ثم عمي. ثم وجه الظروف نصف المظلم نصف المضيء.

ثم سطع وجهك. ابتسامتك الشهيّة  ألهبت نار الشوق في قلبي. أحكمت قبضة يديّ على المقود وانطلقت مسرعا  كأنني على موعد معك. بعد مسافة لم أستطع تحديدها، انتبهت لرجل الدرك، علي بعد أمتار أمامي، يشير لي بيده أن أتوقف .

خفضت السرعة وتوقفت على جانب الطريق .

" الرادار سجّل سرعة مفرطة"  قال لي.

وسلّمني ورقة قرأت فيها جنحتي: قيادة في حالة حب.

***

آسيا رحاحلية – قاصة

.........................

* مجموعة: حبّة رمل على شاطيء بعيد، دار خيال 2020

 

في نصوص اليوم