نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: مشاعل لدمالة الوجه

"أنا لن أمنعك الزواج، لكن أن أعيش معك في بيت رجل آخر فلا؛ اليوم طلبك برضى ووافق لأعيش معك، وغدا يتنكر لرضاه، ويرمينا معا في الشارع، فعلها أبي يوما، وهو من أوجدني، فأحرى أن يكون رجلا غريبا، وما أنا معك بالنسبة له الا ذيل تبيع، تذكري أو "الدجاجة غسلات رجليها ونسات ماداز عليها "؟!!.أنا .أبدا ما نسيت ولن أنسى، لن أكون معك، ولن أتعقب حياة فاشلة، سأنحازالى خالي، ربما يتحملني رغم ضيق حاله الى نهاية السنة، أحصل على شهادتي الثانوية وابحث عن عمل في مصنع أوخادمة في بيت حتى، هذا قدري، تحملت الضنك وشراسة أبي عساني ألبي طموح نفسي الدراسي، وأحقق رغبتي ولو باقل ماكنت أطمع، ربما للقدر رأي آخر.."

كانت الام تصغي لكلمات بنتها في هدوء، وتلك طريقتها في التعامل معها حتى قبل موت والدها بسكتة قلبية من فرط السكْر والسُّكَّري.. فقد كانت تكره أن تشب البنت بعصبية وشراسة كأبيها، أو تتشرب مما كان يتلبسه من طغيان وعناد وبطش، فتضيع، أو تخرج الى المدرسة بلا عودة ؛ كانت تحوز البنت اليها بحب يعشعش في صدرها حرصا بكل ما تستلزمه تربية بنت بلا مثل ولا قدوة من أب، ولئن استطاعت هي أن تتجلد وتصمد فهيهات لطفلة ألا ينكسر لها عماد ..

هو ذا الرعب الذي كان يتملك الأم، وهي ترى بعض بنات الجيران قد غادرن أسرهن بلا رجعة بعد ان تحولت بيوتهن رمادا من خصومات وشقاق جراء السكر، وإدمان الرهان على الخيول، الوباء الشائع بين رجال الحي ..

غلبتها دموعها، فوضعت يد ابنتها بين يديها، لثمتها، وكأنها تتوسلها أن توافق، فالرجل ذو أصل وميسور، وهذه فرصة لن تعوض:

ـ طاوعيني حبيبتي، لا أطلب منك الاأن تستعملي عقلك، عمرليس كما تتوهمين، كان ابن حينا، أعرف أصله وفصله، "دار خير، يد أهلها تسبق قلوبهم .."

سلت البنت يدها من بين يدي أمها، قالت وصوتها لا يخلو من دهشة:

ـ معناه حب قديم عاد ليمسح عن وجهك ضنك الزمن بعد موت أبي، فمن منعك منه أمس لترضى به اليوم؟ أتوسلك ماما، فلست مستعدة ولن أصير فتيل احتراق، ذليلة أمام خلق الله مرة أخرى.

أعادت الأم يد البنت بين يديها، ثم رفعتها إلى شفاهها، وكأنها تنفث فيها إحساسا بالأمان و تستجديها القبول:

ـ والله لم يكن حبا ولا حتى صداقة، فقط كنا جميعا من سكان حي شعبي واحد، تلاميذ وطلبة، أبناء حرفيين ومهنيين وصناع تقليديين، وقد بدأت صداقة بين أبيك وبين عمر الذي سكن أهله الحي متأخرين عن اسرة والدك، لكن سرعان ما انتهت بعد أن تخاصما من اجل هيمنة كان ابوك يفرضها في الحي كرغبة في السيطرة وحب الظهور، ثم ما لبث أهل عمر أن رحلوا الى مسكن جدهم بعد وفاته حتى أنه لم يعرفني حين صادفته في متجر الحي..

باستدراك مباغث وبلهجة تأنيب اتى رد البنت:

وانت بسرعة تعرفت عليه بعد كل هذه السنوات، فتحركت بين ضلوع الصدر رغبتك القديمة اليه، متوهمة أنه أتى ليطوي محطات خيبتك مع أبي . قدمت له نفسك، فأخبرك بأنه أرمل، فقد زوجته، ويعلم الله كم مرة خرجتما معا، فنفضت أمامه ثقل مظالم المرحوم عن صدرك، ثم ماذا وقع بينكما؟ حتى طرقت باب الحلم، وعريت له عن مائدتنا الدنية لتستمطري عطفه علينا، قولي الى أي مدى بلغت علاقتكما، قبل أن تتخذا قرار الزواج والحكم غيابيا بانضمامي الى بيتكم السعيد؟..!

لأول مرة تحس الأم أن البنت قد تجاوزت معها حدود اللياقة والأدب، فلم تكفها السخرية وسوء الظن، بل تجاوزت الى الطعن في عفتها، لماذا؟هل هي غيرة؟ أبدا، هذا أبعد مما يمكن أن تتصوره في بنت هي عجينة قصعتها، ربما هو فقط عناد مراهقة حتى لا تتزوج أمها بعد موت أبيها كنوع من الوفاء الوهمي لأب لم تكن تحس له أصلا بوجود؟ بل هي من كانت تردد بعد كل خناقة يختلقها ابوها في البيت او الحي:

ـ الموت راحة وستر يا ماما، هو وحده قد يكف عنا نظرات الجيران الذين ضاقوا بوجودنا بينهم ..

هل كانت تحلم أن تواتي أمها صدفة أحسن من عمر وما وعدها به عمر؟ لا أظن !! .."هي أصلا رافضة لمبدأ زواجي مرة ثانية "..خنقتها غصة صدر، فهبت واقفة و قد تلبستها سورة غضب، لا ليست هذه هي السعدية التي ربت وحاولت بكل التضحيات النفسية والجسدية أن تبعدها عن احساسات ابيها، وشراسته، قالت وقد احمرت عيناها وشرعت دموعها تتسربل كوابل من مطر

ـ اعرف أن طرد أبيك لنا قد هدم نفسك بكراهية لكل الرجال، لكن ماكنت أتصور انك تحملين كل هذا الثلوث الموروث من سوء الظن بأمك وبالناس، كنت أتصور اني لم انقش فيك غير طيبتي وثقتي بعفتي وبنفسي وربي، أما وانت كذلك فيلزم أن أحسم الأمر من الآن ..

لم يترك لنا ابوك ما يمسح عنا قهر الزمن غير ديون لا يغيب عنا معا كيف تراكمت عليه، وفيم كان ينفقها، حتى البيت الذي نسكنه وجدناه مرهونا، وموعد افراغه لا يفصلنا عنه غيرثلاثة اشهر.. أنا لم أتوهم في عمر ما يقسم صدرك بحقد على كل الرجال، وانما توسمت فيه يدا امتدت الينا لتمسح عنا معاناة الزمن، ربما هي رحمة من الله ان يبادر الينا بمن ينقد ماء وجهنا ويستر عوراتنا، انا وافقت على الزواج من عمر، وهو من اصر على ان تكوني معي، فخير الله حقيقة في يده وفير، لا ادعاء ولا أوهاما كما كان يلعلع ابوك وسط الحي أن"خيوله داخلة بخير"، كنت أتصورك بنتي بصدق الظن واليقين:، أما وأثرالوراثة فيك منقوش، فلك الاختيارأن تكوني معي، أو الانحياز لخالك، فتضيفين اليه عبئا جديدا الى أعبائه.. لن امنعك، أنت حرة، أما أنا فلن أتخلى عن بصيص من نوراخترق حياتي ولا أملك الا أن استضيء به، وكيفما كان، فهو أوضح بكثير مما عشته مع أبيك ..

رمت الام كلماتها ثم دخلت غرفة نومها، وقد خنقتها غصاتها فصارت لا تتنفس الا بصعوبة، وفي مسامعها كلمات السعدية من ورائها كنفير تحذيري تخترق مسامعها:

"حلي عينيك قبل الزواج, أما بعد الزواج غيرغمضيهوم، راك مجربة.

كانت السعدية لا تتجسد أمامها الاصورة ابيها الذي خرجت من صلبه، صورة قزمية قد اسود لها وجه، وتهرأت له عينان، فصارتا جمرتين كجمرات فرن الحداد، الرغوة من بين شدقيه تتطاير، وهو يصيح مستكبرا، تياها، غير شاعر بسكره وضلاله، ولا يملك قدرة للسيطرة على انفعالاته المفرطة، عار الا من سروال ممزق الى ركبتيه، يدفعها دفعا خارج البيت مع أمها التي أوشكت أن تسقط في حفرة قد امتلأت ماء آسنا، وقد تمزق لباسها وكأنها خارجة من معركة حربية لاتبقي ولا تذر ..مشهد مرعب، كم فتك بصدرها وعقلها وكل ذرة من كيانها، ظل يؤرقها بليل ونهار، حتى بعد أن تدخل أهل الخير بصلح هو في صالحها وصالح أمها خوفا عليهما من مكر الشوارع وأخطارها ؛أية كرامة بقيت لأنثى، ورجل هو أبوها، المؤتمن عليها يرميها خارج البيت ككيس قمامة بلا رحمة؟. ماتت فيه الابوة والرجولة، كلب مسعور قد تجرد من كل إنسانية !! ..أبعد هذا تثق في رجل؟؟ !!كلهم سواء !!..

تزوجت حليمة والد السعدية بعد إلحاح شديد من أبيها الذي أكد لها أن الرجل قد تاب من السكر والمقامرة بالرهان على الخيول، وصار يلازم الصلوات الخمس في المسجد، لا يهتم الا بمتجر الألبسة البالية الذي يديره، وهو الى حد ما ميسور ماديا، والحق يقال أنها عاشت معه، رغم تقلبات مزاجه، وسرعة انفعالاته، أزيد من سنة، استطاع خلالها أن يساعدها على حيازة البيت الذي تسكنه بالشفعة من أخيها بعد موت والدها، كما انهما أنجبا السعدية التي أدخلت بهجة الى حياتهما، لكن سرعان ما انقلب الرجل راسا على عقب بعد أن علم ان احد أصدقائه قد غنم الملايين من الرهان على الخيول، ثم التف عليها بالكذب والحيلة الى ان وقعت له وكالة للتصرف في البيت بحجة الارتهان في شراكة تجارية بينه وبين احد معارفه ..

صار البيت جحيما لا يطاق، أهمل صلواته إهماله لنفسه وأهله، لا ثقة الا بما يغريه به شيطانه، وتلويحات الطمع من خيوله، استهزاء واستخفاف بها وبكل من حوله، كل يوم صار البيت ينقصه شيء من أثاث حتى يحقق لنفسه قنينة خمر وورقة قمار، وقد بلغ الامر حدته يوم امتدت يده لبعض مجوهراتها مما ورثته عن أمها، ثم طردها من البيت ومعها السعدية بعد أن عيرته باللصوصية وقلة الدين وأنه بلا أصل، وكانت السعدية في السنة الثانية إعدادي، قد بلغت الرابعة عشرة من عمرها، مما جعل الام تصر على الطلاق، ولم تعد الا بعد ان تدخل أخوها وبعض وجوه الخير واطفأوا نار غضبها، و أقنعوا السعدية كذلك خوفا عليها من التشرد وذئاب الشوارع بعد ان تم اكتشاف ان البيت الذي ورثته حليمة عن ابيها تم رهنه من أجل المقامرة على الخيول لا من أجل شراكة تجارية كما ادعى .. فرضوا على الزوج مبلغا يوميا يقدمه لها عن طريق أخيها تسد به كفافها وأوكد حاجات ابنتها، فلئن تعيش حياة عرجاء في بيتها وهي مقيمة فيه ريثما يتم إيجاد وسيلة لفكه خير من أن تتحول وبنتها الى فاكهة احتراق قلب مجتمع لا يسيره غير ذئاب الردى ..

سنة كاملة مرت الآن على موته، وهي تعيش كفافها مع السعدية بما يساعدها به أخوها، وما يجود به اهل الخير من العائلة، ومن إرث ابيها من أواني نحاسية قديمة تنازل أخوها عن حقه فيها فباعتها لأصحاب البازارات...

لم يكن لعمرأبناء، فزوجته المريضة كانت عاقرا، أوهكذا توهم، وما ان صادف حليمة في احد المتاجر حتى تذكر بنت الحي ذات الوجه المتورد من حياء، والعيون الجميلة برموش طويلة، والضفيرتين اللتين تهتزان يمينا ويساراوهي تسير بسرعة وكأنها عادة قد تعوَّدتها، كعادتها لباس بنطلون الجينز الأزرق..

كم كان يستهويه أن يتابعها من خلف وضفيرتاها تتقافزان يمينا ويسارا وكأنها تتعمد ذلك، كم حاول أن يثير انتباهها اليه كلما صادفها في الطريق، لكنها لم تكن تلتفت لأحد، وكأنها مأمورة أن تعود من المدرسة أو من مهمة قضتها الى البيت بأمرين:

أن تحرك ضفيرتيها، وان تعود الى البيت بلا تأخير ..

في كل لقاء بينهما كانت حليمة تحدق في عيون عمر، كانت تجد حنانا وشغفا يرتج له صدرها برغبة اليه، تحس كأنها تجالس رجلا هو ما كانت تتمناه في احلامها قبل ان يفرض عليها أبوها بائع الألبسة البالية، كانت كلماته الرومانسية تجعلها تنجذب اليه، وتتمنى لحظة تجد نفسها بين أحضانه، فلباقته ابعدت عنها كل إحساس بالخوف على نفسها وعلى مستقبل السعدية، فكل ما كان يتفوه به نابع عن رغبة جدية وصدق، أنه وجد ضالته، كما هي قد بلغت إحدى أمنياتها، فصار قلبها يمطر توسلا أن يحقق الله رغبتها فيه ..

قالت له مرة: عمر !! .. هل انت مقتنع بأن تكون السعدية معي؟ عمرها سبعة عشرة سنة وهي مقبلة على البكالوريا، شخصيا لا استطيع العيش بدونها، فأرجو أن تضبط قرارك بالتروي، فالأيام أمامنا، وضبطها بإيقاع العقل واجب كراشدين ندرك ما نريد ..

أمسك بيدها، وقال:

ـ حليمة عزيزتي، لم أندم يوما على قرار اتخذته، لأني مسؤول عما اقرر، عُمْرُ زواجك من المرحوم وزواجي من المرحومة يكاد يتقارب، ربما انت قد عشتِ حياة متقلبة بين مد وجزر، لكن ثقي اني عشتها رغم اكتشاف مرض زوجتى من العام الأول لزواجنا، بلا ندم ولا يأس من قدرة الله، لأني كنت قد اخترت زوجتي عن قناعة ورضى ؛ ومذ التقيتك، أيقنت أني وجدت أنثاي بكل الإشارات والكلمات، فقلت ذا سقف من قديم معرفتي جازاني الله به على صبري حتى أحتمي بظله.. لن تندمي ابدا حليمة هذا وعد مني ..

قلبت حليمة الأمر من جميع الوجوه، هي قد تعلقت بعمر، ولن تجد رجلا مناسبا مثله، كثيرا ما صغت اليه وبإمعان وهما معا، فلم يكن الرجل الذي يبالغ او يدعي أو يعد بما لا يستطيعه، كان واقعيا يحكي حياته الماضية بعفوية، ويكفيها وفاء منه وثقة به، أنه اكتشف مرض زوجته من سنته الأولى معها، ولم يتبرم أو يشكو، او يفكرفي تركها.. ربما هي وعمر متناقضان على مستوى الغنى والفقر، لكن ما ترسله عيونه اليها لا يمكن ان يغير معزوفة أعماقه وما يترجمه اللسان..

هي تدرك أن السعدية وهي ترفض ان تعيش معها في بيت زوج جديد، تقيس على سلوكات أبيها، سلوكات تطويها، تعصرها، و تهيمن عليها بقماط من خوف وقلة ثقة، فأبوها لم يكن معها رحيما ابدا، كما لم يكن غيره من رجال الحي الا صورة منه، وهو ما يرعب السعدية وفي نفسها قد حفر عن صديقات لها في الثانوية، كيف يعانين من نزاعات الأب والام اليومية ..ربما قد أغضبها ما تفوهت به السعدية، لكن لها تجد عذرا، فالسعدية مذ وعت الحياة ما ربت عليها الاب بيد رحيمة، ولاتقرب منها بهدية، ولاحاول أن يعرف حتى مستواها الدراسي والى أين بلغت، فهي لاتسمع الا شخيره أو أحلامه المزعجة، ضجيجه و صياحه في البيت او الحي؛ أنى تلفت أو مر، تفر البنت خوفا واحتراسا مما قد يصدرعنه بلا تفكير..

"لن يحترق صدري على السعدية بكدر أو غضب فهي بنتي أولا وأخيرا"

هكذا تفكر حليمة وهي تبحث عن لغة هادئة ناعمة تعيد بها الحديث مع السعدية حديثا يقنعها أن عمر ليس هو غيره، فعمر لم يترب بين خيول الرهان وأوساخ السكارى، وأبخرة أكياس الثياب البالية، عمر رجل متعلم واع، يحمل مبادئ وقيم، كقناعة فكرية وسلوك حضاري لا كشعارات واقوال..

بكل هدوء ورباطة جاش دخلت حليمة على السعدية غرفتها، جلست على جانب سريرها، كلا المرأتين غلبتهما ابتسامة وكأن النقاش السابق لم يؤثر في علاقة الحب التي توثق بينهما، فالسعدية قد تعاند، وقد تتشبث برأي، ولكنها نبض من أمها تتراجع على ذبذبات العقل حين يومض بفكرة تقبل التصديق والتطبيق .. توسلت حليمة من السعدية أن تلبي لها رغبة كآخر محاولة منها قبل أن تحزم السعدية أمرها و قرارها الأخير، قالت حليمة:

ـ عندي طلب، هل ممكن تسمعينه؟

ردت السعدية وقد تبسمت منها العيون قبل الشفاه:

ولماذا لا؟، ألست أمي!!.. وطاعتك واجبة، الا فيما قد تضيع معه كرامتي أو أحس بإهانة من أحد؟ . أنا عجينتك وهذا ما تعلمته منك الا في القليل ..

بكل هدوء وثقة نفس قالت حليمة:

معك حق، وصف دقيق لبنت ربيتها على الكرامة وعزة النفس.. صمتت قليلا ثم تابعت:

عندي اقتراح وأرجو الا تقاطعيني حتى تسمعي رايي..

حركت السعدية رأسها إيجابا فقالت الأم بلا مقدمات:

ما رأيك لو نجلس معا، وعمر ثالثنا في مكان خارج البيت، أو أستدعيه للبيت اذا سمحت، نتحدث، وتتعرفين عليه عن قرب، ثم بعد ذلك اكشفي عن رغبتك وقرارك الأخير، بلا زيت ولا فتيل من أي منا .؟؟..

احست البنت بذكائها أن هذا العمر قد درع أمها، فقيَّدها بشيء فيه مثير، وهي قد عادت تحاول معها بطريقة أخرى حتى تقنع نفسها بماعزمت عليه...

"لماذا لا أجر معها خيوط اللعب؟ على الأقل أتعرف على هذا العمر الذي أراد ان يسرقها مني، أو يغريها بما ليس فيه، كل الرجال سواء، يبدأون في وداعة الخرفان وينتهون بشراسة السباع، لن يضيق بي أفق أو يمتصني ظلام !! .. اسمعه، فقد أكتشف ولو القليل مما خفي ولم تتنبه هي اليه، حقا مظهر الانسان لا يدل على حقيقته، لكن يمكن أن أتلمس ولو بعض الظلال مما غيبه اندفاع أمي لرجل ربما تمنته ذات زمن، او وجدت فيه جابر حالتنا فرمت بنفسها بلا تدقيق" ....

تعي السعدية جيدا وهي بذلك مقتنعة رزانة أمها وتعقلها، لكن ما في أعماقها من أثلام وجراح يغطي عن كل ثلمة مضيئة قد فتحتها حليمة في أعماق السعدية التي تذكر يوم رماهما الاب الى الشارع، غشاوة على العينين، وأنين موجع في الصدر، فبقدر ما لانت الأم، كانت هي تمتنع عن العودة .

ـ "لن أستطيع رفع بصري الى أي رجل سلك مسلك من كان يدعي أبوتي، رماني بين الأقدام ..لا ابدا..اشك أن يكون ذاك أبي ! .. وكيف يكون أبي وقد دفع الباب وراءنا وهو يقهقه بلا رحمة من داخل البيت؟

هكذا واجهت السعدية أمها التي تستعيد الآن كلماتها وقد ضمتها والألم يفتت صدرها:

ــ سامحك الله على سوء ظنك بي، ليس هذا هو المهم الآن، المهم هو أننا لا نملك مأوى غير هذا البيت، وهو أصلا بيتي ورثه من أبي قبل ان يرهنه ابوك وينهار لي أمل في استعادته، وخالك يعيش أزمة مادية، فالحركة السياحية تشكو الجمود وهو لا يتوفر على دخل غير ما يربحه من عطايا السياح، العقل يقول: يجب أن نحتمل ونتحمل في ستر داخل بيت هو لنا، بدل أن نصير عالة على غيرنا ونحن ثقل على صدروهم ..لابد ان نتحمل، بدل أن تحز رقابنا الحبال وتحركنا الثعالب والذئاب، أعدك انك ستجدين عمر انسانا لا بهيمة لا يصحو لها قلب ..

تنهدت السعدية وقالت وقدغلبتها دموعها:

ـ أتمنى ! .ولكنهم حقا بهائم وليس بهيمة واحدة، ولا اظنها ستصحوعن قريب..

تغاضت حليمة عن تعبيرالسعدية اليائس الجارح، حدقت فيها بإمعان وهي تقول:

ـ ماريك؟ هل توافقين؟ طاوعيني، لن تندمي ..

نطقت السعدية وكأنها تستخرج كلماتها من كلابة قهر:

ـ أوافق ..لكن بشرط

بادرتها حليمة: ـ قولي ماهو؟

ـ أن يكون اللقاء خارج البيت، لا أريده أن يدخل بيتنا أو يعرف أحوالنا الداخلية ..دواخلنا تركها المرحوم حقارة، لاتسر راء..

فرحة عارمة غمرت كل ذرة في حليمة، فقبول السعدية باللقاء هو تفكيك أولي لترسبات عالقة في أعماقها عن سلوكات ماضية كم ادمت إحساساتها، ولها اليقين أن السعدية ستجد في عمر حين تجالسه ما يقصي تلك الترسبات أو يخفف من غلوائها على الأقل، فلا تظل البنت حبيسة تمركزها حول ذاتها، لاترى في الحياة الا لحظات الغضب والقهر، وانسلاخ بعض الذكورعن إنسانية الانسان، فحتما يوجد في الحياة نماذج غير أبيها من يحملون قلوبا كبيرة تسع الكون كله ..

ضمت السعدية اليها وقالت وهي تتكئ على اختيارها وتؤيده:

ـ وأنا من رأيك، فأنا لا اريد أن يرى بيتنا هذا ويعرف حاله، أريدك فقط ان تبلغي قناعة اليقين بجدوى اختياري ..

أخبرت حليمة عمربما قررته مع السعدية، ففضل ان يكون اللقاء غداء، فالسعدية في عطلة مدرسية، ولابأس ان يجلسا أطول وقت ممكن حتى يتم تعارف مريح بينهما..

كانت بداية اللقاء بين عمر والسعدية تغطيها غمامة بغير قليل من الفتور من قبل السعدية، ولكن هذا لم يمنع الانبهار الذي هيمن على صدرها من النظرة الاولى الى عمر: طول وأناقة مظهر، .. وأول تصرف اثارها حين جر الكرسي الى الخلف بلباقة رجل متحضر ليفسح لها الجلوس وهو يقول وبسمة تشرق على وجهه:

ـ تفضلي، مرحبا، يوم سعيد أن أتعرف على بنتي ...

قبل أن يقوم بنفس السلوك مع حليمة التي ظلت تتابع المشهد بغبطة وبعض الحذر مما قد تؤوله السعدية، ثم تعمقت النظرة بعد التعارف وقليل من حديث..

ظل عطر عمر يملأ الانسام من حوله، والسعدية تتابعه بنظراتها: وسامة هي غالبا ما اثار أمها التي كانت تحس غبن جمالها في رجل لم يكن يقدره أو يحسه مذ تزوجت اباها، غبنا كانت لا تخفيه حليمة، تعصره في كل حديث مع السعدية:

""كم لفتني أحلام اليقظة برجل يحسسني برجولته، وكم شردت اشباعا لتخيلات تهشمت على صخرة قرار جدك، ثقة بمظاهر كذابة مزيفة لمن صار أباك ..سامحه الله !!..."

ـ "لأمي الحق ان تتشبث بالرجل، مظهريا فهو كامل مكمول، هو ولادة جديدة لها، إحياء لكل إحساس قتله ابي فيها طيلة سبعة عشرة سنة، اين يمكن أن تحلم بمثله، الحق يقال لا مقارنة بينه وبين والدي الذي كان لايغير ملابسه الا بعد شد وجذب مع أمي، مشغول بخيوله عن نفسه وبيته حتى سرقه الموت وهو لا يدري ..هذا على الأقل ما يوحي به ظاهرهذا العمر من طريقة استقبالي، وكيف ترجم احترامه لي، ومن بعض ما تلفظ به من كلمات معي "...

كان المكان رومانسيا رائعا، طاولة في مول على شاطئ البحر حيث صخب الأمواج يرمي برذاذ ينعش النفس، كانت حليمة تعرف ان السعدية لم يسبق لها الجلوس في مكان كهذا، لذلك فقد وجدتها مأخوذة بسحر المكان، منبهرة بما ترى ..وكان عمر يقرأ السعدية بنظرات يسرقها بين حين وآخر، فيستعيد صورة حليمة في صباها وهي تحرك ضفيرتيها، تتسرع العودة الى البيت؛ السعدية نفسها أمامه الآن أنثى شابة اخذت من أمها جمال المحيا والعيون الواسعة، والشعر الغامق المسدول على كتفيها، لكن من عيونها يطل نوع من الأسى والتوجس وعدم الرضى، وكأي مراهقة كانت تتصنع وجودا بحضور ملفت انها صاحبة الراي والقرار..

اقبل النادل يسجل الرغبات، بقدر ما كانت حليمة تبدو عفوية لأنها المرة الثانية التي تزور فيها المكان مع عمر، كانت السعدية مترددة لا تعرف ما تطلب، أحس عمر بترددها من نظرات الاستنجاد المنكسرة الى أمها وكأنها تقول: أغيثيني!!..

انبرى عمر وقال: بنتي السعدية ضيفتي اليوم، واذا أذنت لي سأختار لها بذوقي، التفت الى الام وسال كاستشارة: هل تحب السعدية السمك؟

حركت الام راسها وقالت: "اقلب القدرة على فمها تخرج البنت تشبه لامها"

طلب عمر أنواعا من المقبلات، واشكالا من الأسماك وعلى مختلف الطعوم، حتى ان السعدية لم تخف انبهارها بما كان على المائدة..

"لباقة وكرم "!! ..هكذا قالت في نفسها ..بسرعة داهمها طيف أبيها، جرفه صوت تلاطم الأمواج وهو يثيرها برغبة الى حياة لم تقرأ عنها الا في بعض المجلات، ما عرفتها ولا حلمت بها من قبل، وكثيرا ما مدت يدها من تحت الطاولة تضغط على ركبة أمها غبطة وحبورا وهي تهمس اعتذارا:

"يكاد قلبي يتوقف عن الخفقان، أي سحر هذا؟ أحس كأني طفلة لا تجد تفسيرا لما يحيط بي.. يقينا رجل مثل هذا لا يمكن ان يتصرف الا من طبع أصيل، لا ظرفية ولا استغلال موقف.."

أدركت الام أنها اصابت هدفها باقتراحها اللقاء الثلاثي، وان فرحتها بحبيب العمر طالب يدها قد انتقلت من قلبها الى قلب السعدية، كانت ترفع بصرها الى عمر، تقرأ في عيونه غدها الموعود، فيرفع عمر يده الى فمه ويقبلها كاطمئنان من قلبه يخاطب إحساسها ..

وهم يشربون القهوة كان عمر يرفع بصره الى السعدية يتملاها طويلا حتى انها أحست بالخجل من نظراته، فنظراته نظرات قارئ متفحص، لكن من قلب عيونه يتفجر صفاء لم يسبق أن رأت مثله في عيون غيره، "شتان بين رجل ورجل" عبارة كم رددتها في دواخلها !! .. هل هي التربية، أم الثقافة، أم الأصول، ام كل ذلك حين يجتمع فيخلق انسانا من فصيلة الانسان كما أراده الله أن يكون .. قال لها:

السعدية بنتي، وأقول بنتي بصدق والله على ما أقول شهيد، عمر لن يكون ابدا كأبيك يرحمه الله، فشتان بين اب كبرت بين أحضانه، ترعرعت بين كل جزيئات حياته، لاعبك ودلعك وأحبك بطريقته الخاصة، فهمك وفهمته، وبين اب ستدخلين بيته وانت انثى كاملة الأنوثة، واعية، تدركين كل ماحولك، بعد أن عشت كثيرا بين منافذ الضوء والظلام، ضاقت أو رحبت، وتستطيعين بها ان تعبري جسرالمواقف التي تصادفك فتميزين بين خير وشر، وبين صدق وكذب ..ولو أني لم يسبق لي أن جربت الابوة فأنت أول بنوتي، انت بنتي السعدية، أكرر واشهد الله اني اقولها من عمقي وبإرادتي، وبدءا من غد يمكنك مصاحبة أمك الى بيتك الجديد، فربما فيه ما يحتاج الى تغيير، و لي اليقين انك ستجدين فيه كامل راحتك كطالبة لن اقنع منها الا بشهادة عليا من هنا أو من خارج الوطن حسب رغبتها ..

انتبه عمر الى حليمة التي غلبتها دموعها والى السعدية التي عانقتها وهي تقول: الناس من حولنا ماما بلا بكاء هذه لحظة فرح، بداية عمرك وعمري، ثم مدت يدها لعمر وقالت: لن أكون متسرعة اذا طلبت أن تسمح لي فأناديك بابا؟ أنت بابا.. لا انكر انك ابهرتني، فما كنت أتصورك بهذا النبل والاريحية، لهذا فقد طفر اعجابي بك منذ النظرة الأولى وشعرت بسخافة اوهامي السابقة، وربما لي أعذاري ..حقا "للي ما عرفك خسرك"، وثق انه ليس الشكل ولا الهندام ولا الكرم ما جذبني اليك، وانما مروءتك واتزانك، ولن يقدرك الا من التقى بك وسمعك، أما من يصغى اليك فيصير بعمر مديد، وأكثر من ذلك كله وأبلغ، احساسي العميق باني سأسلم امي لفارس احلامها كما حلمت به من صباها، كما سأسلم حياتي لابي الحقيقي بلا تردد ولاخوف، وبكل الصدق الذي قرأته في عيونك انت يا أبي العزيز...نسلم لك أمرنا بصنوج وطبول ومشاعل نسأل الله أن يشهد الزمن لعمرنا بالطمأنينة وراحة البال ..

شد على يديها، وقفا معا وتعانقا ثم قال: لكن من سيرقص على دقات الطبول؟

قالت حليمة واللحظة تستغرقها بفرحة عميقة:

ـ هي السعدية أحق منا بالرقص،

تنهدت ثم تابعت وهي تركز في عيون السعدية:

ـ هل شفيت عقدة دمالة الوجه؟

أدركت السعدية معنى السؤال وقالت: كل شيء بأوان، المهم أن تظل الشعلة فوارة..

طيلة الطريق من المطعم الى البيت والسعدية تكلم أعماقها، وقد ارتخت على المقعد الخلفي في سيارة عمر:

"ما أنقاك أيها الرجل من بداية اللقاء الى آخره لم تنبس بكلمة سوء عن أبي ..!! "لقد كنت صادقة أيتها الام العظيمة، كدت أفسد عليك اختيارك، الان أدركت لماذا كنت صارمة في قرارك، ورغم عنادي كانت عاطفة الأمومة فيك هي التي تخاطبني وتقنعني..من صباي وأنا أحس بأثرك الكبير في حياتي، عطاء كلما تزايد منك صرت أنا بعقل أكبر وأوعى، حتى في أشد المواقف وأنت تحت سوط الظلم ممن كان أبي، كان رأيك تجربة سلوكية من رؤى تلاشي انانية رجل كان لايتجاوز عقله رقم فرس وقنينة خمر، لا أدري كيف اسقطوك في حباله !!..؟؟. . بعض الآباء نسخ مشوهة مما خلق الله، لاتتقلب من اختيار الى آخر الا كما تتقلب دابة في التراب، لايهمها ما يجنيه المارون مما تثيره من أتربة وغبار، وهي تحك دمامل جلدها، بقدر ما يهمها التخلص من الدمالة التي تثيرها، هكذا بعض الآباء، ما يهمهم هو التخلص من البنت" دمالة الوجه". حقيقة أنا أولى بالرقص على الطبول فالمشاعل أضاءت أعماقي.."

انتبه عمر الى صمت السعدية فقال ويده اليسرى على القيادة: هل نمتِ السعدية؟ ام سرقك سارق؟

قالت وقد ضغطت على كتف أمها من الخلف:

السارق الذي سرقني سائق ماهر، عيناه على الطريق ويسراه على القيادة أما يمناه فتسوق الأحاسيس ...

انتبهت حليمة الى يد عمر تمسك بيدها فضحكت وقالت:

ـ يالطيف لايفوتك أي شيء !!

رن الهاتف ليلا في بيت حليمة، كانت في سريرها بين نوم وصحو، مدت يدها في دهشة الى هاتفها وعيناها تحدقان في ساعة حائطية أمامها:

ـ اللهم اجعله خيرا ماذا يريد عمر في هذه اللحظة؟

ردت عليه وقد تملكها غير قليل من خوف:

ـ خير حبيبي ماذا حدث؟

طمأنها بعد اعتذار منه وقال مازحا: كم مرة قلت لك لاتخافي من عمر..

بادرته: أخاف على عمر حبيبي وليس منه ..

ـ صمت قليلا وقال: هل السعدية نائمة؟

استغربت للسؤال !! ماذا يريد عمر بالسؤال عن السعدية في ساعة مثل هذه؟..

أكثر من احتمال مر بخاطرها !! ..

اهتزالهاتف في يدها اهتزاز ذبذبات صوتها: نعم، لماذا حبيبي؟..

أدرك خوفها، ..فبادرها:

مابك حليمة؟ أحسك مضطربة، غدا عيد ميلاد السعدية، أليس كذلك؟.

ـ نعم لماذا؟ السعدية ماعادت تحتفل بعيد ميلادها .

ـ لكن غدا ستحتفل به..اسمعيني بلا تأويل .

أحست قلقه وهو يسترسل في كلامه:

ـ غدا سامر عليها بالثانوية بعد حصة المساء، سآخذها معي، لن تغيب كثيرا، ما أطلبه ألا تخبريها بأي شيء..لا تقلقي..اياك أن تخبريها.. تصبحين على خير حبيبتي، أحبك وأعتذر ان غسلت النوم عن عيون حبيبتي ..

ليلة أرق رماها عمر على وسادة حليمة !!..حقا فقد غسل النوم عن عيونها. !!.

"لماذا لم يدعني معها؟ وكيف عرف عيد ميلادها؟ولماذا تعمد أن يأخذها من الثانوية مباشرة؟

أعوذ بالله من سوء الظن ..لا هي ولاهو قابلان للشك .هل أخبرها؟ قد يغضب وقد يفقد ثقته بي ... سأترك الأمر للقدر..

لم تنتبه السعدية أن عمر وهو يركز النظر اليها يوم اللقاء الأول، قد استطاع قراءة الأرقام الدقيقة في القلب الذهبي المخروط المعلق بسلسلة في جيدها، ولا أمها انتبهت لذلك، كان القلب والسلسلة هدية من خالها في عيد ميلادها الثاني، والذي لم تحتفل به الا مرتين أو ثلاث في عمرها ؛ كانت تتعلق به و يلازمها لأنه آخر ماتبقى مما سرقه ابوها وباعه من أجل الرهان على الخيول..

كان عيد ميلادها يصادف اول يوم من الدخول المدرسي بعد العطلة، فلم يستطع عمر ان يستدعي حليمة والسعدية الى عشاء للاحتفال بالمناسبة .. أو يشتري هدية بذوقه ويفاجئهما بها في بيتهما، فقد تحرج من ذلك فربما العادات والتقاليد لا تسمح في حي ما أكثر ما يراقب الناس بعضهم بعضا وما يتقولون، ودخوله كغريب قبل الخطبة قد يجر على المرأتين كثيرا من القيل والقال .

كانت مفاجأة السعدية أكبر من مفاجأة أمها للهاتف الليلي وهي ترى سيارة عمر تقابل باب الثانوية مباشرة، نطت اليه بين اندهاش انظار صديقاتها اللواتي لم يصدقن قفزات السعدية الى صاحب السيارة الذي دعاها الى الصعود، وكان استغراب الصديقات أكبر حين لاحظوا كيف تعلقت السعدية به وعانقته في تبادل للقبل على الوجه ..

انطلقت السيارة مخلفة وراءها عاصفة من الاستغراب والدهشة.

قال عمر: عندي لك مفاجأة لكن لن أخبرك بها حتى نكون في المكان المناسب.

استغربت وقالت: وماما أين هي؟

قال وهو يضحك: هرولتُ الى الفتوة والصبا، وتركت العجائز الشمط على أبواب الترقب .. سنعود اليها، لا تخافي .. .

ضحكت وقالت: أهذا رايك فيها؟ ويحك حين أخبرها ..

"الى أين يريد أن يأخذها "؟ فقط هوذا السؤال الذي يحيرها لكن ما عداه فهي واثقة منه مذ لقائهما الأول، وازدادت ثقة بما تحكية حليمة عنه، لكن الى اين يأخذها وما المناسبة؟ لم تتذكر ان اليوم هو يوم عيد ميلادها، فهي لم تحتفل به من سنوات، والايام عندها سواء، لا تتعجل غير يوم تنال فيه شهادتها الثانوية. ربما يريد اعتمادا على ذوقها الذي أطراه يوم لقائهما أن يشتري لحليمة هدية يفاجئها بها.. لا تدري !! .. انتبهت ان السيارة تتجه ناحية المتاجر الكبرى .. سالت وكانها تتدلع:

ألا تريد أن تخبرني الى اين يبحر قرصان عجوز بطفلة بريئة؟

قال ضاحكا:الى حيث أرسلني موطن الأسرارالمعلق في عنقك..

تلمست قلبا صغيرا في عنقها وكمن لسعتها الذكرى .."اليوم عيد ميلادي "!!..

التفتت اليه وقالت: كيف عرفت؟

قال وهو يضع اصبعين على عينيه: عيوني من عيون زرقاء اليمامة .. عيد ميلاد سعيد بنتي عزيزتي، من الآن وكل عام آت وانت أحسن وأجمل ..

كان ينزل في منحدرمدخل مرأب المول فلم يستطع الالتفات اليهاالا بعد أن أوقف سيارته، خرج ثم ضمها اليه وقال:

سندخل لاقرب متجر نسائي، تختارين بلا تقتير كل حاجة اعجبتك وتاقت لها نفسك، فقط لا تتأخري لان حليمة تذرع البيت قلقا عليك، لا تنسي أن تتذكريها بشيء من ذوقك . .

كانت السعدية واجمة، لاتدري ما تقول، كل ما حكته حليمة عن الرجل تراه بأم عينيها واضحا جليا، رجل يعرف كيف يأسر أنثى بلباقته وكرمه !! .. أخبرتها أمها ذات مرة انه يتضايق متى قدم لغيره هدية وتم رفضها، فشعاره: الهدية لا ترد .. ستصمت لكن كيف تبرر موقفها مع أمها؛كان عليه أن يخبرها من قبل حتى تستأذن، كادت أن تسأله هل فعل؟ لكن ليس من الذوق فسؤال مثل هذا قد يجر قلقه وعدم ثقتها في نفسها ...

انتهت من اختياراتها، فدعته ليرى ما اقتنت قال:

ـ أثق في اختياراتك،، فمن تصور المعاني وتترجمها لايمكن أن تخطئ في جمال ماترتدي، ومن يوم لقائنا الأول أدركت تلك الاناقة طريق القلب، فهل وجدت السعدية صعوبة في دخول قلبي؟

ضحكت وقالت:وكيف يستعصي علي قلبك ولسانك ذوق قبل قلبك؟.. وكل سلوك منك هو نبع ابوة صادقة، أنا لم اتعجل نداءك بابا عبثا ..

شدها اليه وقال: لكن دعيني أرى ماذا اخترت لحليمة اذا سمحت، تفحص الاختيارات فأعجب بها ووجدها مما يناسب حليمة ؛قال للسعدية ضاحكا:

ـ هات خدك .. قبلها ثم قصدا السيارة ..

لم تنتقل حليمة والسعدية الى البيت الجديد الا بعد ثلاثة أشهرمن التغييرات والتبديلات التي طلب عمر من حليمة ان تقوم بها في البيت حسب ذوقها، بعد أن استحسن ميلها الى الألوان الفاتحة والخشب الدافئ المبهج، وهو عكس ما يوجد في البيت، وما كانت تفضله المرحومة زوجته، وللحقيقة فهو نفسه كان يسعى من وراء تغيير بعض الأثاث أن تخلق حليمة داخل البيت بذوقها وشخصيتها المرحة ما ينعكس علي حياته الجديدة، فالأمل الذي يجتاح نفسها هو نوع من الراحة النفسية التي قد تغير الجو الحزين الذي كان يفرضه مرض المرحومة زوجته ..

خلال هذه المدة كان عمر قد حرر بيت حليمة من الرهن، وتسلم وثائق رفع اليد، وكانت السعدية قد أنهت امتحاناتها بتفوق في البكالوريا، وتستعد لاختبارات الانتقاء التي تنظمها المدارس والمعاهد العليا ..لم يكن لها إحساس بخوف من ذلك فهي متمكنة من نفسها وقدراتها، وقد اقترح عليها عمر أحد المعاهد الفرنسية لكنها كانت مترددة، فهي مرتبطة بأمها ارتباطها بشريان هذا الوطن، الذي تؤمن بصحوته يوما، فقط تلزمه هزة تمكن شبابه من اظهار قدراتهم العالية وابداعاتهم الخلاقة، هزة قد تكون ثورة بيضاء، او ربيعا أخضر، أو جائحة تعيد صياغة الحياة بتصور جديد، ومفاهيم غير ما هو سائد، وتفتح العيون على النقائص ..

جلس عمرالى حليمة ذات مساء وأخبرها بتحرير بيتها من الرهن، ملأت السعادة قلبها، وكأن عمر قد حررها من أسفها وأعاد لها الصبا المفتقد على بيت رغم صغره ووقوعه في حي شعبي الا انه كان مخزن ذكرياتها الطفولية، فقد كان كجرس ينبهها كل حين بقلق يخض صدرها، كيف وثقت بزوجها السابق وسلمته توكيلا برهنه؟

وجدت حليمة أن عمر على لسانه شيء يريد أن يخبرها به ولكنه يتحرج، وضعت يده بين يديها وقالت:

كم أعشق هذا الوجه وهو ضاحك !! ..لكن حين يداهمه عبوس تغيب فرحتي، فما الذي يقلق "الزين ديالي"؟ هل ظهر من أهلك من يمنعك عني؟ لا اريد أن يدق قلبك باي شيء يعكر مزاجك، أياك أن تقدم على أي فعل قد يكون لك فيه حرج أو..

بسرعة وقبل أن تنهي كلامها سل يده ووضعها على فمها ثم قال:

حليمة ياحبيبتي!!..لماذا تصرين على ان تجعلي من حبنا معارك، معركة مع السعدية وربحناها، وشبه معركة الهاتف ليلة عيد ميلاد السعدية وتجاوزناها، وهذه معركة جديدة تدقين طبولها الآن !!.. سافرت بعيدا ياحبيبتي !! .. الامر أبسط مما تتصورين، ولكن خفت أن تؤولي مسعاي فترددت في قول ما أريد.. فلازال اللجام لم يستقم بعدُ في يدي ..حليمة ياحبيبتي، انت صرت في حياتي خطوتي المتجددة، "ومستحيل ان تحتويك الظنون " وأنا بك قد لملمت كل الأمنيات، ولن يستطيع أي كان أن يحولني عنك أو عن بُنوَّتي للسعدية، هذا حديث لا اريد ان تنبسي به حتى مع نفسك ..

أدركت السعدية أن عمر يسجل كل ذبذباتها ولا تفوته نبضة مما يخالجها سيان كانت معه أو غائبة عنه، ارتمت عليه وقالت:

مهرتك لك طيعة ياحبيبي، وانت نفسي يا عمر، صدر احتضنني أمنا، فيك أمي وأبي بل أنت أحن واشفق، فقط أنا لا افكرالا بجهر معك، أعرف حساسيتك لكن اعذرني .. بربك قل فيما تفكر؟

ضحك وقال: اريد أن اشتري بيتك منك ..

شدته اليها بقوة وقالت:فقط هو لك هبة ياحبيبي، أهذا يحتاج لكل هذا الاحتراس منك؟ انت بمالك قد فككت رهنه، فانت أولى به من غيرك..

ـ لا، لا اريده هبة، أريده بمقابل، لكن اسمعيني جيدا ولا تقاطعيني او تعارضيني ..

ضحكت وقالت: ماعهدتك سلطويا، أهذا عمر !! .. "الفقيه اللي كنتسناو براكتو داخل للجامع ببلغتو."؟.

قال وقد شد شفاهها بطرفي اصبعيه:

ـ مايعجبني فيك هو هذه الأمثلة كم ارتاح لها..ترك شفتيها، لثم أصبعيه ثم تابع: ـ الامر لا يتعلق بسلطة ولا بهيمنة، الامر سر بيني وبين نفسي، وانت تصيرين المؤتمنة عليه، ولا اريد ان تعارضيه او تسألي لماذا؟ أكره حليمة أن يستمر أحد في استغفالي بعد اليوم، أو يستغل طيبتي..

قالت وكانها قد تعجلت ما سيقول وقد اثارتها كلماته:

كيف لا أسالك عمر؟، ومن يجرؤعلى استغفالك أواستغلال طيبتك؟ وانت من وحدت اضدادنا، فانا معك لا أملك الا الشكر والطاعة والامتنان، أنت كل وجودي، فتصرف بلا استشارتي ولا رأي مني..

قال: لا اتحدث عنك ولا عن السعدية، ولكن عن غيركما وعن مستقبل ليس موضوعه الآن، سأشتري منك البيت مقايضة ببيتي الذي سأكتبه لك مناصفة مع السعدية وسأشهد أني تسملت منك إضافة نقدية حتى يكون البيع بلا تأويلات ولا شكوك ..

أرادت أن تتكلم فقال: نهينا الامر حليمة فقط هل انت موافقة؟

غلبتها دمعة، قالت: أوافق على ماذا؟ انت حكمت الا أتكلم وانا طوع يديك حبيبي، "ماذا عساه يقول ميت أمام غسالو"؟ أنا ملكك فأحرى قفص من ستين مترا مربعة..

قبل ان تتركه الى الحمام قال لها: كل اثاث فائض من بيتنا سأرسل من يحمله الى البيت الثاني ..ومن اليوم سيصير البيت مخزنا لي ..

طيلة ليلها لم تنم، تحول سريرها الى شوك قتاد، أو يعاسيب تلسع جسمها !!..

ماذا يدور في عقل عمر؟ أن يقايض بيتي ببيته، ويتحمل إضافة يدعي انه تسلمها ذ ويكتبه مناصفة بيني وبين السعدية، ويؤدي فوق هذا ثمن التسجيل والتحفيظ ؛ فلابد هناك سر .. ومن يستغبيه ويستغفله؟.. ومن غيرها وغير السعدية عنده؟ هي سبق أن علمت منه وبتلميح بسيط ان علاقته متوثرة ببعض أهله، لكن الحديث كان عابرا اجمله في كلمات:

"كيخلف الله على الدومة ولا يخلف على من حشها "..لو كانت إساءة لنسيتها، ولكنها شمتة وتحقير ..

من طبيعة عمر ألا يتكلم عن أهله، ولا يذكرهم الا عابرا، والقليل هو ما التقطته حليمة منه، وحيث انها تحترم خصوصيته فلم تحاول ان تسأل او تستقصيه عن صباه، وسر بعض العبارات التي تنفلت منه عن أهله..

ليس لعمر الا اخ وحيد من أمه، التي تزوجت رجلا بعد موت ابيه وأنجبت معه ابنا وعمر لا يتعدى السنة من عمره، وقد كان عمر يحتل الرتبة الثانية عند زوج أمه،، وكم عانى عمر من تسلط أخيه المحتمي بأبيه الذي كان يدلله، ولم يرتح منه عمر الا بعد أن فشل في الحصول على الشهادة الابتدائية ثلاث مرات فارسله أبوه الى السنغال ليشتغل عند عم عمر بتدخل من ام عمر التي ارادت ان تتخلص من مشاكله.

استقر أخو عمر في السنغال، وكان قلما يدخل الى المغرب، فبعد أن تزوج فرنسية صار خطه الرئيسي داكار باريس، لكن رغم ما قد يتربى في الصدور ظلت العلاقة بين عمر وأخيه علاقة موصولة، حرص عمر بطيبته الموروثة عن أمه، وقلبه الكبير أن يمنعها من الانفصام بالرغم من الكبر وغير قليل من حسد كان لا يخفيه أخو عمر بل كثيرا ما جاهر به سرا أو علنا ...

كان عمر يفضل ان يكون زفافه عائليا، لكنه كان يخشى ردة فعل من قبل حليمة التي حكت له يوما ان عرسها الأول كان "كعشاء المعزيين في بيت جنازة "، أولا لضيق ذات يد أبيها الذي لم يكن غير صاحب دكان للتموين صغير، وثانيا لادعاءات الزوج انه يكره الفيش "وللي غادي ياكله الطبيب يأكله المريض " مما جعلها تقبل على مضض، خصوصا وابوها كان يمتنع عن طلب قرض بريبة من أجل وليمة لايتعدى زمنها لحظة من عمر؛حين فاتحها عمر في الموضوع قالت:

ـ عمر ياحبيبي ماعدنا صغارا نفكر بعقل المباهاة والفيش على الناس، عرسنا هو سعادة ليلتنا نحن، وما غيرنا الا حضور لمراقبة اثر التوافق والفرح والرضا في عيوننا، عمر نحن لا نريد شهودا على رضانا عن بعضنا كل واحد منا حجة على نفسه .. ضحكت وقالت:طيب اريد حفلة كبيرة على شرط ان أكون والسعدية قلب ميدة واحدة ..

ضمها اليه وقال:ومن هذا الفيل الذي يستطيع رفعكما معا؟

قالت: حب عمر لنا..

اقتصرت حفلة زفاف عمر وحليمة على عشاء صغير كلف به احد الممونين لا يتعدى مائدة واحدة، حضرته السعدية وخالها مع زوجته وأخ عمر وعمه، وزوجتاهما، وقد أتوا من السنغال .. كانت الدردشة على المائدة فيها نوع من "حك الدبرة" على حليمة التي تسلحت برزانة اثارت الانتباه، كأنها أنثى من اسرة عريقة ذات ماضي عريق، كما أن إلمام أخيها بأنساب المدينة لخبرته السياحية قد جعلته يتعرف على زوجة عم عمر التي بدأت بثرثرة وفيش وانتهت بصمت طويل، أما السعدية فقد اثارت الاعجاب بلباقة حديثها وثقافتها، فلم يخرج المدعوون الا وقد ايقنوا أن عمر محظوظ و لم يخطئ الطريق ولا الاختيار ؛ عمر نفسه انبهر من سلوك زوجته وربيبته، وقد عانق السعدية بالشكر الذي ابهرته بإجابة مقنعة وقوية: أبي العزيز !! ..أخبرتني أمي أن جدي لأمي يرحمه الله كان يقول: "اذا لم نعش في الخير فقد خمسنا على أهله "، فأنا وامي نعرف طبائع أهلك، وقد اتفقنا أن نكون في موقف يشرفك كرجل أكرمنا بخيره وحبه ..جدي لأمي لم يكن غنيا كما يحكي عنه خالي، لكن كان رجل ذوق، عرافة بالأنساب والأصول..

ليلة العروسين لم تكن ليلة فرح وكفى، بل كانت متعة عمر، ما تذوقت حليمة قبلها نشوة مثل ما تذوقته مع عمر، وما احس عمر بنفسه الا محلقا في السموات العلى من قبل أنثى أدركت حرمانه وما عاناه من مرض زوجته بالصبر وقوة الاحتمال،، فقدمت له اطباقا من السعادة والوانا من فنون الحب ..

كانت حليمة كمن تشهد ميلادها مع رجل يقطر رجولة وطيبة، اتى ليفك عقدها القديمة والتي كادت ان تترسخ في اعماقها مذ ربط ابوها مصيرها ببائع الألبسة ..

عاشت حليمة ليلة غبطة وانتشاء بين أحضان رجل أحبته، وبه صفعت ماض كم ارقها ..ثم نامت وهي تدعو لهذا الجوهر أن يحميه الله من شر ماخلق ...

بدأت حليمة مع الأيام يظهرعليها اثر من السمنة التي اضافت اليها اشراقة وجمالا، فهي ما عادت تقوم باي عمل متعب بعد ان وفر لها عمر خادمة ووسائل الراحة مكتفية بمطالعة مجلات الموضة والفن أو الخروج للتجوال والتبضع..

أبانت السعدية في المدارس التحضيرية الخاصة بالاقتصاد والتي دخلتها بايعازمن عمرعن قدرات هائلة وذكاء اثار انتباه أساتذتها، وقد استطاعت من الدورة الأولى أن تحصل على تنويه من الإدارة لما تتميز به من قدرات عملية وابتكارية..

استطاع عمر أن يتغلغل في السوق التجارية، وقد اكتسب ثقة كل من يتعاملون معه دون ان تكون له نية تنافسية على زعامة أو تقلد مناصب في الغرف التجارية أو المجالس النيابية، فسعيه الدائب لم يكن لجني الأرباح، وانما لتشغيل أكثر من عاطل بشواهد عليا، يجوب بها الوطن بحثا عن عمل فلا يجده، مما يجعله ضحية مافيات التهجير، أو وسيلة سهلة للاقتناص من قبل تجار الدين الذين جنوا على الكثير من الشباب بغيبيات لم يأمر بها كتاب ولاسنة..

هكذا بادر الى شراكات مع غيره لفتح معامل تحرك دواليب الاقتصاد وتشغل الشباب..

بعد خمس سنوات تخرجت السعدية بماجيستر في التجارة الخارجية بميزة جيد جدا، وبأكثر من شهادة تنويه عن التداريب العملية التي مرت بها والبحوث التي أنجزتها وهي طالبة في المعهد، كما استطاعت أن تحصل على منحة لسنتين في بريطانية للحصول على شهادة متقدمة في التجارة والعولمة بالمعهد الملكي للتعليم العالي العالمي، وما أن عادت حتى عرض عليها عمر ان تتكلف بأعماله وتسيير تجارته، فالشهادة العالمية التي حازتها دليل خبرة تمكنها من توليد أفكار لتوسيع آفاق تجارته . بدأت تفتح ملحقات خارج المدينة مما جعل عمر يسلم لها كل السلطات مكتفيا بالسفريات مع حليمة، او استقبال ضيوف أجانب فتحت لهم السعدية بوابة لقاءات دعائية لمنتوجات شركات عمر الكثيرة من عطور وتغذية وتعليب و عصائر، وقد استطاعت أن تعقد شراكة مع أحد أبناء صاحب شركة عالمية من تركيا يهتم بصناعة الألبسة الداخلية للنساء والرجال،، ثم تطورت العلاقة بينهما الى ان هاما ببعضهما فتزوجا..

كانت حليمة يوم عرس السعدية حمامة تطير بجناحين، بنتها وعمر، عاشت مالم تكن تحلم به أبدا، لا تسعها فرحة، تتحرك بين دموعها وغبطتها، ورغم أن الطقوس لا تختلف كثيرا بين الشعبين سواء يوم الخطبة أو ليلة الحنة او نهار الزفاف، فقد كانت تدقق في كل شيء، وتتابع كل شيء، وكأنها تجمع في السعدية بنتها كل ما راته في أفلام النجوم فحلمت به، وضاع من عمرها، وقد كانت ترى الحاج عمر وهو يتابع بالمراقبة والحرص الممون بأن يزاوج بدقة وترتيب بين فقرات الاحتفال:تركي/مغربي، وقلبها يطير معه حتى انها تمتمت لنفسها: آه ياحبيبي ياعمر لو كنت عابدة غير الله لكنت انت معبودي .!

خمسة عشرة سنة من زواج مرت كطيف جميل أو حلم ممتع لذيذ، حجت حليمة خلالها مع عمر مرتين، واعتمرا خلال رمضان خمس مرات، وسافرا فيها الى أكثر من مدينة داخل الوطن، وزارت أكثر من دولة أوربية واسيوية، ترافقهما السعدية قبل زواجها ..

كان ما يؤرق حليمة أنها لم ترزق بذرية مع عمر، كانت تشعر برغبته وألمه وتدرك أن عمر يعرف عقمه، ويحاول أن يعوضها عن ذلك بحبه الجارف لها وللسعدية، وبالعمل على إرضائها بكل ما يحقق لها وللسعدية سعادة الوجود والحياة، كان عمر يحس ألمها قدر إكباره أنها لم تحاول أن تثير الموضوع معه، فقد كان يمني النفس بطفل يخلد ذكره فيكذب تحليلات سابقة ابان زواجه الأول، لكن هو أمر الله كيف شاء فعل ...

سألها ذات صباح وهما لازالا في السرير، وقد أخذ يدها يقبلها كعادته:

هل انت قلقة على عدم الخلفة؟

وضعت يده على شفاهها، لثمتها ثم قالت:

ـ أنا لم أكن انتظر منك شاهد رجولة او قدرة، فانت قد حركت في نفسي كل ما ضاع من عمري، أنت لي كفاية ياحبيبي، فيك زوجي وحبيبي وابي وأمي واطفالي، بل عوضت بك حتى السعدية التي رحلت مع زوجها عني، انا لا اريد أن يملا سمعي وبصري غيرك، لا اريد غمامة ولا غلالة تبعدني عن رؤيتك والتفكير فيك، انت حب يا عمر نبضة من عطاء الله لايدرك حقه الا من عاش كما عشت قبل ان أعرفك..

ضمها اليه وقال: وهل وفيت لك بما وعدت وما تستحقينه؟

انغرست بين أحضانه وقالت: حرام عليك، انت وفيت بما لم يستطعه إنسان، ضمني حبيبي، ففي صدرك مدفني ..

ضمها اليه وقال:والله لن تعيشي الا ملكة في خير انت صاحبته..

قبلته وقالت: أميرة ملك هو أنت، كل شيء منك واليك...

صحت حليمة ذات صباح فلم تجد عمر بجانبها، ظنت أنه في الحمام لكن منامته معلقة على المشجب تعلن خروجه؛ بحثت في الحديقة، لا اثر، أخذت الهاتف وادارت الرقم، هاتفه مشغول أو خارج التغطية، بدأ قلبها يصعد الى حلقها وهي صاعدة نازلة تدور بين أركان البيت، أين ذهب؟ ليس من عادته ان يخرج دون ان يخبرها بوجهته ويتناول فطوره ..مرت ساعاتان، ثلاثة، لا خبر .لم يبق امامها غير السعدية، اتصلت بها، ردت كاتبتها ان السعدية سافرت أمس على استعجال هي وزوجها الى باريس، تذكرت حليمة أن عمر من يومين وهو يخفي عليها شيئا كان يشغله، فتوهمت انه من الأرق الذي يصيبه.. بلغ بها القلق أقصاه، وقبل أن تغيب عن صدرها طاقة النور التي كانت تتسلح بها رن الهاتف، وكلمتها ممرضة: "السيد عمر قد خرج من البلوك بعد عملية جراحية، وباستطاعتك زيارته " ثم اعطتها عنوان العيادة..

ركبت سيارتها وأسرعت اليه ..

كالمجنونة دخلت عليه الغرفة في العيادة، ارتمت عليه وهي تشهق من بكاء:

ـ حرام عليك، لماذا لم تخبرني؟ مابك؟ لماذا هذه العملية؟

كان ينظر اليها من بين ابتسامة باهتة ودمعة نازلة على جانب خده الأيمن؛ ادركت انه تعب، فصمتت وشرعت تقبل يده ظهرا وبطنا . .

اقبل الطبيب الذي شرح لها انه لو تأخر دقيقة واحدة لانفجرت مرارته، وقد تم استئصالها بصعوبة بالغة ..

بعد أسبوع سمح له بمغادرة العيادة، قالت له حليمة ضاحكة وهو يودع الطبيب ويشكره:

مع السلامة الحاج عمر "جيتي بوحدك ارجع بوحدك .".

تبسم ومد يده اليها وهو يقول للطبيب:

ـ يشهد الله أني احبها، وأكره ان ابلغها ما يؤلمها، قبل العملية بيومين وانا اعاني في صمت وما تجرأت على أخبارها ..

قالت: أحسست بك، لكن توهمت تقلبك في السرير هو عادة الارق التي تصيبك..

عادت السعدية من باريس بعد ان بلغها الخبر، أتـت وكما وصفت نفسها:

ـ لما اخبرتني الكاتبة صرت "بحال شي هبلة مشيرة بالغراف"

أبحث أنا وأوغلو على وسيلة نقل تحملنا اليكم بأي ثمن ..

أمَّن زوج السعدية على قولها وقال: مارأيت في حياتي انثى تحب اباها حب السعدية للسيد عمر، هنيئا لك يا رجل !! ..أنا مجرد ظل أمامك !!

قال عمر وهو يمزح مع صهره: يجب ان تكون الحاج عمر، ويرضى عنك الله ببنت مثل السعدية، وأم مثل حليمة، عندها ستدرك معنى ان تحبك أنثى مثل السعدية، تململ في مكانه ثم تابع:

انت حكمت من خلال واقعة بسيطة في لحظة أو لحظات، وحكمك هو تحليلك الخاص، وربما هو اللاوعي الذي لم يجعلك تميز بين حب السعدية لي وهيامها بك، فالسعدية تربية أم، لها وعي من طين اصيل، وجذر عميق، من تربة حضارية تجانس فيها الدين بالتقاليد، فصيَّرها حضنا مفتوحا لكل من يصدقها ويخلص لها .. واذا أحبتك السعدية فقد احبك الله..

تماثل الحاج عمر للشفاء وبدا يخرج للحديقة يتمشى ذهابا وإيابا،

و يقرأ التقارير التي تقدمها له السعدية عن سير شركاته وأرباحها، يزور مصانعه ويحيي الرحم مع عماله .

ما أكبر ما حققته السعدية !!..نملة شغالة، وعقل جبار، وفاء وصدق..

اقترح عمر على حليمة قضاء أيام في تركيا، كانت غايته ان يغير الجو،

 ويتأكد من اثر السعدية في نفوس أهل زوجها .. لقد اسعده ما حققته خارج الوطن، فعبقرية المغربي حاضرة أنى وضع القدم، كما راقه اثرها الطيب عند حميها ..

كانت حليمة والحاج عمرموقع ترحاب وتقدير كبير من عائلة زوج السعدية، لم تترك أم اوغلو وأبوه مكانا سياحيا في إسطنبول وبورصة وأنقرة ومرمرة لم يزوروه ..حتى ان الحاج عمر كان يخجل من مودة صهرة وفائض كرمه ..

بعد شهر من التجوال والراحة عاد عمر وحليمة بعد الحاح من السعدية التي هدها الوحم وصارت في أمس الحاجة لخبرة أمها.

امتنع الحاج عمر أن يدخل بيته قبل أن يمرعلى بيت السعدية، هاتفها وهو لازال في المطار أن تعد عشاء معتبرا يليق بفخامة الجدة والجد القادمين ليباركا وحم ابنتهما ..

في الطريق دخل عند أحد المشهورين بصياغة الذهب واشترى خلخالا انبهرت له حليمة وقالت: هذا كثير ياعمر، آخر ذلك الى الوضع ..

نظر اليها نظرة لا تخفي صرامة وقال: أول حمل لابنتي ولا ادري ان كان حفيدي سيجدني حيا ام ميتا؟

اهتزت حليمة بقوة وقالت: حرام عليك ماذا أصابك؟ بعد عمر طويل يا حبيبي..حفيدك يتربى في عزك ...

لم يكن استقبال الحاج عمر في بيت السعدية عاديا. فالممون الذي تكلف بالعشاء أكدت عليه السعدية ان يجلب فرقة عيساوية تكون في استقبال الجدين بأمداح وأهازيج..

ما ان وصل الجدان الى الحي حتى شرعت جلاجل عيساوة تشق سكون الحي السكني الهادئ وصارت باب العمارة التي تسكنها السعدية كركح استضاء بشموع المولى ادريس الضخمة وتضمخ بأدخنة العود والجاوي وسرغينة تتصاعد من مباخر نحاسية كبيرة، واختلطت الحناجر بالزغاريد والجاه العالي ومدح الرسول تحت وابل ماء الزهر والورد من مرشات فضية لامعة .. ..

اول المستقبلين كان زوج السعدية وقد بادره الحاج عمر:

-"شكون المختون"؟

لم يفهم زوج السعدية قصده وقد تفاجأ بضحك كل من حوله وزاد استغرابا حين قالت السعدية:

"زوجي أوغلو، واش جئتوا تكملولو الختانة"

عندها تنبه اوغلو فشد على حزامه وتراجع الى الخلف ضاحكا وكأن الامر حقيقة وقال:

لا والله مختون من اليوم السابع من ازديادي..

كانت حليمة تجذب على نغمات غيطة عيساوة وكأنها مسحورة بها مما دفع السعدية الى ان تلازمها خوفا عليها من السقوط على الارض فهي تعرف عشق أمها لعيساوة وتفاعلها مع أنغامهم وأذكارهم..

دخل الحاج عمر وتبوأ وسط الصالون ويده اليمنى لا تترك يد السعدية، واليسرى تشد على يد أوغلو ؛ ما ان استقامت السعدية بجانبه حتى قال لها:

ـ هات رجلك اليمنى

تفاجأت لماذا؟فكرر العبارة وقد ادركت الغرض..

تذكرت حلما كانت قد رأته قبل زواجها، الحاج عمر يعقد لها خلخالا بقدمها اليمنى، حين حكت الحلم على مائدة الافطار وعدها لئن تزوجت وحملت ليكون هو من يشد اجمل خلخال في رجلها وها هو يفي بوعده؛مسك قدمها ورفعها الى شفتيه مما جعلها تصيح قائلة:

"حرام عليك بابا باغي تفلسني"

كان زوج السعدية لا يفهم ما يدور حوله حين شرع الحاج عمر يعقد على قدم السعدية خلخالا بخيوط من ذهب وترصيعات لؤلؤية أبهرت العيون، وقد تنبه الى الدمعات وهي تتحجر في عيون حليمة فقال لها:

ـ "انا مشغول مع بنتي، وانت اشرحي لنسيبك قبل ما يخرج له النفير احول"

ضحكت حليمة وقالت:" رآك تدير ما بغيتي"

عانقت السعدية الحاج عمر وطبعت على خده ثم يده قبلة جعلت الدمعاتالمتحجرة في مآقي حليمة تتسربل على خديها، كانت .تقارن بين عهدين ورجلين: عهد بكت فيه أب السعدية يوم طردهما من المنزل وعهد يقبل زوج أمها قدمها فرحة بحمل لم يحظ به هو نفسه..

في لحظات الفرح الغامر قد تداهمنا ذكريات الرعب أو المذلة فلا نملك غير الحمد والتسليم ..

كان الحاج عمر يحس بألم حليمة ويدرك ان مايقوم به قد حرك غيرتها، مد يده اليها ضمها الى صدره وقال:

هذا مافاتنا ياحبيبتي فصار ابناؤنا احق به واجذر ..

بعد ايام من عودتهما من تركيا عاود عمر التعب ففرضت عليه حليمة راحة اجبارية وقد ظل الطبيب يزوره في البيت مرتين كل أسبوع ..

نهضت حليمة ذات ليلة على انفاس عمر القوية، تحت الضوء ظهر وجهه ممتقعا بصفرة أرهبتها، كما تنبهت الى بطنه المنتفخ جدا، بسرعة استدعت الطبيب، بعد فحصه طلب نقله الى العيادة فرفضت حليمة وقالت:

ـ إذا كان نقله من أجل عملية لاباس، لكن ان كان غير ذلك ارجو ان يتم كل شيء في بيته ..وافق الطبيب ووعد بارسال ممرضة تلازمه ..كانت حالته تتفاقم يوما بعد يوم، وبعد فحوص كثيرة صارح الطبيب حليمة الا أمل في الشفاء لان كبده قد صارت مجرد خيوط واهية .. فهو مصاب بتليف الكبد في مراحل متطورة جدا ..

صارت حليمة في البيت أنثى بلاعقل، لم يستطع اخماد ما يشتعل في اعماقها من ألم وخوف طبيب بمهدئات، ولا السعدية وزوجها بملازمتها، صارت تحس انها نهايتها قبل نهاية عمر وتلك أمنيتها، فهي لن تتخيل لحظة تعيشها بدون عمر ..

نهضت بعد غفوة سرقتها بعد أن هدها الصوم عن كل شيء، على صوت الممرضة وهي تقول لها:

ـ البركة في راسك، الدوام لله !! ..

صاحت حليمة صيحة ألم مزقت السكون من حولها، "كيف تنطفئ شموعك ياعمر؟؟ !! .. من لي بعدك ياعمر؟ !!..

غابت بعد لطمة قوية على وجهها، فشرعت الممرضة تسعفها الى أن استعادت وعيها، اتكأت على أريكة، تنفست بقوة، مسحت وجهها بماء بارد عساها تزيح غمامة قاتمة قد لفت كل ما حولها، تقف ثم تجلس، تهتز ثم تهدأ، عيناها زائغتان، وراس غير مستقر كأنه يتحرك من رعاش ... بعد جهد موصول من قبل الممرضة استطاعت أن تجلس وتمسك برأسها والصور تترى متشاكلة متضاربة أمام عيونها:البكاء بعد الميت خسارة، يجب ان تكون متيقظة، طلبت من الخادمة ان تسد أبواب الغرف وتحتفظ بالمفاتيح عندها، ثم نعت الخبر للسعدية التي أتت بوجه ملطوم ظلت لطماته وسما ازرق على خديها، ثم بعد هدوئها تكفلت بإعلان وفاة عمر الى أهله عبر الهاتف، مبلغة أياهم أن الدفن سيتأخرالى الغد حتى يتمكن أهل عمر حضور مراسيم الجنازة والدفن؛ استدعت ممولا ليقوم باللازم وكل ما يجب اعداده في مثل هذه الحالات ..

كانت حليمة والسعدية لاتنبسان بكلمة، دموعهما وحدها تتكلم متسربلة ولسانهما صامت تستمعان الى ترتيلات القراء بقلبين يتفتتان كمدا وحسرة..

كانت أم أوغلو التي حضرت الجنازة تلازم السعدية خوفا عليها وعلى حملها، تمنعها عن أية حركة ..

حضر الكثيرون ممن عرفت حليمة ومن لم تعرف، و تكلفت السعدية باستقبال وتوديع زوار العزاء من أصحاب الشركات والعمال في حين أن حليمة كانت ترد على التعازي بحركة من راسها، أما اللسان فقد انخرس، ولا ترى أمامها غير ظلال اشباح تدخل وتخرج ..

بعد الدفن عاد عم عمروأخوه من المقبرة، وقبل أن يودعا حليمة، اخبراها أنهما سيعودان بعد أيام من أجل تقسيم الإرث .. أرتعش جسمها وقد أحست كأن عمر يهمس في مسامعها بما قاله ذات يوم: "لا اتحدث عنك ولا عن السعدية، ولكن عن مستقبل ليس موضوعه الآن .."

ـ لقد أدركتُ ياعمر، ادركت الآن ماكنت تحتفظ به لنفسك، وما كنت توثقه بعيدا عني .. تذكرت مرة قال لها قبل أن يفقد وعيه وقدرته على النطق "يوم موتي لا تبدي رايا أو تشرحي لطالب معلومة، كل شيء عند المحامي":

لم ترفع اليهما وجها ولم تزد عن القول:

ـ مرحبا بكم متى شئتم، البيت بيتكم ..

صارت حليمة تعيش وحدها في بيت عمر، كمتبتلة عزفت عن الدنيا ومافيها، تداهمها أمواج الشوق لعمر، فتطغى على ذاتها وتظل تبكي الى أن تغيب، تخرج صباح مساء الى مكانهما في الحديقة فتظل هناك الى ان تغفو ثم تعود متثاقلة الى غرفة نومها، ترتمي على السرير وروحها لا تناجي الاعمر .. تزورها السعدية يوميا، وكلما سافر زوجها تأتي اليها تؤنسها الى ان يعود الزوج، كانت هي نفسها كالغارق في بحر يتطلع الى السماء خوفا على أمها التي هزلت، وعلى حملها الذي يزداد ثقلا .... فقد صارت حليمة لاتفارقها ممرضة تسعفها من غيبوبة تصيبها بين حين وآخر ..

بعد غسل عدتها انتقلت من لباس ابيض الى آخراسود لا تزيحه عنها..

اقبل أخو عمر وعمه بعد خمسة أشهر من وفاته، وكانهما كانا يترقبان نهاية عدتها، أو اليأس من خلو بطنها من جنين، رحبت بهما حليمة على قدر ما استطاعت، وحين سألاها كوريثين شرعيين عن تقسيم الإرث، أحست كانهما يصبان عليها ماء باردا يوقظها من نوم.. سبقتها دموعها وهي تقول بصوت اشبه بالهمس:

أنا لا اعرف شيئا ولم ابحث في أي شيء، سأستدعي بنتي السعدية لتدلكم على محامي الشركة يمكن تجدون عنده ما يفيد..

كانت السعدية تقرأ في وجوههما لهفة لمعرفة ما تركه المرحوم، وما نصيبهما من تركة عريضة، واسعة، فالنفوس عطشى، والفرح يطل من العيون بوميض، فالفقيد لم يترك غير زوجة بلا خلفة من عمر ولا يظهر عليها أثر من حمل، ولن يتعدى نصيبها الربع مما ترك والباقي سيكون بينهما ..

فتح المحامي ملف وصية عمر، وشرع يقرأ وثيقة بعد أخرى، وجد ان أخ عمر مدين لأخيه بخمسة ملايين درهم لم يؤدها لعمر منذ ان اقرضه إياها من ثماني سنوات، وتوجد بالملف رسائل تبادلاها تكشف عدم سداد هذا الدين، آخرها رسالة من الأخ تقول: الم تحاول ان تنسى هذا الدين وقد وسع الله عليك وورثت من زوجتك الأولى الملايين؟ لا تقلق ذات يوم سأؤدي اليك ما بذمتي ..

أما العم فلا زال يحوز 96 هكتارا هي نصيب أب عمر من جد عمر وبعد ان داهم الموت والد عمر بشهرين من موت الجد بقي العم يحتفظ بالأرض الى يومنا هذا، وبالملف الذي بين يدي المحامي نسخ من استغلال تلك الأرض في الزراعة المغطاة مع نسخ طبق الأصل من كشوفات مدخولها السنوي..

أما الشركات والمعامل والأموال فثلاثة ارباع من جميع ما خلفه الحاج عمر في اسم زوجته موثق ومسجل ومحفظ في اسمها، وهي من كانت المتصرفة وباسمها يتم البيع والشراء والشراكات، ينوب عنها الهالك السيد عمر بتوكيل من قبلها، وان الربع المتبقي قد شاركته فيه ربيبته السعدية مناصفة، ومعنى هذا فماعاد للحاج عمر غير الثمن هو ماتبقي للارث بعد خصم الربع كحق زوجته الشرعي و خصم الثلث الذي كتبه هبة لربيبته السعدية، ولا يسلم الباقي من التركة الا اذا أدى عمه واخوه ما بدمتها عن آخر درهم؛أما البيت فهو في ملكية السيدة حليمة زوجته وبنتها بعقد موثق، مسجل ومحفظ في اسميهما بكل مافيه، وقد اقتنته منه اثر ضائقة مالية اصابت الحاج عمر ففضل ان يكون المشتري زوجته وربيبته بدل أي غريب حسب ما بالملف من وثائق موقعة من قبلهما..

تفاجأ العم والأخ بما سمعا وقد أحسا بالضيق حين طالبهما المحامي بسداد ما بذمتهما مع الفوائد فاقترحا عليه مخارجة بلا نزاع ولا محاكم والسداد على مراحل ؛ هنا نطقت السعدية قائلة:

نحن أبناء أصول، ولايمكن في غياب عمر ان يقع ما يحرك راسه بقلق في قبره، كان رحمه الله يد خير تسبق قلبه ..ارجو من السيد المحامي ان يكتب تنازلا مني وأمي عما في ذمة السيدين، وتنازلا من قبلهما عن حقهما في الإرث المتبقي، وهكذا "مريضنا ماعنده بأس" والله يسامح علينا دنيا وأخرى ..

بدأت حليمة تعتاد حياتها الجديدة وان كانت الغصات لاتفارقها، فعمر لصيق بالصدر والعقل وأثر لا يمكن محوه، فما تركه في نفسها لم يتركه أب ولا ام، فعمر هو من فتح عيونها على إنسانية الانسان في الحياة، كان يعطي ولا يطلب، يبذل ولا ينتظر جزاء، كان عمر هدية عمرها من ربها وكأنه ما أتى الا ليؤدي رسالة في حقها وحق ابنتها ثم يتوفاه الله ..

استطاعت السعدية أن تخرج أمها من وحدتها، تحبب اليها السفر معها، تعتمر معها في رمضان، وتعرجا على تركيا للراحة والاستجمام، وقد كان لازدياد عمر الصغير لدى السعدية أكبر أثر في نفسية حليمة، فصار هو شغلها اليومي واهتمامها....

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم