نصوص أدبية

فراس ميهوب: أديب الشيشكلي

كان مصرّا على أنَّ الحاكم لا يخطئ، وأنَّه مندوب من الله لحكم هذه البقعة من الأرض لفترة من الزمن لا يعلمها البشرُ، وليس من حقهم معارضته، لأنهم بذلك يخالفون إرادة من ندبه!

طرحتُ عليه سؤالا بسيطا:

- ماذا يحدثُ إن جرى قلب حكمه في ليلة ما؟

- هذا لن يحدث، إنه بحماية الله، ألا تفهم؟

- سؤالي افتراضي، إن حدث ذلك، لا سمح الله، فهل ستحتفظ برأيك بأنه نائبُ الله على هذه الأرض البائسة؟

- أنت تهذي، هذا لن يكون، ولا يمكن تصوره، ستكون علامة على اقتراب الساعة.

- أنت تنسى أنه وصل إلى حكم بلدستان بانقلاب عسكري، ولن يذهب إلا بالموت الطبيعي أو بانقلاب؟

نظر إليَّ ماهر شزرا، وقال لي بتهديد واضح:

- هل ستتفضل بإعادة ما قلتَ لي أمام ضباط المخابرات؟

- قد يكون الأمر صعبا، بل مستحيلا بالفعل، ولكن هذا يدحضُ نظريتك عن الندب الإلهي، إنه بحماية رجال المخابرات إذن، وليس بحمى الرحمن!

- أنتَ مجادل و سفسطائي، ميولك المعارضة أصبحت تقلقني، لا أعرف من زرع في رأسك هذه الأفكار السيئة، لو كنتُ أعرفُ أنك جديٌّ لما ترددت بالإبلاغ عنك، ولكنك صديقي، وأعرف أنك تمزح.

- أنا لا أمزح، أطرحُ أسئلة مشروعة.

انتهى النقاش عند هذا الحد، كان ماهر من ذاك النوع من مثقفي الجرائد اليومية الذي يحتفي بالاستقبال والتوديع، ولم يقرأ، على ما أعلمه، كتابا واحدا أو بحثا جديا لا في السياسة ولا في الاجتماع أو الفلسفة.

دراسته في كلية الزراعة اقتصرت أيضا على المقرر الدراسي، كان ذلك العام في السنة الأخيرة، علو صوته ناتج عن ادعاء فارغ بالثقافة الواسعة، الصحف الرسمية الثلاث لا تفارق إبطه، وقد يضيف إليها جريدة الرياضة الأسبوعية.

مصدر ثقته العالية بالنفس هو أنه يتبنى حرفيا الموقف الموحد لافتتاحيات الصحف التي يقرأها، يعرفُ تماما أن الخطر عليه من الجدال الحاد مع أصدقائه و زملاء دراسته هو صفر، محميا بالموقف الرسمي الذي يسمح له بالتأييد الأعمى، ويمنع عليه و على غيره أي اعتراض أو معارضة، ولم يكن هذا رأيي وحدي.

مع تقدم ماهر في سنوات دراسته الجامعية، قلَّ عدد أصدقائه، لم تكن السياسة هي السبب الوحيد، الشاب كان بخيلا حد التقتير على النفس، انغلاقه الفكري كان انعكاسا لموقف شامل من الحياة حيث لا مخاطرة ولا خروج عن الطريق المرسوم، إيثار السلامة هو الخط الذي لا يُحاد عنه.

لم آخذ تهديده بالوشاية بي على محمل الجد، ليس لشجاعتي المفرطة، فقد كنت بلا شك أخاف من هذا الاحتمال، ولكن لمعرفتي العميقة بماهر والتي مضى عليها آنئذ خمس سنوات.

كنتُ واثقا أنَّ صلتي به ستنتهي بعد أشهر قليلة عندما يتخرجُ كلانا، ولن يجمعنا شيء بعد أن لمَّتنا صدفة السكن الجامعي المشترك.

كان ماهر شديد الحساب للمخاطر، أو لنقل إنه كان مدركا بدقة للخطوط الحمر الموجودة بالفعل أو المتخيلة، لذلك لن يذهب إلى فرع مخابرات لينقل له كلامي المحرَّم حسب رأيه، الأسئلة التي سيتوقع مواجهتها من نوع: لماذا لم تخبرنا قبل ذلك، وما رأيك أنت بما يقوله صديقك، وكيف استمرت صداقتكما كل هذه السنوات، ثم أنك تعلم أنه ابن عم لمسؤول شيوعي، فكيف قبلت السكن المشترك معه، وأسئلة أخرى...

2

بصوت جهوري مليء بالفخر والجدية، ألقى المذيع ذاته الذي مجَّد الزعيم السابق طوال فترة حكمه الطويلة البيان رقم واحد:

" استجابة لتطلعات شعبنا في بلدستان، وكل بلاد ستان، قام العقيد أديب الشيشكلي صباح اليوم الإثنين التاسع عشر من كانون الأول بحركته الثورية، وقد تم إلقاء القبض على أركان النظام البائد ورأسه مغتصب السلطة والقرار، وسيحالون جميعا إلى محاكمة عادلة جرَّاء ما اقترفت أيديهم من جرائم وفساد، ونذِّكر الأخوة المواطنين بضرورة توخي الحذر، وتلقي التعليمات من الإذاعة الوطنية، وعدم الإلتفات إلى وسائل الإعلام المعادية والمغرضة".

لم يكد المذيعُ ينهي قراءة بيانه حتى أحسستُ بالخلاص، كأنَّ معصمي تحرر من قيد ثقيل، ورأسي من خطر محدق، كان إثباتا لما حاولت قوله لماهر، لم أكن مؤيدا لانقلاب الشيشكلي ولا غيره، فهذه الوسيلة بالوصول إلى الحكم ستجرُّ البلاد إلى هاوية لا قرار لها.

اهتمامي توجه إلى ماهر، المؤيد غير المشروط، كان ممثلا لحالة واسعة الانتشار أكثر منه فردا، أولئك الذي يمارسون حقهم في التأييد الأعمى، ويسلبون حق الاعتراض ولو كان شكليا وواهنا من أي شخص آخر.

كنتُ مستلقيا في سريري الصغير حين وصل ماهر كعادته، ورمى بحركة استعراضية الصحف اليومية على مكتبه، عبوسه المصطنع للجدية لا يفارق وجهه، لم أنتظر حتى يلتقط أنفاسه، اصطنعتُ جدية مشابهة، بل تقمصتُ دوري بما استطعت من إتقان:

- ماهر، هل عرفتَ بما حدث، أنا أفهمُ شعورك، والأمر جلل بالفعل، وغير متوقع البتة؟

- هل اتصل أحد من أهلي، أبي، ما به، هل مات، أعلم أنه مريض، لكن أمي قالت أنه مجرد زكام عابر؟

امتقعَ محيَّا ماهر، ترنح، وكاد يسقط، سندتُه، وساعدتُه على الجلوس على أقرب كرسي.

- لا، أهلك بخير.

تنفس ماهر الصعداء، وقبل أن يستعيد بطره الاعتيادي، عاجلتُه بباقي الخبر:

- الأمر أكثر خطورة، يتعلقُ بسلامة البلد كله، لقد حدث ما حذرتك منه.

-  قل، توقف عن تنقيط الخبر كماسورة مياه معطلة.

تملك الذعر ماهر، وأدركت أن التأثير المطلوب قد نال من قواه.

- فهمتُ من ملامحك العادية حين دخلت أنك لم تسمع بانقلاب اليوم؟

- أي انقلاب، أين؟

- هنا في بلدنا، بلدستان.

لقد قام ضابط اسمه أديب الشيشكلي بانقلاب عسكري، وأطاح بالحكم وأزلامه؟

- الزعيم، ماذا حدث له؟

- انتبه، لا تذكر اسمه من الآن فصاعدا، إنه في السجن، وينتظر المحاكمة.

بدا ماهر لأول مرة ضائعا، نقاط استناده الثابتة تضعضعت، أكثر من عشرين عاما من الموالاة هبت عليها الريح، ما ظنه أبديا أضحى الآن عبئا ثقيلا، عالمه الثابت المطمئن انهار فجأة، سفينته المبحرة بهدوء في البحر الساكن عصفَ بها نوٌّ ثقيل.

- من أديب الشيشكلي، لم أسمع باسمه من قبل؟

- إنه ضابط كبير، ولكن على ما يبدو كان في الظل، ويتحين فرصة للانقضاض على الحكم.

انتصبَ ماهر على قدميه، وأظنه كان شاخصا عمَّا حوله، مشى خطوتين، استدار، نظر عبر النافذة المفتوحة، كان كل شيء عبرها كما عرفه، مرور الطلاب أمام السكن، الرتابة ذاتها، لكن ما حدث قلب كيانه حتما، حار ما يصنع، هل يذهب للاتصال بأهله من مكتب البريد، أم ينزل إلى الشارع ليتقصى الحقيقة على الأرض؟

حمل إحدى الجرائد الرسمية، رأى صورة الزعيم على صفحتها الأولى، ولكنه فهم أن الانقلاب قد حدث بعد صدورها بقليل.

بدا، بعد تلك الدقائق الثقيلة، أنَّ ماهر قد استوعب الصدمة، التزمتُ الصمت ولم أشأ ان أزيد عليه العبء.

أمسكَ بالمذياع، أدار الإبرة على المحطة الرسمية، كانت فترة العصر مخصصة للأغاني الطربية، لم يكن ماهر بحاجة للتذكير بتجنب المحطات المعادية، كانت أم كلثوم تغني: "عودت عيني على رؤياك"، تركها ماهر تتابع الأغنية ولم يكترث بسماعها رغم عشقه لطرب الست.

- لدي حلقة بحث مشتركة عند الخامسة مع زملاء بالكلية، لا بدّ من الذهاب، هل أعلنوا حظرا للتجول؟

- لم يذكر البيان ذلك، كن حذرا على كل حال.

خرج ماهر لا يلوي على شيء، تناسيت الانقلاب، وانشغلت بدراستي، وأذني تصغي بذات الوقت إلى الأغنية الجميلة.

3

عاد ماهر من حلقة البحث، كان أقل توترا، طرحتُ عليه سؤالا فوريا:

- هل تحدثت مع الرفاق عن الانقلاب؟

- بالطبع لا، هل أنا مجنون، في الفترات الانتقالية وحتى نفهم ما يحدث، علينا أن نغلق أفواهنا لنحفظ رؤوسنا.

لم يخيب ماهر عمق معرفتي به، وبردود أفعاله على الأحداث.

- لنستمع إلى نشرة السابعة مساء، لا بدَّ أن يعيدوا البيان رقم واحد، أو يصدروا البيان رقم اثنين.

ألصق ماهر يده بالمذياع وكأنه يريد أن يشعر بأمان ما يستمده من الأخبار التي ستخرج منه، ما أشدَّ استغرابه حين سمع المذيع يكرر ما قاله عند الصباح عن استقبال الزعيم- السابق-  لضيفه الكبير.

لم يستوعب ماهر ما سمعه بعد، ظل مذهولا لدقائق، ولكن اندهاشه تبدد حين سمع المذيع ذاته يكرر أحداث الماضي القديم في لاحقة الأخبار:

"حدث في مثل هذا اليوم من عام ألف وتسعمائة وتسع وأربعين: قيام أديب الشيشكلي بانقلاب عسكري، واستيلاؤه على السلطة".

نظر إليّ ماهر وعاتبني:

- قلت لك، لا يقدر أحد على القيام بانقلاب في بلدستان.

رغم  تظاهره بفهم مزحتي السمجة، والتي خطرت على بالي وأنا أستمع إلى برنامج حدث في مثل هذا اليوم، لكن ثقة ماهر بأفكاره الثابتة لم تعد كما كانت، لم يعترف قط بأنّه لم يسمع باسم الشيشكلي أبدا لأن تاريخ اهتمامه السياسي بدأ مع زعيمه.

لم يتخلَ ماهر عن مناكفته لي فحسب، بل تخلى عن صداقتي تماما، فقد ترك السكن المشترك بعد أقل من أسبوع حين أدرك، وأعترف أمام نفسه، ولو دون إعلان صريح أنه وقع في شرك أفكاره.

4

بعد عشرين عاما:

لم أرَ ماهر أبدا منذ ذلك اليوم إلا الأسبوع الماضي حين كنتُ في دائرة حكومية، لم يسلم عليّ، وتجاهلته أيضا، قبل أن يخرج من المكان رفع رأسه، و نظر إلى الصورة الرسمية التي تعتلي الحائط خلف الموظف، أراد ماهر أن يوصل لي الرسالة ولو دون نطق بأنه كان على حق.

***

فراس ميهوب

2021/06/27

في نصوص اليوم