نصوص أدبية

شميسة غربي: فوق عمود الكهرباء

أغمضتْ عيْنيْها بعد أنْ بلّلَها المطر.. كانتْ تفتحهما بين الحين والآخر؛ نِصف فتحة، ثمَّ لا تلبث أن تعود إلى الحال السابق..

أُصْبوحة اليوم؛ تشِي بقصِيدَة شِعْر؛ ستنْظمُها رِياحٌ لطيفة بِقَوافٍ من أوْراقِ الخريف الأصْفر وبأوْزانٍ من هَدير الموج الأبْيض.. البَرُّ والبحْرُ غارِقان في طقوس التّهْليل.. قطراتُ الشتاء؛ بدأتْ تُداعِبُ الشّجر والحجر، وتختلط برغْوة المْوج وبحبّات الرّمْل.. يعلو التَّسْبيح بيْن السّماء والأرْض على وَقْعِ ُموسيقى كوْنِية، تسْتعْذِبُها الرُّوحُ المفْتونَة بسِحْرِ الطبيعَة..

يطولُ استِقْرارُ الحمامة فوق العَمود الكهربائي.. لا شيء يُزْعِجُها.. وَحْدةٌ ماتِعَةٌ، أحْلامٌ مِغْناطيسية تجْتذِبُها إلى مَلكوتٍ مُتَعَالٍ.. هناك؛ حيث الصّفْوُ المأمول والملاذ المنشود.. من نافذة الغُرْفَة؛ تتأمّلُ الفتاةُ سكون الحمامة، ثمّ تعود فتُوَزِّع نظراتها بين العمود الذي تعْتَليه الحمامة وبيْن الأرْض وهي تتحمّلُ كلّ هذا الدّكّ..! سيْلُ المَرْكبات.. كثافةُ المباني.. ضجيجُ البشر وهمْ يتعقّبون الحياة إلى ما لا نهاية.. يا إلهي.. كلُّ هذا الهَوس..؟ مِنْ أجْلِ ماذا..؟ وبماذا..؟! تتناسلُ الاستفْهامات في زمنٍ قدْ تجاوز كل الاستِفْهامات ولمْ يبقَ سوى التّمَنّيات المُعَلّقة على أقواس المُستحِيلات..!

نظرتْ إلى الحمامة، تمنّتْ لوْ أنها نزلتْ بنافذة غرفتها.. ستُطْعِمُها..ستسْقيها..ورُبّما تتعوّد الحمامة على المكان الجديد، فتطير إليْه بين الفينة والأخْرى.. ربّما ستبْني عُشّاً في رُكْنٍ منْ أرْكان النَّافذة الواسِعة.. طرِبَتْ "مختارية" لهذه الفكرة، نسيتْ نفسها وحوّلتْ عيْنيْها عن الحمامة وبدأتْ تتأمّلُ منظراً آخرَ مِنْ بَعِيد..

تحت العمود الكهربائي..

طِفلٌ بِعُمْرِ اثنتيْ عشر سنة؛ بخطواتٍ مُتَّئدة؛ يتّجهُ نحو العَمود، يحْملُ كيساً ثقيلاً فوق ظهره؛ يُمْسِكه بيد، وباليد الأخرى يحْمل قطعة كرتون سميكة على شكل مستطيل. وكأنّ الطفل يأتي إلى هاهُنا لأوّلِ مرّة.. يُدقِّقُ النّظر في المكان، ينظر يميناً وشِمالاً، يرْفع عيْنيْه إلى السّماء وكأنّه يبحث عنْ شيء.. يكاد الكيس يتدحْرج مِنْ على ظهْره، يعودُ ليخْفض عيْنيْه.. الأرض ندية بزخات المطر السابقة.. ومع ذلك يبسط الطفل قطعة الكرتون ويُنْزِلُ الكيس من على ظهره، ويبدأ في إخراج أشيائه.. يُرتّبُها فوق الكارتون بعناية ملحوظة. "مُختارية"؛ من نافذتها الواسعة في الطابق الثاني من العمارة؛ تستطيع أن ترى المعروضات بوُضوح.. مناديل ورقية، بضعة جوارب نسائية ورجالية، قطع صابون الاستحمام، مناشف صغيرة الحجم بألوانٍ مُخْتلفة، عُلَب دُهنية للأقدام المُشقّقَة، وأشياء أخرى دقيقة.. جلس الولد فوق الكيس بعد أن أفرغه والمارّة مِنْ حواليْه؛ بيْن رائح وعائد، وبين متوقّف عند بسطة الكارتون، يتأمّل المعروضات؛ علّه يُصادف غرضا مطلوباً؛ يعْفيهِ زحام السوق الأسبوعي.. تنتفض "مُخْتارية" على صوت أختها "عبّاسِيَة" وهي تُناديها من أجلِ الذهاب إلى ورشة الخياطة.

الفتاتان تمْتلكان هذه الورْشة؛ مُنْذ سنوات.. تُشغِّلُ ثماني فتياتٍ في صنف الخياطة التقليدية الجميلة، ألبسة الأعراس وغيرها من المناسبات السّارّة. الأناملُ الفنّانة تحيكُ الموروث الشعبي باحترافية لافتة؛ أساسُها الذّوْقُ المُمَيّز وحُبُّ المِهْنة؛ عندما تُصْبِحُ المهنة رسالة، تجْلوها رغبة عميقة في الِاحْتِفاء ب: "الأصيل" وترْسِيخِه في الذَّاكرة الجَمَاعِية.

تترأسُ الأخْتانِ الورْشة؛ وتبْدُلان جُهوداً مُعْتبَرة مِنْ أجْلِ اسْتمْراِريتِهَا.. خرَجَتا من المنزل، توقّفتْ "مُختارية" قُبَالَةَ الطفْل تحْت عمُود الكهْرَباء؛ وكأنّها تريدُ أنْ تشْترِيَ شيْئاً.. انْتَبَهَتْ  "عباسية" إلى حرَكة أخْتِها وطلبتْ مِنْها أنْ تؤجِّلَ الِاقْتِناءَ إلى ما بعْد العودة من الورْشَة.. أذْعنتِ الفتاةُ لأمْرِ أخْتِها وهي تُحَدّثُ نفسَها " ليْتهُ يَظلُّ هُنا إلى غايَة المَسَاء.." لمْ تكنْ ترغب في اقتناء شيء بِعَيْنه.. كانتْ تودُّ إسْعادَ الطفل بِحُجّة الِاقْتِناء.. سيَفْرَحُ لا محالة؛ عنْدما يلمسُ إقبالَ المارّة عَلى سِلْعَتِه..

أنينُ القُماش تحْتَ وَقْعِ الإبَر..

قبْل أنْ تدْخُلا الورْشة؛ سمِعَتِ الأختان ضجيجاً غيرَ عادٍ.. هرْوَلَتا.. المُشْرفة على البنات؛ في زاويةٍ تَقْضِمُ أظافرها والتّوتُّرُ يكسو وجهَها.. البناتُ مُكتئبات؛ يتحلّقْنَ حول آلات الخياطة وإبَرُها تثقُبُ الأقمشة بسُرْعة جُنونِية..! البنات يُحاوِلن التّحكّم في الآلات؛ لكن لا يُفْلِحْن.. حركة الإبر تتسارع، والثوْبُ ينْسَلّ.. الخيوط تتطاير في الهواء، التّمَزُّقُ يتّسِع.. الأنينُ يتصاعد تحت سِياط الإبَر وهي تجْلِدُ القماش.. الذّهولُ يُغْرِقُ الجميع.. الأفواهُ صامِتة والآذانُ صاغِية.. لا أحَدَ يُصَدّق.. لا أحَدَ يفْهَم.. لا أحَد يتَقبّل..

تلتفتُ "عباسية" إلى العدّاد الكهربائي؛ تُسْرِعُ نحْوَه، تضغط على الأزْرَارِ القاطِعَة؛ يتوقّفُ ضجيجُ الآلات، تتجمّدُ حركة الإِبَر، بيْنما تظلُّ أعْيُنُها الضّيّقة شاخصة نحو القُماش وكأنّها تتوعّده بالمزيد من التّمْزيق..! تُهرْوِلُ "مُختارية" تّجاهَ المُشْرِفة على البنات، تحاولُ أنْ تفهم منها ما حدث.. تتجمّعُ مِنْ حوْلها باقي الفتيات والذّهُولُ يلجمُ الأفواه.. بعْدَ بُرْهة؛ تنْطِقُ المُشْرِفة "نجاة" بكلمات مُتَقَطِّعاتٍ وهي تشيرُ إلى إحْدَى الآلات بأنامل مرتجفة.. ترْوي مشهد الصباح وعيناها لا تُفارقان الآلة.. " عندما شغَّلْتُها في بداية الصباح؛ لاحظتُ تباطؤاً غريباً في عمل الإبَر وهي تخيط الأقمشة.. فحَصْتُها، وَجَدْتُها ما تزالُ صالحة للاستعمال. وشيئاً فشيْئاً بدأ التّباطؤ يزْدَادُ، فهَرَعْتُ إلى اسْتبْدالِ الإبَر بأخرى جديدة؛ غير أنّ المُفاجأة كانتْ معَ هذا الاسْتِبْدال.. خُيِّلَ إليَّ أنّي أسمع صوْتاً تُغَلِّفُهُ البحّة.. تسمّرْتُ في مكاني وأرْهَفْتُ السّمع.."

حديثُ الأعْيُنِ الضَّيِّقة..!

" تعِبْنا منْ خِياطة أقْمشة للبشر.. تقيُّحُ الرّوح يُغَطّي البدن..! نُفضِّلُ خياطة أكْفانٍ لأحْقادِ البشر.. ! أكْفان لِغدْر البشر.. أكْفان لِهمَجِية البشر.. للِدّمار.. للخيْبات المتعاقبات.. أكفان للمكر.. للخداع.. أكفان لِخُبْثِ الطبائع.. للخيانات وهي تجْلد القلوب الطيبة، للرّذيلة وهي تمُدُّ الجسور لتقطع أنوار الفضيلة.. نخيط الأقمشة لِزينة الأبدان وأين زينة النّفوس.. أين جوهر الضّمائر.. أين التّسامي، أين التسامح، أين الرّحمة، أين النّخوة.. لِمَنْ نخيط هذه الأقمشة..؟ لِمَنْ..؟ لأجْسادٍ مُنَمّقة وأرْواح مُخَرّبة.. الجُلودُ مُغَطّاة؛ والنّواصي غاطسة في صهاريج التّقيّح..! سنُمَزّق وسنُمَزّق وسنُمَرِّرُ الرّسالة إلى بقية الإبَر في الورْشاتِ الأخْرى؛ حتى القُماش سيَهْرُبُ مِنَ البشر.. سيتْرُكُهُ عارِياً؛ مثلما يتعَرّى شجرُ الخريف.."

كانتْ "نجاة" تروي حديث الإبر؛ وقدْ بدأتْ تستعيدُ هدوءها وعلامة استفهام تقفز بين عيْنيْها:" تُرى؛ لو كانتْ وحدها في هذه الورشة، هلْ كانتْ ستبقى صامدة وسط عتْمة الغرابة..؟ وَمَنْ كان سيُصدِّقُ حكْيَها..؟ سيقولون لا محالة: "الِمسْكينة تُعانِي منْ مسّ..! المِسْكينة تتخيّل.. الِمسْكينة أصابَها خَرَفٌ مُبَكِّر.."! ما أكْثرَ التّأويلات وما أسْهَلها !

اِرْتأتِ الأختان "عبّاسية" و"مُختارية" ضرورة إغلاق الورشة لِيوْميْن كامليْن؛ حتّى يتمَّ تدخُّلُ مُهنْدِس الصّيانة. قرّرتا تسْريحَ البنات والعوْدة إلى البيْت.. طِوال الطريق؛ كانتا تسْتعِيدانِ وَاقِعَة اليوْم.. هل صحيح ما قالتْه "نجاة" ؟ ثُمّ كيف ُيمْكنُ تسْليم الطلبيات في الوقْتِ المُحَدّد..؟ وهلْ سيفهمُ الزبائن تبْريراً كهذا..!

تهلّل وجْهُ "مُختارية" وهي تلْمحُ الطفل.. إنه ما يزالُ في مكانه وِبيدِه اليُمْنى فطيرة، وأمامه قارورة ماء صغيرة؛ تقدّمتْ نحْوهُ؛ تأمّلتْ ما تبقّى من المعروضات، شعُرتْ بالحَرَج وأختُها تُكرِّرُ على مسامعها: " لا شيْء هنا تحْتاجِينَهُ.. فلْنذْهبْ.." ردّتْ "مُختارية" بِامْتعاض دون أن تنظر إلى أختها:" إذْهَبي أنْتِ.. سَأشْترِي مِشْطاً وعُلبَة دبابيس، وقدْ أجِدُ الجوارِب القطنية التي تُناسِبُ أقْدامَ أمِّنا.." انْحنتْ تتفحّصُ الأشياء.. قفز الطفلُ إلى جِوارِها وقدْ عزَّ عليْه أنْ تنْحني الفتاةُ لتلْتقِطَ ما وقع عليْه الِاخْتيار. " دَعِيني يا خالة؛ أساعِدك.." أشارتْ بأصابعها إلى ما ترْغبُ في اقْتنائه، جهّز الطفلُ المطلوب ووَضعَهُ داخلَ كيسٍ بْلاسْتيكي صغير، ثمّ قدّمهُ للفتاة والفرْحَة تُنيرُ مُحيّاهُ.. سلّمَتْه النّقود، رَبتَتْ على كتفه وهي تدْعو له بالحِفْظ.. تابعَها الطفلُ بعيْنيْه المُتوَهّجتيْن وهو يتمنّى أن يرْسلَ اللهُ إليْه مَنْ يشتري منه الأشياءَ القليلةَ المُتبقِّية..

استلمتِ الحاجّة "أُمَيْمَة" الجوارب وهي تُمْطِرُ ابْنتها بِأدْعية الرّضا والفلاح.. مضتِ الليلة كلّها؛ لا حديث فيها إلّا عن الإبر المتمرِّدة، كانت الحاجة تُشارك بِهَزِّ رأسِها قبل أنْ تسْتسْلِمَ لِإغْفاءَاتٍ مُتَقطّعات.. عدمُ الفهْم أحْياناً ؛ يعْفيك سوءَ التّقديرات..

حلّ الصباح، فتحتْ "مُختارية" نافذة غُرْفتها، نظرتْ إلى أعلى العمود، لمْ تجد الحمامة.. فكّرتْ.. سأجلبُ بعضا من الخبز وأتركه في زاوية النافذة، رُبّما تراهُ أثناءَ عوْدتِها. ظلت تراقب العمود بين الفينة والأخرى طوال الصباح؛ إلى أنْ حلَّ وقتُ الظهيرة.. صادفتْها  تُرفْرِفُ فوق العمود.. شعُرَتْ بطرب عجيب وهي تتأمّلُ رفْرَفَتَها، اقتنعتْ بأنّها ستنزلُ يوما ما ضيْفا على هذه النافذة..

خيْبة في السّلة..!

تبْدو السّلّة ممْلوءَة، نقية، مُزرْكشة مِنْ إحْدى الجِهات بخيوط صوفية رقيقة، متعدّدة الألوان.. الجهة الأخرى من الدّوم الرّفيع.. ربّما ذهب صاحبها أوْ صاحبتُها لاقْتناء أشياء أخرى، ولِثِقَلِها تُركتْ في هذه الزاوية من السّوق الكبير.. رُبّما أوْصَى تارِكُهَا أحَدَ أعْوان التُّجار؛ بِالِانْتباهِ إليْها؛ بعْد أنْ سلّمَهُ بضْعَة دنانير، فَقَبِلَ؛ وعنْدما طال الوقت؛ نسيَ أمر السلّة وراح يُساعد في نقل أكياس الخُضر والفواكه؛ أمَلا في الحصولِ على بضعة دنانير أخريات..  لصُّ السّوق "مسعود"؛ يتجوّلُ بين الزبائن بحذائه الرياضي الخفيف.. يتفحّصُ الوجوه، يتمعّنُ الجيوب، غليونه بين شفتيْه، هاتفُهُ مُلْتصق بأذنه اليُمنى.. يُبْعِد الغليون تارة ليتحدّث.. ثمّ لا يلبث أن يُعيدَهُ إلى مكانه ليسْمع.. وهو يُنْهي جولتَه الأولى؛ لمح السلّة الأنيقة في الرّكن. يَمْضي وقتٌ طويل وهو يُراقب المكان.. يغْتَنِمُ فرصة شِجار بين تاجريْن، يمشي بهدوء، يأخذ السلّة، يتأمّلُ حزمة النّعناع الكبيرة التي تُغَطي مُحْتويات السّلّة.. نعْناع أخضر، تتصاعد رائحته الجميلة لتقتحم تجاويف الأنف.. مُتْعَةُ الوجدان والعَين معاً.. يُغادر السوق، يمتطي سيارة أجرة.. في مقعَدِهِ الخَلْفي؛ يبْدأ في تفْتيش السّلّة.. يُزيحُ حزمة النّعْناع.. يصرخ وقد أذهله الموْجود.." ما هذا؟!  موْلود..؟!!" يتوقّف السائق؛ ينْزلانِ من السيارة، يحمل اللص السّلّة، يضعُها على الأرْض، يمُدُّ يَديْه ليُخْرِج المولود؛ غير أنّ سائق الأجرة يمْنَعُه: " لا تفعلْ شيْئا.. لا تلْمَسْهُ.. سنذهب به إلى الشُّرْطة.."

في مقرِّ الشُّرْطة؛ لمْ يكن الاعترافُ بنية السّرقة؛ صَعْباً على "مسعود".. "أنا لصّ سوق وليس لصَّ بشر..!" لمْ يكنِ التحقيق طويلا مُتْعِبا.. ف "مسعود" من أصْحاب السّوابق في مجال السرقات الخفيفة وَسِجِلّهُ موْجودٌ في أرْشيف الأمْن..

بكى اللصّ بين يديْ المُحقّق وهو يُردّد في صدقٍ بادٍ: " لقدْ سرقتُ السلة كعادتي؛ وأنا أجهلُ ما بداخلها.." لمْ يكنْ بكاء "مسعود" خوفا من العقوبة، ولا خوفا من تهمة ثقيلة مثل هذه.. كان بُكاءَ تأثُّرٍ.. كان بُكاء شفقة، بُكاء حسرة على قلوب قاسية.. ساعتَها عاش "مسعود" لحظة الأسى بكلّ جوارحه.. بأمْرٍ مِن الضّابِط ؛ تقدّمت مُساعِدة أمْنِية، أخْرَجَتِ الرّضيعَ من السّلة.. وهي ترفعُهُ؛ لَمَحَتْ ورقة مطوية في قعر السلة. أشارتْ بِعيْنيْها إلى حيث الورقة، نظر المحقق إلى حيث أشارتْ، رفع الورقة وقرأ: " قبل ترْكهِ؛ أشْرَبْتُهُ مُنوِّماً حتى لا يسْتيْقِظ قبْل الأوَان..!"

وضع المُحقِّقُ رأسَهُ بيْن يديْه وغاص في تفكيره.. فجْأة انْتَبهَ وصوْتُ المُساعِدة الأمْنِية يعلو ويُكرِّر: " سيّدي.. لقدْ بدأ الرّضيعُ يتحرّك.. أنْظرْ.. !" الجسمُ الصّغير يهْتزُّ كلّه.. الأصابع الصغيرة في حجم عود الثّقاب؛ تتشابك، ثمّ تعود لتسبح في الهواء.. العينان تنْفتحان بصعوبة، ثمّ تنْغلقان وكأنّ ضوء الغُرْفة أزعجهما.. حركة الجسم تزداد، تخرج القدَمان من تحْتِ الغطاء الصّوفي وتُلامِسان ذراع المُساعِدة الأمْنيَة، قدَمَانِ في حَجْم حبّة ثمر.. يتثاءبُ الرّضيع ويسْتعدّ لِفرْض وُجودِه على الجَميع.. ! يتعالى صوت بكائه.. يكتبُ المحقّق تقريرهُ في الحين..يُسلّمُهُ للجهة المعنية، يُؤْخَذُ الرّضيعُ إلى دارِ الأيْتام.. ينْهار "مسعود" بيْن يديْ الشرطي وهو يقودهُ نحْوَ النِّظارَة..

يَا خَالة..!

" منذ ستّة أشهر فقط؛ علِمْتُ بقصّة تواجُدي في المَلجَأ.. أخْبَرَني مُدير الدّار بعْد إلْحاحٍ مُتواصِلٍ منّي، وأخذ وَعْداً منّي: أنْ أنسى الموضوع تماماً. رغم وُجود مدرسة تابعة للملجأ؛ لمْ أُفْلِحْ في الدّراسة، استشْعَرْتُ ساعات الدرس ثقيلة على نفسي.. المعلّمة تتحدّثُ عن الأخلاق.. عن العدالة.. عن الأخوّة.. عن الأحلام الجميلة.. عن الآداب العامّة..عن ضرورة الكفاح في الحياة.. عن الاعتماد على النّفس.. المعلّمة تتحدّثُ عن كلِّ شيء؛ إلّا عن ظلمِنا..!

استأذنْتُ من المدير للخروج من الملجأ.. لم يقبلْ في بداية الأمر واعتبر ذلك مُجازَفة، غير أنّ حُسْن سلوكي الذي يشهد به جميع مَنْ في الدار؛ جعلَهُ يقْبَلُ على مَضض.. وكان شرطه؛ أنْ أعود كل مساء للمبيت في الملجأ وإلا سيُخْبِر الشرطة بأنّي هربْتُ من الدّار. خرجتُ إلى الشارع الواسع.. أبْحَثُ عن رِزْقي.. عنْ.. وُجُودي إنْ كان لي وُجود.. لمْ أكنْ أُحْسِنُ عملاً عدا مهنة التّنْظيف، نظّفْتُ حوانيت الدّبّاغين والنّجّارين والعَطّارين والحدّادين والورّاقين، غسلْتُ صناديق بائعي السمك، غسلتُ واجِهات المحلات التجارية؛ إلى أنْ جمعْتُ مبلغا أعانَني على فتْحِ مشروع بيْعٍ للأشياء الخفيفة؛ وهو ما تريْنه يا خالة.."

كان "أحمد" الطفل؛ يقصُّ حكايتَه والعائلة مُتَحلّقة مِنْ حوله.. "مُخْتارية" وأخواتها. فقد طلبتْ منه في إحْدى الأمْسيات؛ أن يحملَ معها بعض المشتريات إلى الطابق الثاني؛ بعد أنْ نزلتْ من سيارة أجرة أمام باب العمارة.. كان "أحمد" على وَشك الانْصِراف.. فقدْ جمع ما تبقّى من المعروضات القليلة داخل كيس صغير؛ وَضَعَهُ تحت إبْطِه؛ وتأهّب للمغادرة. نادتْهُ، سارَعَ إلى مُساعَدَتِها، ومِنْ يوْمِها تعرّفَ على جميع أفْرَاد العائلة.. سيتعوّدُ عليْهمْ وسيتعوّدون عليْه.. كانت المناسبة عندهم؛ هي عودة الأخت الكبيرة "أمّ معاذ" من البقاع المُقَدّسة.. لذلك اضطرّتْ "مختارية" إلى الاستعانة بهِ في حمل أغراض تجهيزات هذا الحدث السّعيد..عاش الفرْحَة معَهُمْ.. عاش الدِّفءَ لأوّل مرّة.. استنشقتْ رِئتاهُ رَحيقَ الوُجود الذي خرج يبْحث عنه يوم فضّلَ اكتشاف الشارِع.. وألغى مِنْ حِسابَاتِه كلّ الموَانِع التي اعْتبرَها سِجْناً اسْتِثنائِيا في دَارِ الأيتام..

كانتِ الحاجّة "أُمَيْمَة" توصي بناتها دائماً بتفقّده.. وكثيراً ما طلبتْ منهن دعْوَتَهُ إلى تناول الغذاء معهم؛ فإذا تعذّرتِ الاستجابة للدعوة بسبب البسْطة والسلع المعروضة فوقها؛ أمَرَتْهُنّ بأخذ الطعام إليْه وهو في مكانه.. لمْ يعُدْ وحيداً.. هناك مَنْ يُفكِّرُ فيه، هناك مَنْ يتفقّدُهُ، أصبحتْ هذه العائلة بالنسبة إليْه؛ "مِنْحة" وَضعتْها الأقدارُ في حياته..

مِسكُ الحُرُوف..

بعد سنة كاملة من تربّصها الطويل بالخارج؛ تعود الأختُ الوُسْطى "حكيمة" المُتخَصِّصَة في الدراسات الِاسْتشْرَاقِية إلى البلَد؛ على أمل التّدريس في إحْدى الجامعات الوطنية.. وُعود التوظيف تتبخّر.. تلجأ إلى إحدى الشركات الخاصّة؛ فتتوَظّفُ  كنائبِ مُدير؛ في الوقت الذي كان للمدير شهادة أدْنى مِنْ شهَادتِها..! اعتبرتْ هذا العمل مُؤقّتاً، وبدأتْ تملأ فراغها في نهاية الأسْبوع بالكتابة القصصية؛ دون أنْ يُنْسيها ذلك؛ ضرورة تقديم ملفّ التّوظيف في مجال اختصاصها؛ كلّما تناهى إليْها خبَرُ فتح التوظيفات عن طريق المسابقات..

كانتْ "حكيمة" تعرف قصة "أحمد" عن طريق الرسائل والصور التي تبَادلتْها مع العائلة خلال سنة التّربّص بالخارج؛ كمْ عزَّ عليْها أنْ ينقطع الصغير عن التّعْليم في سنّ مبكرة.. ها هي اليوم؛ تتعرّفُ عليْه عنْ كثب، تلمس ذكاءه وطموحه، وتعتزم مُساعدتَه. يقضي "أحمد" الفترة الصباحية في الشارع قبالة العمارة؛ يُمارس تجارته الصغيرة- كما كان يسميها – وفي المساء يُواظبُ على الحصص التعليمية التي خصّصَتْها له "حكيمة" في بيت العائلة.. كان عملها في الشركة؛ يبدأ في الساعة الثامنة صباحاً ويتوقّف عند حدود الثالثة والنصف، تمرُّ عليْه؛ فتجدُهُ بانتظارها وقدْ جمع أشياءَهُ المتبقية.. يدخلان الدّار، رائحة القهوة التي تُحضِّرُها "عبّاسية"؛ تُنْعِشُ الدّماغ.. رائحة هذا البيْت تسْكنُ ضُلوعَه، وهو يكبر شيئا فشيئاً؛ حتّى أصبح شابا فاستأذن منْ مدير الملجأ، ولم يعُدْ يبيت هناك كما كان.. ولكنه في الوقت ذاته؛ لمْ يغْفَلْ عن زيارة الأيتام الجُدُد؛ حتّى أنّهُ كان كثيراً ما يحْمِلُ إليْهِمْ بعض الحاجيات التي لمْ يَطلْها البيْع. سعِد مديرُ الدّار وهو يلمس هذه الأخلاق الكريمة لدى "أحمد" وتمنّى له كلّ الخيِر.

ليالي الورْشة..

بعْد أنْ شارَكَهُمْ أسراره وأحلامَه، وبعْد أنْ تغذّتْ روحُهُ بِقِيَمِهِمْ ونقاوة قلوبِهِمْ، شدّتْهُ حِبالُ الودّ إليْهم.. فراح يفرح لأفراحِهِمْ ويحْزن لأحْزانِهِم، يسألُ عن غائبهِمْ، ويطمئنُّ على الحاضر منهمْ..فيفوز بثقتهم وتقترح عليْه الحاجّة "أميمة" أنْ يبيتَ في الورشة؛ بدلاً من الملجأ. تقوم "مُخْتارية" و"عبّاسية" بتجْهيز اللازم؛ فتختاران مكانا فارغاً في الورشة؛ وتدعوانه إلى مُساعَدَتِهِما في نقل الفراش والغطاء والمدفأة الكهربائية إلى حيث المبيت.. تمْنحُهُ "حكيمة" مكتباً صغيراً يعودُ إلى أيامِ طفولتها وكرْسِيا عتيقاً، يستخْدِمُهُما للقراءة وتلخيص ما يقرأ؛ حسب أوامر أستاذته "حكيمة". قبل قدوم البنات العاملات في الورشة؛ يُغادِرُ المكان إلى بيْت الحاجّة "أميْمة"، يحْتسِي قهْوَتَه بالفطائرِ اللذيذة التي تُعِدّها "عباسية" يوْمياً للعائلة.. يُسلّمُ المفتاح للحاجّة مخافة أنْ يضيعَ منه، ثمّ ينزلُ إلى الشارع؛ يتسوّق ويبيع والدّنْيا مِنْ حواليْه بطعْمٍ جديد..

كان يجد في حصص التّعَلُّم الغذاء العقلي والرّوحي.. ف: "حكيمة" تبذلُ قُصارى جُهْدِها من أجلِ تحْبيب الدّرْس إليْه.. لمَسَ صدْقَها ونُبْلَ هدفها؛ فعكف على التّحْصيل والقلبُ البريءُ يمْتنُّ لهَذا المَلاك الذي سخّرهُ اللهُ لإنارَة درْبِه. شيئاً فشيْئاً؛ يتمكن من المشاركة في امتحانات التكوين العِلمي الحُرّ فيُتابع دراستَهُ بواسطة نظام "المُراسَلَة".. يكْبُرُ حماسُهُ وهو يقطف ثمرة اجْتهاده.. نتائجُه الحسنة؛ تُفْرِحُ الجَميع.. يدخل الجامعة ويكتشف عالَما جديداً.. عالم التّخصّصات على أوْسع نطاق.. يخْتارُ شعْبة الآداب، يرْوِي ظمَأهُ بمُلازمَتِه للمكتبة. يتذوّق رحيق الخيال وهو يجوب به عوالم الفكر الإنْسَاني الرّاقي، ويحطّ به الرّحال على عتبة عيون الإبداع في مختلف العصور.

في إحدى الليالي الباردات وهو يستعدُّ للنّوم؛ بعد أنْ أمْضى وَقْتا طويلا في القراءة؛ سمِعَ جلبة في الخارج، تلاها ارتفاع أصواتٍ مُخْتلطة؛ شقّتْ سكون الليل.. ارتدى معطفهُ وخرج مُسْرِعا يستطلع الأمر.. متسكّعون يتشاجرون مع اثنيْن مِنْ مُوزِّعي المُخدّرات؛ والسلاحُ الأبيض يُغازِلُ العتْمة.. بدون تفكير؛ أخرج هاتفه من جيب معطفه وبدأ يتصلُ بالشرطة. لمَحَهُ أحَدُهُمْ، هجم عليْهِ بضربة سكّين؛ أصابتْ أحَد كتِفيْهِ.. ظلّ في مكانه ينزف حتى وقتٍ متأخّر.. حين مرّتْ دورية المُراقبة الليلية؛ كان الهاتف بيده وهو مُغْمَى عليْه.. تبيّنوا أنه كان بصدد الاتّصال.. نُقِلَ إلى المُسْتشْفى.

باب الورشة مفتوحٌ، تحرّيات الأمن؛ تتوصّلُ إلى مالكي الورْشة. يطرقون بابهمْ.. ينْهارُ الجميع.. الحاجّة "أميْمة"؛ تبكي وهي تُرَدّد: "قليل الحظ.. ماذا يُريدون منه..؟!" أما البنات فكنّ يقْطَعْنَ البهو العريض؛ ذهاباً وإياباً دون وَعْي.. لا "مُختارية" ولا "عبّاسية" يخطر ببالهما اللحاق به إلى المستشْفى في هذا الليْلِ الدّامِس.. تهرع "حكيمة" إلى هاتفها، تطلب سيارة أجرة، تُرْشِده إلى عنوان البيت وتلبس ثيابها الصوفية استعدادا للخروج. رُبع ساعة وتصل سيارة الأجرة؛ البِنْتانِ تُطلان من النافذة والحاجّة "أميْمة"؛ تسأل في قلق وعصبية: " هلْ ركِبتْ أختُكُما..؟" تُطَمْئِنانِها وتجلسانِ القُرْفصاء في حسْرةٍ تُلْجِمُ الأفواه..

رغم رباطة جأشها، رغم قوة صبرها؛ لمْ تتمكّنْ "حكيمة" من التّحَكّم في دمْعِها.. يتأثّرُ السائق لحالها، فيحُثُّها على التّفاؤل والإكثار من الدّعاء..

مِنَحُ الزّمَن عجيبة..!

بضعة أسابيع؛ كانتْ كافية ليعود "أحمد" إلى حياته الطبيعية.. فبعد مغادرته المُسْتشْفى؛ تُقْسِم الحاجة "أُمَيْمة" ألا تتركه يبيتُ في الورْشة؛ على الأقلّ وهو في طور النّقاهة. يُلَبّي طلبها لمدّة أسبوعٍ فقط، ثمّ يعود إلى مكان مبيته. في هذه الأثناء؛ تُسْتَدْعى "حكيمة" إلى الوظيفة في الجامعة.. تعُمُّ الفرْحةُ البيْت، يتقاسَمُ معَهُمْ سعادةَ اللحظة.. تُقيمُ "أمّ معاذ" حفلا بهيجاً احتفاء بِتَحقُّقِ حُلم أخْتها "حكيمة" وتيمّنا بِنَجاةِ "أحمد" من الموْت. وهي تُقدّم استقالتها لمدير الشركة؛ تتوسّط "حكيمة" لأحمد من أجل توْظيفه في أيّ منْصبٍ كان.. يعِدُها المُديرُ خيْراً خاصة وهو يرى شهادة الشابّ الجامعية ويسمعُ شهادة "حكيمة" في الشاب الأمين الخلوق. بعد شهر؛ أُسْتُدْعِيَ للعمل في أحد المكاتب التابعة للشركة خارج البلْدة..  مَنْ كان يظنّ أن هذه النّقْلة من حياة إلى حياة أخرى؛ ستخْلق مشْهدا استثنائياً يُوثِّق زمن المُكاشفة.. ستجمعه روابط الصّحْبة مع أحد زملاء العمل في الشركة، وبمُرورِ الأيّام؛ تتطوّرُ الصُّحْبَة إلى صداقة عميقة، أصبحا لا يفترقان، ومِمّا عزّز تقارُبَهُما أنّ الشركة؛ خصّصتْ لِعامِليها القادمين من خارج المنطقة؛ شُقَقا صغيرة في عمارة واحدة؛ قريبة من مكان العمل. يظلان مع بعض طوال الوقت، لا يفترقان إلا إذا ذهب "أحمد" لتفقّد الحاجة "أميْمة" بين الفينة والأخرى. عندما سأله "عصام" عن سبب علاقته بهذه الحاجّة؛ لمْ يجِدْ "أحمد" بُدّاً من سرْد حكايته منذ النّشأة في دار الأيتام إلى غاية تعرّفه على عائلة الحاجة "أميْمة".. كان "عصام" يستمع إليْهِ وقد انتابتْهُ دهشة لمْ يستطعْ إخفاءها.. وفلتَ منْ لسانه السؤالُ المُفْزِع: " مَنِ الذي وضعك في الميتم؟!" اِبتلع "أحمد" ريقه، أشاح بوجْهِه واختصر الكلام: " أنا اِبْنُ السّلّة..!! تركوني في السوق الأسبوعي.. خيّبْتُ أمل اللصّ الذي سرق السّلّة، فأخذني إلى مركز الأمن، ومِنْ ثمَّ؛ سلّموني إلى ملجأ الأيتام، وقدْ أخبرني مديرُ الدّار بقصتي عندما بلغتُ العاشرة من عمري بعد أن ألححتُ عليْه ورَجوْتُهُ.."

لمْ يسْتَطِعْ "عصام" أنْ يضبِط نفسه.. انتفختْ أوْداجُهُ وانهمرتْ دمعة حارّة على خدّه الأيمن وبدأ يُتَمْتِم: "السلّة..السلة.. السّوق.. السّوق.. تلك الأصبع الزائدة في القدَمِ اليُسْرى..!" ذُهِل "أحمد" وآذانُهُ تلتقط الكلماتِ المُبَعْثَرَة في ثنايا لحظة الميلاد الجديد.. كان "عصام" يحكي بنبْرة الموجوع المسرور في نفس الوقت: " قبل وَفاتِها بأيام؛ أمرتْني أمّي أنْ آتيها بصندوقها الحديدي الأثري المُغَطّى بقماشٍ حريري في رُكْنٍ من خزانة ملابسها، وضعْتُهُ أمامها، رَأيْتُها تلتقط مفتاحا صغيراً من وسط مزهريتها المُفضّلة على كل أثاث البيت وتحفه. المزهرية أعرِفُها منذ بدأتُ أُدْرِكُ الأشياء.. لا أحدَ يلمسُها ما عداها.. فتحتْ أمّي "كريمة" الصندوق وأخرجتْ منه رسالة تبدو قديمة حسب اصْفِرار الورَق، أشاحتْ بِوجْهِها وطلبتْ منّي أنْ أقرأها.. وأنا أفتحها؛ ظننتُها وَصِية أو ما شابه.. فكُلّنا نعلم أنّ المرض الخبيث نهش جسد أمّي وأنّها تعيش لحظاتها الأخيرة. قرأتُ والحروف تتغلغلُ في داخلي؛ فأُحِسُّها إبَراً تنْغرزُ في عقلي وقلْبي.. كِدْتُ أفْقِدُ توازُني فأصرخ في وجْهِها، كِدْتُ أصبُّ نيران غضبي في وجْهِها الهزيل الشّاحب.. سقطتُ على الأريكة عند قدَمَيْ سريرها وبكيت.. بكيت.. أرادتْ أن تعتدل في جلْستها لتتحدّث أو لتشرح.. انتبهْتُ إلى حركة يدها؛ فإذا بها تُشيرُ أنْ: " أكْمِلْ القراءة.." بقية الحروف؛ تُطوِّحُ بي في غُيومِ كرْبٍ شديد يفلق الحجر..

اشتغلتْ أمّي كمديرة طبخ في أحد البيوت البورجوازية وهي في زهرة شبابها، كانتْ قد تخرّجتْ من مدرسة الطبخ وقدّمتْ ملفّها للعمل في أحد الفنادق أو المطاعم الكبيرة في البلدة، وبعد مدة؛ حصلتْ على العمل في مطعم؛ غير أنّها لم تستمِر هناك؛ حيث اقترح عليْها أحد المُرْتادين من البورجوازيين الكبار؛ أنْ تتولى مهمة الطبخ لضيوفه من أصحاب الصفقات؛ بعد أنِ استأذن من صديقه مالك المطعم، ووعدها بأنْ يُضاعف لها الأجر الذي تحصلُ عليْه في مكان عملها. بعد تفكيرٍ طويل؛ قرّرتْ الانتقال إلى العمل في قصر البورجوازي، فاتّصل صاحب المطعم بالقصر وأخبَرهم بتلبية الطلب.

استلمتِ العمل؛ وأمانيها تتصاعد مع كلّ راتب تقبِضُه: كرسي مُتحرّك لوالدها، غسالة ثياب لوالدتها مثل بقية الجارات، سرير مُريح لأخيها الذي يُتابع دراسته في ظروف بائسة.. سيرتدي ملابس جديدة مثل أقرانه في المناسبات، ستدْعمه بالدّروس الخصوصية في الموادّ الأساسية، فتختار له أجود المُعَلّمين وأكثرهم شهرة، ستشتري له خزانة جميلة من الخشب المنقوش؛ يُرتّبُ فيها أشياءهُ ويُخفي فيها مصروفه اليومي الذي يأخذه من أخته.. ستُغيّرُ أثاث البيْت؛ فقد أكلهُ البِلى منذ سنوات ولمْ يعُدْ ينفع.. ستُحقّقُ رغبة أختها في التسجيل بدورات تكوينية للحلاقة العصرية؛ يُكلّفها ذلك مصاريف مرتفعة حيث تشتري لها ما يلزم من الأجهزة والإكسسوارات المطلوبة.. كلّ هذه الأماني تحقّقتْ بفضل تفانيها في عملها وبفضل طيبة العائلة التي اشتغلتْ عندها، حتّى أنّ ربّة القصر؛ كانت كثيرا ما تناديها لمُجالستها والاستئناس بأحاديثها المشوّقة عن عوالم الطبخ وقصص الطبّاخين وقد يتشعّبُ الحديث بينهما؛ فتنتقلان إلى مواضيع أخرى مثل الاجتماع والسياسة والرياضة والفنّ وما شابه.. تمرّ الأيام؛ فتتعرّف "كريمة" على أخ زوجة صاحب القصر العائد من ديار الغربة. تنشأ بينهما علاقة؛ فيُقرّرُ الزواج منها بعد أن أخبرتْه بحمْلها منه.. وكأنّ الخطيئة تأبى إلا أنْ تطفو على السّطح.. سيموت "توفيق" في حادث سيارة بعد أنْ كلفه صهره بالتوجه إلى أحد مصانع العائلة؛ لِمُعايَنة الشّحْن نحْو المِيناء. كانتْ "سُكيْنة" أختُه؛ تعلم كل شيء عن علاقته ب: "كريمة" فقد أخذها معه لِخطبة الفتاة من والديْها، ثمّ طلب منها أنْ تُجهِّزَ كل ما يلزم؛ اسْتِعْداداً للعُرْس.. غير أنّ أجلَهُ سبقه، واستبدل تجهيزات العرس بتجهيزات الجنازة.. فحساباتُ الأقدار؛ تتجاوزُ حسابات الأحلام..!!

مع مرور الأيام؛ يبدأ بطنُ "كريمة" في البُروز.. تُدبّرُ أختُ المرحوم أمْرها حيث تُرْسلها إلى مزرعة العائلة خارج المدينة.. هناك ستهتمّ بها العائلة المُكلّفة بالعمل في المزرعة. قبل ذلك؛ تزور "كريمة" عائلتها وتُخْبِرُهُمْ أنها ستُرافق إحدى بنات صاحب القصر للعلاج خارج البلاد، وأنّ غيابها قد يطول حتى تُشْفى المريضة. كانتْ هذه فكرة "سُكيْنة" حتى لا ينفضح الأمر.. خطّطتْ أنْ يتربّى المولود في تلك المزرعة، فهو ابنُ أخيها ولا يُمْكِنُها التّخلّي عنه. غير أنّ الحسابات الجديدة؛ ستُلْغيها الأقدار مرة أخرى.. قبْل الولادة بليْلتيْن فقط؛ تتوفّى السيدة "سُكيْنة" بسكتة قلبية على إثر خبر سقوط المروحية العسكرية التي كان قد امتطاها ابنُها في إحدى الحِصص التّدريبية..

طقوس الجنازات؛ ستحْفرُ خنْدَقَها في قلب "كريمة".. ففي ساعة سوداء؛ غابت كلّ الحلول الممكنة، ولمْ يعُدْ من الجائز البقاء في المزرعة ولا الاحتفاظ بالمولود.. كانت تتعجّب من وجود إصبع زائدة في أحد قدَمَيْه..! خمّنتْ : "رُبّما ستكون هذه الإصبع الزائدة رحمة من الله.. قد تكون هي العلامة التي تُعينُ على التعرّف عليْه يوما ما.." ثم تركتْهُ لأقْدارِه في سلّة؛ بالسّوق الأسبوعي..

تعود "كريمة" إلى عملها في القصر، تستوحشُ المكان وقدْ خلا من أحبّائها: "سُكيْنة" و"توفيق".. بعد سنوات؛ يقترِحُ عليها صاحب القصر – وهو الذي علِمَ قصّتها عن طريق زوجته سُكيْنة- يقترح عليها الزّواج من أحد أصدقائه بعد أنْ تكفّل هو بإخباره عنْ ماضيها مع صهره المرحوم "توفيق". وافق الرّجلُ وهو المُحْتاج إلى رعاية خاصة في سِنِّهِ المُتقدّمة وظروفه الصعبة. لقد هجرتْهُ زوجته السابقة حين أتْعبَها مرَضُه وكثرةُ تدخلات أهله في حياتهما بسبب عدم قدرتها على الإنْجاب رغم طول مُدّة الزّواج؛ ففضّلتِ الانْفِصال عنه.. تزوّجتْه "كريمة" دون رغبة في الزواج.. وانتقلت إلى بيتها الجديد. أدّتْ ما عليْها تُّجاه زوجها الطّيّب، خدمتْهُ، حرصتْ على أوقات أدويته ومواعيد فحوصاته.. بعد سنتيْن؛ تُنْجِبُ "عصام".. يترعرع في أحضان أسرة مثالية؛ أسرة سعيدة؛ لولا النّغص الذي كان يهزم قلب "كريمة"؛ فتبكي وحرقة التخلي عن ابنها الأول؛ تُهشِّمُ ضلوعَها.."

بكى الأخوان.. طلبا المغفرة لأمّهما وقرّرا زيارة قبرها في نهاية الأسبوع..

فوق العمود الكهربائي..

كانتْ "مختارية" تراقب الحمامة الجديدة منْ نافذتها.. سارعتْ إلى وضع بعض الخبز في زاوية من النافذة؛ ثمّ ذهبتْ لتفتح الباب على إثْرِ طرقات متتاليات.. تُفاجَأُ والشّابّان أمامَها؛ بينما صوت الحاجّة "أُميْمة"؛ يعلو ويستفسر: " مَنِ الذي طرق الباب..؟" يصيحُ "أحمد" وهو على العتبة: " أنا "أحمد" يا أمّي "أميْمة".. أحمِلُ لكِ مفاجأة.." تهلّل وجه الحاجّة وهي تسمع صوت "أحمد"..

كان غذاءً فاخراً؛ أعدّتْهُ البنات؛ بطلبٍ من الحاجّة.. وكانتْ قصة "الأقدار" مُشوِّقة؛ ستتخذ منها "حكيمة" موضوعاً جديداً لكتاباتها الرِّوائية..

في الصباح؛ تُزيحُ "مختارية" الستائر كعادتها؛ وقبل أن تفتح زجاج النافذة؛ تُبْصر حمامة بألوانٍ زاهية؛ تحمل بمنقارها أعوادا؛ بعد أنْ وضعتْ الحشائش والريش والقشّ وبعض الأغصان الصغيرة في إحدى زوايا النافذة العريضة.. تبْتهِج الفتاةُ وتُفضّل أنْ تتريّث؛ لنْ تفتح النافذة حتى لا تُزْعِجَ الضيْفة الجَديدة.. إنّها بِصَددِ بِناءِ عُشّها..

"زيْنب"؛ هذا الصّباح..

عبر أمواج الأثير؛ يتسلّلُ صوت الإعلامية المتألّقة إلى القلوب؛ ليُعْلِنَ عن موضوع جلسة اليوم: "الرواية النسوية وخصوصياتها".. كان الحوار ثقافيا ممتعا؛ ناوش عوالم السّردي النسوي وقارب إشكالاته.. "زينب"؛ بِرِقّتها، بخِفةِ رُوحِها، بِحماسِها، بِنشاطها؛ تتعمّقُ مع الروائية المبْدعة "حكيمة" في النّقاش، تُثْرِيان الجلْسة، تتدخّلُ ثلة من مُسْتَمِعي الإذاعة المحلية، تتسع الآراء النقدية، تُسْتَحْضَرُ النظريات في الإبداع الإنساني ككلٍّ؛ بعيداً عن مسألة التّصنيف.. ينجح البرنامج.. بِنبرَاتها العذْبة؛ تُعْلِنُ الإعْلامية المُتألّقة؛ نهاية الوقت المسْموح به.. تبدأ نشرة الأخبار المُفصّلة؛ تُقدّمُها إحدى زميلات "زينب"..

***

شميسة غربي/ سيدي بلعباس/ الجزائر

في نصوص اليوم