نصوص أدبية

قصي عسكر: ما مضى قد تخلّى

فجأة

هكذا

من دون مقدمات

يطغى عليه زمن ما تحت الماء

الماضي اختفى.. لا وجود له ولا أثر.

هو لا يتذكره قط ولا يعرفه إلا حين تقع عيناه عليه

يشعر كونه يختلف عن الآخرين.

فلا يحس بوجود سابق لما مضى بل لما يكون.

أين كان قبل هذه اللحظة؟

وإلى أين هو ذاهب؟

ومن هو؟

يتحسس جيوبه فيعثر على بطاقة وصورة له، وقد وجد نفسه يمشي على الرصيف، يعي لحظته الحاضرة وحدها:مما يؤكد وجوده :علامات كثيرة تشير إليه.. إنسان يمشي في الشارع.. ليس هو، فهو في حلم يمنعه من أن يتذكّر كلّ شئ ماعدا اللحظة التي يرى نفسه فيها.أين تلاشى الماضي؟ليكن ذلك حلما.. كابوسا ليسمِّه ما يشاء فالأحلام هي الحقائق الوحيدة التي نعيشها.

وتساءل:

أشياء كثيرة تدل على أنّي كنت في أمكنة أخرى غير هذا الشارع من قبل فهل تفاجؤنا الامراض هكذا دفعة واحدة فلا نعرف من نحن لكن لساننا لا ينسى الكلام، شارع سوق.. ناس.. شمس غيم.. معرض أمامه، وشارع يصخب بالمارة، هناك من ينادي بعد غد عيد، يجوب الشارع يستوقف المارة على الرصيف الآخر، وامرأة تدفع عربة طفل، يجتازه شاب مشغول بالهاتف النقال،، سيدة بشال أبيض تقول لأخرى في عمر ابنتها بعد سنتين يصبح ابني مهندسا اصوات صاخبة واخرى هادئه لايهمه أين كان ومتى ضاع لم يبق لديه إن كان هناك شئ سوى لسانه والكلام.

كيف تعلم هذا

وعرف لغة الاخرين الذبن يتهامسون ويزعقون ويتناجون !

يعرف لغة العابرين ولا يعرفونه شخص ما يبتسم بوجهه يهز رأسه اليه مرحبا، وآخر يقصده ظنه صديقا أو من معارفه ثم تبين أنه يبيع أوراق اليانصيب.هناك شئ واضح غامض لايقدر أن يفهمه. يسمع شخصا كأنه يناديه عبد الودود، عبد الودود، تلتقي نظراتهما فينسل الآخر وسط الزحام ويغيب.أين يذهب ومن أي مكان أتى؟

هل هو عبد الودود؟

من أين مكان خرج ومن هؤلاء الذين يعبرون أمامه.

توقف لحظة أمام بائع عصير عنب كان في حالة عطش شديد تحسس جيبه وجد به بعض أوراق تشير إلى علامات لا يذكرها.دينار نصف دينار عملات معدنية يقرأ الأسعار على اللوحة ويتردد لا يريد أن يغامر بأشياء لا يعرفها وإن كانت في جيب سرواله.. خطا وقد أعاد النقود إلى جيبه..

ثم واجهه مقهى شعبي.. يدخنون، ويحتسون الشاي والمشروبات الغازية.. كلمات لا يعرف كيف دخلت عقله، يريد أن يعود إلى مكان انطلق منه ويتحدث مع آخرين لم يعد يعرفهم .ملامحهم ضاعت.غادر الرصيف المحاذي للمقى واتجه نحو مكان ما لاح له أنه ساحل نهر عريض.اختار مسطبة وبدأ يفكر، وفي لحظة ما، لحظة أبطأ من سنين طويلة امتدت يده إلى جيب سترته، فتحس شيئا خشنا.

بسط البطاقة وبدأ يقرؤ:

وديع عبد الله

موظف حكومي

1967

إذن

لم يكن العابر المتعجل وسط الزحام يناديه.

صورته أم صورة شخص قريب الملامج منه .من دسّ هذه البطاقة في جيبه.إنها تشير إلى سنة لا يعرفها .1967 في أية سنة نحن وكيف تمت عملية الحساب.اسم أمه أبيه يظن نفسه يعيش في عالم افتراضي هنا في الحلم لا شئ يثبت وجوده وبطاقة عليها صورة أخرى.لا بد أن يكون حلما ولا يشك أنه يستفيق منه بعد دقائق أو ساعات.نهض من مكانه، وقادته قدماه إلى شارع آخر.

مشاهد جديدة تتكرر يراها في إطارها العام بغير حالات سابقة.. كأنه قذف في هذه الدنيا من غير أن يعلم في لحظة غريبة مقطوعة، أشجار وأبنية وطيور شوارع عريضة وضيقة، يقف في واجهة محل يبيع الأجهزة الألكترونية، يشاهد من على شاشة التلفاز إعلانا، فتراوده فكرة ما، يلغيها ويهم بالدخول، أشياء يعرفها غريبة عنه أكثر من تلفاز أجهزة كومبيوتر، ملوك ورؤوساء.يعرف ولا يعرف، يعود للتساؤل عن نفسه:

كيف دخلت المعرفة إلى رأسه فعرف كل شئ حاضر ونسي كل شي غائب.. يعود للشك:

إنّه حلم

كابوس لطيف يرغمه على التفاؤل

سيستيقظ منه يتأكد تماما أن الأحلام هي الواقع الوحيد الذي نعيشه في حياتنا.أنا الآن مجرد فكرة، والحلم واقع، تجذب نظره لافتة تحمل اسم طبيب.

يتأمّلها.

هل من المعقول أن يُقذف فجأة في هذا العالم من دون منقدمات ولعل الطبيب يفهمه ويأخذ بيده.يبتسم يصعد درجات يقابله بابتسامة السكرتير ذو الوجه النحيف الأشيب الشعر:

اسم حضرتك؟

يتردد قليلا يتذكر البطاقة التي في جيبه:

وديع نعم وديع.. اسمي وديع

هناك شئ التصق به، شخص آخر لا يعرفه، وتردده في نطق اسمه يثير ريبة السكرتير الذي غادر مكتبه ودخل غرفة الطبيب، وخلال دقيقة أبصر عالما على الجدران يعرف اسماء بعضه ولا يعرفهم .. لوحه على الحائط تجسِّد شخصا شفّ جلده فبانت العوالم الداخليّة والأحشاء:لسان وبلعوم معدة رئتان .كلّ شئ واضح، ولوحة أخرى لمكعبات متباينة الألوان تحيط بساعة جميلة تشير إلى الرابعة.. يدرك أن الوقت عصر وأن الساعة لا تكذب، لم يتذكر في هذه اللحظة أنه كان يؤمن أن الساعة لا تكذب سواء تقدم الوقت فيها أم تأخر.. بوستر آخر على الحائط فوق مكتب السكرتير لسيدة شفّ جسمها عن أوردة وأعصاب تتواصل من جمجمتها إلى أظافر قدميها.. ثمّ دعاية لحبوب ليس من الضرورة أن يهتمّ بتفاصيلها، وهناك أيضا مفكرة على الحائط .يوم سبت .رقم شهر وسنة .. 2003اليطاقة في جيبه تذكر عام 1967 لم يتذكر أصدقاءه الأرقام .. عشرة.. مائة ألف.. حصة المشروع الزراعي.. وارد الجمرك السنوي.. لأرقام الحسابات الكثيرة التي مارسها في البيت.. جلوسه طول اليوم أمام الحاسوب، ساعات وساعات مشاريعه مع راضي أو محادثته صديقه المهاجر ( محسن)

كلّ شئ تلاشى

انمحى

في يده بطاقة تقول 1967 وأخرى على الحائط لعالم مبهم وليس هو متفرغا لتفاصيل الأرقام الصغيرة التي تلحق هذين الرقمين الكبيرين.

أيّ رقم صغير لايهمّ

لا يعني شيئا

رجل آخر يدخل .. مريض ثان في الثلاثينن أشقر.. لابدّ أن يعرف أدق التفاصيل عن الآخرين والصور الهياكل والتماثيل.. اللون والكلمات فقد توصله إلى حقيقةما تتعلّق بوضعه الحاضر .. المريض يتخذ مجلسه على الأريكة أسفل الإعلان، والآخر جنب مكتب السكرتير.

حسنا إنه يرى الآخرين ويعرفهم ويمكنه أيضا أن يقدّر أعمارهم.

بعد لحظات يقدم السكرتير، ويجد الطبيب بانتظاره .. مرة أخرى لايخطئ.. الطبيب.عبد الكريم الرشيد الاسم المتقوش على العارضة في الخارج وسبم.أشقر طويل القامة:

يتذكر، يعرف، الزمن الحالي..

يبقى هناك شئ ما لايدركه..

مشى بسوق، وجلس على حافة نهر، تعامل بنقود مع السكرتير، يقابل الطبيب يدرك ألوان الظواهر حوله ولايدرك نفسه.

أبيض

أحمر

أخضر

ماء.. فرح .. مأتم.. عيد.. ضحك

لا يتذكر ملامحه: يجهل اسمه، وحالما أغلق الطبيب باب الغرفة حتى تلاشى ماكان فيه من ذاكرة سابقة عن الشارع والآخرين:

تفضل.

يجلس عند حافة المنضدة ويعود الطبيب إلى مكانه:

سيدي من أنت؟

ينظر الطبيب باستغراب، يدرك بحكم خبرته أن المريض إما يعرفه منذ زمن وإن لم يكن من مرضاه أو قرأ اللوحة خارج العياده فدخل لعلّةٍ ما فيه:

أنا الدكتور عبد الكريم الرشيد وأظنك قرأت العنوان فدخلت ودفعت رسوم الكشف ولست مخظئا للعنوان.

ينظر بدهشة حادة.يجرفه ذهول.قبل قليل عرف شيئا ما وحالما قابل الطبيب، وجد نفسه هكذا فجأة في مكان غريب ولم يسبق له أن عرف مشهدا آخر:

نعم مم تشكو؟

نظرة بلهاء حائرة

لا بد أن يكون الأمر كذلك.المعدة أم الأمعاء؟

لا أظنه مرضا عضويا

قال الطبيب مستغربا:

مذا تقصد؟

ياسيدي حدث أني وجدت نفسي في هذا العالم هكذا فجأة من دون مقدمات من أنا ؟كيف عشت ؟متى حدث لي ؟المعاني في ذهني والمفاهيم.. أرى الآخرين ولا أعرف نفسي كيف اقتحمت هذا الوجود أو كيف اقتحمته، وها أنا أعرف معاني لا أدري بأيّة طريقة انسلّت إلى ذهني، والأدهى كيف وصلت إليك وأين كنت؟.

ازدادت دهشة الطبيب نظر إليه يشكّ وقال:

لكن ماتشكوه خارج عن إرادتي

صدقني أني وجدت نفسي بهذه الصورة عندك من غير وجود سابق لي في هذا المكان.

فهز الطبيب رأسه ولعبت أنامله بالقلم الفضيّ ثمّ نحّاه جانبا :

ألم تقرأ اسمي وتخصصي واضح أنا طبيب عام .. طب باطني يتعلق بالأحشاء وأنت بحاجة إلى طبيب نفساني

فتساءل منكسرا:

ماذا تظن ما بي إذن؟

أعتقد أنك تعاني من فقدان الذاكرة؟

تمتم الطبيب مع نفسه احتمال وربما بعض من نوبات الجنون الذي يمسح الذاكرة:

أنا لا أعرف على الأقل الآن أحدا ولا مكانا لا أعي كيف قًذِفَ بي في هذا العالم أدرك ماحولي من حضور هو أنت وحدك المنضدة التي تقصل بيننا سرير الفحص الأبيض الطويل مصباح الغرفة ولا أدرك أي شئ مما مضى.

هز الطبيب رأسه برما :

لا بأس عليك هناك مشفى ليس بعيدا من عيادتي فيه أقسام كثيرة يمكنك اللجوء إلى أحدها هناك يساعدونك أما أنا فسأرسل سكرتيري يرافقك إلى المشفى وسأكتب لهم احتمال إصابتك بفقدان ذاكرة مفاجئ.

شيعه الطبيب إلى المكتب، وحالما دخل غرفة الفحص مريض آخر وأغلق الطبيب الباب حتّى وجد نفسه في مكان جديد.. المشاهد التي رآها من قبل يراها الآن للمرّة الأولى:بدن رجل على الحائط وأحشاءه.. صورة لجسد سيدة تبدي جهازها العصبي، مفكرة.. تواريخ وجداول.. اليوم.. وساعة تحيطها مربعات زاهية الألوان يشير عقربها إلى الرابعة والنصف:

ترى أين هو الآن ومن جاء به إلى هذا المكان؟

قادته قدماه إلى الشارع ثانية سأل السكرتير من أنت وأين كنا فظل الرجل صامتا واستقلا سيارة أجرة إلى مشفى النورالفخم.طوال الطريق فكر بما حدث له .الماضي ليس بباله ولا يعرفه، والرجل الذي يجلس جنبه.لا يثير ريبته بل حيرته أين كانا هما الإثنان.

يدرك فقط الحاضر والمستقبل، بل الأكثر إلفة له الحاضر، الدنيا لحظة نعيشها تذوب فلا نتذكرها.بطاقة جديدة في يده

إين كان.. ؟

يدرك أنه يمشي في الشارع ويبحث عن مشفى اسمه النور ولا يذكر من وضع البطاقة في يده.لحظته التي يعشها معه فإذا مضت نسيها تماما أو لم يعد يؤمن بها .لا ماض ولا مستقبل هو الحاضر وحده الذي يملأ الفراغ من حوله..

أين كان قبل لحظة إن كانت هناك لحظة مرت ما يثبته قاموس المعاني في ذهنه كلمة ماض .. أمس.. البارحة.. مجرّد كلمات باردة تستقر في ذهنه، وقد وصل إلى المكان الفخم، فتاة شقراء بمريلة بيضاء طويلة الشعر تركت شعرها يتدلّى على كتفيها، ولوحة تشير إلى مكان استراحة واستعلامات:

لو سمحت انتظر قليلا

وقد نسي الرجل الذي رافقه ومازال لا يدرك كيف وصل.

تتطلع في البطاقة التي في يده والتقرير القصير الذي زوده به الطبيب من قبل.

تهز رأسها، وتتحاشى أن تنظر إليه بريبة.

حسنا جئت من عند الدكتور( عبد الكريم )

ماذا تقولين؟ الدكتور(عبد الكريم )؟

لا بأس انتظر قليلا.

يتساءل مع نفسه:الدكتور؟

البطاقة التي يراها الآن يراها على المنضدة، ونظرات موظفة الاستعلامات تحوم بين التقرير القصير، دهشة وشك ثم تسأل:

معك بطاقة تعريف؟

يتحسس جيبه ويخرج البطاقة يلمح اسما مكتوبا صورة له لا يعرفها إلا الآن.. يأتي موظف ضخم يقود عربة ذات عجلتين عريضتين، ينطلع في بطاقته ويطلب منه بلطف أن يرتقي العربة، صعد وعندما عبر الدهليز انتظر الممرض خلفه لحظات حتى انفرج باب عريض، فوقع بصره على ممرضة تقف أمام خزانة مفتوحة أخرجت بدلة بيضاء تركتها.

***

رواية قصيرة

قصي عسكر

في نصوص اليوم