نصوص أدبية

أحمد الخميسي: أول الـعـشـق

من حيث لا يتوقع حدثت المعجزة التي بدلت كل شيء، كان ذلك عقب زيارة ابن عمه المخرج التلفزيوني عبد السميع أول أمس، تغدى معهم ملوخية وأرانب، وبينما هو يأكل التفت اليه واللقمة في منتصف الطريق بين يده وفمه وقال له:" تيجي تمثل معي يا بهاء؟". هز بهاء رأسه بالموافقة من دون تفكير، أما أمه فبانت عليها علامات الفرح المفاجئ وقالت بلهفة وفرح:" آه والنبي يا عبده". أردف عبد السميع وهو يدفع اللقمة إلى فمه:" بهاء صغير وشكله لطيف". تطلعت أمه إليه بفخر، بينما غمره الاستياء من كلمة " صغير". صحيح أنه في الثالثة عشرة لكنه ليس هذا " الصغير"، وكيف يكون وقد خفق قلبه بالحب منذ أسبوع حين لمح منى وهي تهبط على درج السلم من الطابق الثاني حيث تسكن. حينئذاك تطلع اليها وأحس في لحظة أن حريقا شب فيه وأحال كيانه مادة أخرى فلم يعد يتعرف إلى نفسه. لقد اضطرب وقلق منذ أن رآها تمشي بخفة رشيقة وشعرها الذهبي يتماوج فوق كتفيها، وبعد ذلك يقولون: " صغير ولطيف" ؟! هل يتقلب في الليل صغير وهو يرى منى تتأرجح على أطراف رموشه إلى أن يقول لها: " أحبك يامنى"؟ وأخذ يراقبها من فرجة ستارة الردهة حين تزورهم، وهي جالسة مع أخواته. ينظر إليها ويتساءل كيف تشع منها كل هذه السعادة؟ ارتج قلبه لكنه لم يجرؤ على مصارحتها بما يحسه، وظل كلما صادفها يتطلع اليها صامتا، بلهفة، ولأن العشاق كما سمع يكتبون الشعر- فقد كتب قصيدة صغيرة من بيتين اثنين: "منى شعرها ذهب.. وقلبي معها ذهب"، وتعهد أمام نفسه باستكمالها في ما بعد لتصبح أكبر. لكن ها هي المعجزة تقع ويدعوه ابن عمه إلى التمثيل، وتجرى الأحداث في اتجاه آخر.

فجر اليوم التالي، كان ينتظر أن يذهب إلى التلفزيون. استيقظت أمه مبكرا، تغسل وجهه وتكوي البنطلون والقميص وتراجع تسريحة شعره أمام المرآة. أخيرا دق جرس الباب وظهر شخص يسأل: "الأستاذ بهاء موجود؟"، فتقدم من خلف فستان أمه، وتطلع إليه المندوب نادما أنه قال " الأستاذ" ثم صحبه إلى مبنى التلفزيون. في الطريق أوضح له: " المفروض أننا نصور ناس يروحون ويجيئون في طرقة داخل مستشفى، وأنت ستمشي في الطرقة وبجوارك رجل كبير يسألك:ححجرة رقم 8؟ تجيبه: لاء . حجرة 14. فاهم ؟". هز بهاء رأسه أنه فهم.

صعدا إلى المبنى. وفي الاستديو أجلسوه على كرسي خلف ديكورات المشهد وجاءه أحدهم بكوب عصير برتقال. بعد قليل أشار إليه مساعد المخرج أن يستعد لأداء دوره، وما لبث أحدهم أن دفعه من كتفه الى الطرقة تحت ضوء كشافات النور ومعه الرجل الكبير. بعد عدة خطوات مال الرجل يسأله: "حجرة رقم 8؟". هنا طقت في دماغ بهاء أن عبد السميع المخرج ابن عمه وكثيرا ما يتغدى عندهم، فكيف يقتصر دور في التمثيلية على كلمتين؟!. لذلك كبر بهاء الدور مؤكدا ما يقوله بحركات يديه وحواجبه وتلعيب رقبته: " لاء يا عم. ليست حجرة 8، هو كان هناك لما كانت حالته صعبة، لكن عندما تحسن نقلوه بعد ذلك إلى.."، وبينما بهاء يسترسل هبطت عليه من كابينة أعلى الاستديو صيحة المخرج: "ستوب. وقف". وصاح مساعد المخرج في بهاء:" هما كلمتان وبس. أنت مرور فقط. منظر يعني. نعيد المشهد". اشتغلت الكاميرات مجددا ودخل بهاء إلى الممر مكسور الخاطر ولفظ الكلمتين محبطا: " حجرة 14". بعدها قاموا بتوصيله إلى البيت في تاكسي. طرق الباب وما إن فتحت أمه حتى تلقفته بين أحضانها بفرح تقبله مهنئة تستفسر منه عما جرى، لكنه كان مغتما حتى أنه لم يسمعها تقول له: " المسلسل سيذاع الساعة الخامسة اليوم". تظاهر بهاء بالنوم لكي لا يشهد الحلقة، ولم يخطر له أن لحظة ظهوره السريعة على الشاشة ستكون المعجزة التي تغير كل شيء، لكنه عرف ذلك في اليوم التالي حين صادف منى على الدرج وفوجئ بها تستوقفه، وتمسك به من كتفيه وقد فتحت عينيها بدهشة وفرح وهي تصيح: "معقول يا بهاء؟ معقول؟! أنا شفتك في التلفزيون! كنت جميل جدا في الممر". لم يصدق أن التي تقف أمامه وتحدثه منى. تجمد أمامها متمنيا أن يمسك بيدها، وقد خطر له أن هذه هي اللحظة المواتية فشد رقبته لأعلى وتمتم يتواضع بصوت وقور:  " هو دور بسيط.. للبداية". هزته من مرفقيه تصيح: " لا يا بهاء.. كنت حلو قوي، وماشي بثقة وعظمة. ستكون نجما كبيرا.. يا سلام..يا سلام"، ثم هرولت تواصل الهبوط الى مخرج العمارة. الآن أحب بهاء لحظة العبور السريعة في المشهد، فقد أصبحت المعجزة التي قربته من منى. في الليل ظل يردد على مسامعها قصيدته الصغيرة " منى شعرها ذهب.. وقلبي معها ذهب".

بانقضاء شهر كبس عليه الاستعداد للامتحانات فلم ير منى طويلا إلى أن فوجئ أول أمس بزغاريد في فضاء السلالم. صعد إلى الطابق الثاني ورأى على باب شقة منى مصابيح ملونة معلقة، وأمام الباب زحمة من البنات والرجال. استفسر فقيل له إنها خطوبة منى! ولم ينقض نصف عام إلا وكانت منى قد تركت شقة أهلها ولم يعد بهاء يراها. اعتاد غيابها في العام الأول، ولم يرها سوى مرة بالمصادفة وهي تصعد لزيارة أمها، لكنه لم يلمح في عينيها السعادة البكر التي كانت تضحك بها وهي تداري فمها بيدها، وتباعدت في الليل مرات ظهورها، وإن كانت من وقت لآخر تمشي في ذاكرته من دون صوت، فيعيش حلما مبهما. ولم يبق من القصة سوى بيتين من قصيدة صغيرة.

***

د. أحمد الخميسي

قاص وكاتب صحفي مصري

في نصوص اليوم