نصوص أدبية

تماضر كريم: بقعة ضوء

لم أختر مكاني قرب النافذة، حيث كان ضوء الشمس في صباح ذلك اليوم الخريفي، يخترق الزجاج، ليملأ الصالة التي تضج بالمدعوين.

لكني وجدت نفسي مرغمة أجلس هناك، في تلك الزاوية حيث لم يكن ممكنا سوى مشاهدة جزء من وجه الشاعر ذا العمر المتوسط وهو يلقي قصائده ويتحدث عن تجربته في الشعر ويستمع لملاحظات الجالسين. في الحقيقة كانت القصائد مملة جدا. ربما أنا وحدي لم أفهمها! لقد أخفقت تماما في اكتشاف ماذا يريد أن يقول الشاعر.  ولوهلة شعرت بالغباء. أخرجت هاتفي لأدفع الملل. لاحظت أن ثمة دائرة بيضاء مشعة صغيرة تتحرك على الجدار مع حركة الهاتف، بدا ذلك الإنعكاس مبهرا حقا، وكانت اللعبة مسلية  وسط أجواء السأم تلك. كنت أحرك بقعة الضوء بالطريقة التي أحب، صعودا وهبوطا، يمينا وشمالا، حتى إني كتبتُ على الجدار بضعة  كلمات، ورسمت شجرةً وحمامة وفتاة تلعب بالحبل وعشبا ونجوما.. وكدت أرسمُ صمتا عميقا لولا أن آهةً ندّتْ من فم الشاعر.  وغمرت المكان لحظة صمت مفاجأة قاسية، أعقبتها همهمات رافضة غاضبة وعيون متسائلة منصبة على وجهي، شعرت أنني ارتكبتُ إثما مريعا، وسوف يتم إلقاء القبض عليّ بتهمة إرباك الشعر. لقد انزلقت بقعة الضوء إلى عينيّ الشاعر تماما. كان هناك جالسا على كرسيه، يضع يديه على عينيه ويتأوه، حوله الكثير من المتعاطفين، وقد سكت الشعرُ تماما في ذاك المكان، وحلتْ بعض الفوضى، حتى بقعة الضوء نزلت للأسفل بخجل. كان كل ما أفكر فيه هو الإختفاء، والهرب، هكذا أنتشل بقعة الضوء وأتلاشى بعيدا عن هؤلاء. لكني لم اتزحزح عن مكاني، أدركت خطورة الهرب آنذاك، وقررت تجرّع الشعور بالعار. كنت ساكنةً في مقعدي. أنتظر أن يتحسن الشاعر ليهدأ الجميع، ومع عودة كل شيء لسابق عهده، سأنسلّ للخارج بخفة.

عندما زادت حدة التأوهات، قلقت فعلا، حتى إني لم أستطع السيطرة أبدا على نبضات قلبي المتسارعة، فقد كانت النظرات الغاضبة تجلدني كلّما إرتفع صوت الشاعر. لقد عزموا على طلب سيارة الإسعاف. بدا الأمر خطيرا، قال أحدهم (قد يفقد نظره)!  يا للهول! سيحاكمونني ويزجون بي في السجن. كانوا لا يزالون حوله يتكلمون بصوت عال وقد تباينت الآراء. هاتفي كان لايزال في يدي، أما الشمس فهي أكثر سطوعا من قبل، تخرق زجاج النافذة بكلّ بهاء.

لملمت قوتي المتناثرة وكبريائي الذي جرحته النظرات الناقمة، ورحت أحرك الهاتف بجميع الإتجاهات. كانت نقطة الضوء المذهلة تتحرك على وجوههم بشراسة وبلا رحمة، وأصواتهم تتعالى، فيما كنت أنا أتراجع حتى غابوا عني وخَفتت أصواتهم وتشظت في الفراغ.

تنفست بعمق وكنت وحيدة إلّا من بقعة ضوء ترافقني.

***

تماضر كريم

 

 

في نصوص اليوم