نصوص أدبية

مأمون أحمد: على نصل هاوية

أنت الآن وحدك

ووحدك الآن أنت

حجر في صحراء منسية، بلا أنس أو أنيس

موجة في نواة عاصفة مخنوقة بالملح

تطحنها الرياح ويفتتها الرذاذ

وردة يتيمة في جليد، تلفحها سوافي الثلوج

تجمدها البرودة، فيكسرها النباح

يحملها مجهول في قوس قزح

يواريها سُدًى عبثي الملامح

حولك الضباب والرماد والفراغ

الضياع والتيه والخواء

خلو وغياب وخلاء

كأنك بلا جذر، بلا جذع، وفرع وساق

بلا رجل أو ساعد، بلا زند ولا متن

ظِل يسير في ظلام

هكذا تقول عنك البوم يوم زواجها

وهكذا يوم رحيلها تعرفك الغربان

**

أنت الآن وحدك

بلا قلب بلا همس بلا صمت بلا صوت

ووحدك الآن أنت

بلا روح بلا خفق بلا ضحك بلا دمع

فيك تجتمع القرى والمدن

وفيك تتفرق عواصم، أبحر ومحيطات

مثل فضاء بلا سقف أو سماء

وفضاء يعوم يغوص يسقط يركض

يسبح يهرب يفر يقفز يثب

يحن يئن يرن يشتاق يتلهف يبتل

ينشف يتندى يتقلى يمطر يجف

يدور في فضاء من دوار

مثل حجر في مئذنة مهجورة في نواة زلزال

تضربها الشمس ويغشاها البعد، يمسكها الغياب

غادرها التوق مزقها الشوق هجرها الوجد

وكأنها حلم كامن في هواجس من رؤى مصفدة

صماء بكماء عمياء، بين صبر وصبار

بين نور تلاشى، اندثر، اندرس، باد

وبين نار ولهيب وأوار.

**

وأنت لوحدك

بين ذاتك وذاتك

بين أناك وأناك

تَلَمًس الشوك القادم من القادم

من الماضي والحاضر

الحاضر والماضي

بأنامل من عتاب حسرة ولوعة

كان عليك يوم كنت وحدك

أن تتقن كيف تعشق ذاتك

كيف تذوب في أناك

فذاتك ليس لها إلا ذاتك أنت

وأناك أنت ليس لها سوى أناك

حكمة الوجود فيك تناديك

تسألك أن تعتق الوحدة بالوحدة

تخلطها بصحارى الملح والرمل والثلج والصخر

بنكهة الصبر المحمول على ناقة خلوج

بشذا الشيح والحنظل

بمذاق شهد السدر والآس

برحيل الأغنيات من وتر النسيان

ببحة الناي بين أنياب الثغاء

**

أنت كنت هناك، وحدك

منذ البدء، قبل ميلاد الدنا

قبل نضوج الغابات والهواء والرحيل

بين حجب ظلمات ثلاث

كانت في حجب ظلمات ثلاث،

وفي حجب من حجب ظلمات

تمسك الغيب، تنقله، تزحزحه نحو المجهول

بأنامل من عجز مكلل، مجلل، مثقل بالعجز

مثل حبة رمل نفختها الآماد

خبأتها في قلب عاصفة، دوامة هوجاء

حشرتها في قطرات غيمة عابرة بين سدف من ظلام

أسقطتها في قاع محيط يمسكه الدخان

تحملها الشمس في بخارها، تسافر، تهاجر

تتلوى، تختنق، تشهق، تزفر، تضج، تطير، تحط

تضحك، تبكي، تفرح، تحزن، تيأس، تقنط، تزحف

تركض، تحبو، تقف، تُشل، تحن، تأمل، تسقط

في حبة ثلج يخطفها جليد مسكون بالصقيع

**

وحدك كنت

وحدك أنت الآن

ووحدك ستكون في كونك، يوم التكون

يوم التكوين، يوم انفجار البراكين

تهاوي الزلازل، غرق البحار والأنهار والمحيط

نقطة بيضاء في كفن أسود

نقطة سوداء في كفن أبيض

تتحرك، تتوالج، تتواشج، ترشح، تفيض

تنحسر، تنشف، تتيبس، تتحطم، تتشظى

تتلاشى، تتناثر، تتكسر، تتثنى، تتجعد

تتغضن، تتقصف، تتقصل، تتجزع، تتقطع

تلتحم، تلتصق، تشتد، تستد، تنتظم، تتصل

تقف بين حائطين واحد من نار والثاني من جليد

بين ربيع يبكي، وخريف ينوح، صيف يفح، وشتاء يزخ

رحيل عودة، وعودة رحيل

حضور في غياب، غياب في حضور

وكأنك خرافة، ترتجف حين تمسها الأسطورة

أو سحر، ينتفض من تعويذة

ضياع غير مرئي، سراب يخادع ذاته

ويخدع سرابا ينادي سرابا في السراب

لماذا تركت النجوم تختفي في جيب غيمة؟

ولماذا تركت روث الجمال يسافر بعاصفة رمل؟

وجلست تعد الكواكب، وتحصي الرياح

كأنك لم تقرأ حروف الوقت أو تتقن حوار الزمن

مع الموج المرفوع من الأعماق نحو الشمس

ولم تدرك زيز الظلام وهو يغني كالبجع أغنية الوداع

لم تدرك سر الحرف فوق شواهد القبور

سر الحزن فيها، معنى الرحيل من الذكريات

وجع اللحن وحنين الأغنيات

**

أنت الآن وحدك

تحمل رايات يومك الماضي

أشرعة يومك الذي أنت فيه

ورجفة يومك الموصوف بالغيب

مثل فريسة تطلق قوائمها للريح

تلتف، تلتوي، تنعطف، تتقوس، تدور

في عينيها يسكن الموت والحياة كتوأمين لا ينفصلان

تماما كما أنت بين ليل ونهار

أنت والليل، سكون على نصل هاوية تصعد نحو قمة

وقمة عمياء في قلب هاوية زرقاء تبحث عن سوادها

هنا قوس من نار وسخام ودخان وسناج

وهنا ماء مالح، أجاج، داكن، قاتل

بينهما نهار سريع الخطى

يدق جدار الحلم بناصية من شمع وصلصال

بيدك آفاق مفتوحة، آماد ممدودة، فضاءات مشحونة

وعلى شفتيك، تقف الأسئلة، ثقيلة، لزجة، دبقة

كيف؟ ومتى؟ أين، لماذا؟

كيف مزجت ذاتي بأناي؟

متى نبتت دالية في قلبي الصغير؟

أين رحلت بيوت النمل؟ وخلايا النحل؟

لماذا بقيت مع وحدتي وحيدا مع الوحدة؟

وحيدا يتوحد باللاشيء؟ بمجهول مهاجر في المجهول؟

كأنين ناي بكى ثغاء نعجة بين أنياب الذئاب

كذكر عنكبوت قادته شهوته نحو غلمة فاغتاله الشبق

**

رأيتك قديما، في تكون الحمأ المسنون

تحمل السنابل وهي خضراء، صفراء، ذهبية

تنثرها بين القلب وقرب الفؤاد

ترويها من الحلم المزروع في دماء الكبد

تغنيها وتنشدها، قصائد تحملها العواصف والرياح

تنثرها بين الرمش والجفن، صبايا من خيال مخصب بخيال

إناث من شهد مصفى، يذوب في النسيم

يٌلهب الذوق، يٌؤجج الخفي المتخفي فينا بالخفاء

يفتح نافذة التوق والشوق والمشتهى

يخض الغيب والمجهول، يرج السحر الكامن في النواة

يكوي بركان الإحساس ويصهر الشعور

نعم رأيتك، بين السواقي والروابي والسهول

حبة خردل يتيمة، خشخاشة بين ليمون وبرتقال

شوكة أسيرة بين حنون ودحنون

حيرة تتناسلها حيرة معتقة بحيرة

تطارد الوهم بالتيه، تلاحق الضلال بعُتُوّ وضياع

ترسم بالظلال نهاية الطريق المعبد بسؤال غابة عذراء

عن دوائر البداية في متاهات السيقان

وعن همسات الليل وسط هيبة السكون

وحشة الوحدة، رعب الهسيس، هول الحفيف

عن شبح انشق من حجر، انفلق من صخرة مبللة بالعتمة

بالعين رأيت ضربات قلبك معلقة بين فحيح ظلمة

وعواء دجن واقبه، مشلولة، كسيحة

تعضها نسمة دفعها غصن مجوف تسكنه الخنافس

يغزوه العفن وتدمره الطحالب.

**

لم تكن وحدك، هنا، وهنا، هناك، وهناك

في الشمال في الجنوب، بين الحدود وبين السدود

كنت أنت أنا، وأنا هو، وأنا أنت، وهو أنا، وأنا أنا

هناك أنت وأنا، نقطف اليأس من حقول الألم

أنا وهو نحصد اليتم من رحم قهر مخضب بالمحل والجدب

أنا وأنت نجني ثمار الذهول من خيوط الشمس

هو وأنا نرشح كما قلة الفخار في سهول البعث

عقم الولود وهي تئن من طنين النحل في العيون

أنا وأنا نفيض كالنهر في سحب مسحوبة من ودق مالح

قلت وقلنا، هتفت وهتفنا، صرخت وصرخنا،

صحت وصحنا، جلجلت وجلجلنا، عججت وعججنا

عليك كي تخرج من فم النملة، من جناح بعوضة

أن تتعلم أول حروف النطق والسمع والبصر والرؤى

أن توقن بأن اللغات كلها في الأرض وبين الكواكب

في المُهل، في التزحزح، في التردم، في الانهيار

في القبر، في البعث، في البرزخ، وما بينهما

وما قبلهما، وما بعدهما، وكل ما في الكل

أن تتقن لغة البحث عن النجاة كي تستطيع البقاء

البقاء على حافة خيط برق مولود من رعد

وعليك أن تتقن لغاتك القادمة من أناك، من ذاتك

فالعين رغم إبصارها يخدعها اللون

والصوت رغم دويه تخدعه الرياح

لكن الروح التي فيك

المعبأة بالحدس، المكتظة بالفراسة،

المحملة برائحة البداهة

لا تُخدع بالرياح والألوان، ولا يُقلدها الصدى

هي أنت وأنا، هي أنا وأنت، أنا وهو، وهو وأنا

هي أنا، وأنا وأنا.

***

مأمون أحمد مصطفى زيدان

فلسطين – مخيم طول كرم

في نصوص اليوم