نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: جفافة...

انتبه من نومه بعد آذان المغرب بقليل، فرك عينيه المهترئتين بكفيه محاولا ان يطرد عنهما غبش النوم؛ تثاؤب مستمر يركبه، تقمطه رغبة قوية في النعاس لم تغادره، رغم انه رمى جسده على السرير قبل الفجر بقليل ككيس من الأسمنت ثقيل، بدأ يتمطى، يجاهد أن يطرد سيطرة النعاس عن عينيه، جرب تحريك ساقيه فوق سريره كمن يسوق دراجة بدواستين كما تعود ان يفعل كلما صحا من النوم. ثقل!!.. كل ساق صار وزنها طنا، حاول أن يعب نفسا قويا، فسرى ألم رقيق في صدره؛ بجهد جهيد استقام في مكانه، مد يده الى خزانة صغيرة بجانب سريره أخذ لفافة من التنباك حشاها بحشيشه المعتاد ثم شرع يدخنها، نوبة سعال تخنقه، حاول أن يحرك رأسه يمينا ويسارا وهو يفرك عنقه بيسراه، أحس تصلبا في رقبته، حالة تصيبه كلما أطال في نوم بعد افراط في التدخين !

تذكر زوجته التي فارقته من شهرين، كم كانت بارعة في تدليك رقبته، عنه غابت الآن بعد أن اتعبها بنومه الطويل، كسله وإدمانه، صوتها في مسامعه كنفير يعلن العصيان، كانت لا تدلك رقبته الا وصوتها هدير:

ـ رجل يتعمد الانتحار..لماذا؟ ماذا ينقصك؟ مدخولك من عقارات إرث أبيك كثيرة، صيَّرك الحشيش شيخا في الثمانين، أمات فيك كل شيء، كل شيء، اذا لم ترحم نفسك فارحم غيرك ممن يعيشون معك. قارن بينك وبين أخيك وهو أكبر منك بعشر سنوات..

"أسطوانة مشروخة"، تعب منها وهي ترددها بلا توقف، هبلة لا تعرف معنى الغياب في حضرة الانتشاء..ثم مالبث أن قطب ازدراءا وهو يحاول أن يتحرك من سريره: يكره ان تقارنه بأحد، فهوعند نفسه رأس متفردة بروح تهيم في ملكوت اللذة..

"أخي !!.. وهل أخي يتمتع بالحياة؟ لايعرف الا المسجد والمتجر والجاموسة أختك، ثعلب !!."كم كان يستغل غيبوبة انتشائي ويتلذذ بالنظر اليك من خلف، كان مأسورا بقدك وجمالك، لم أرتح من نظراته اليك الا بعد زواجه من أختك المطلقة ورحيله عن بيت العائلة "...

لم يستطع الحركة، كل ما على الأرض من جاذبية تشده اليها.. لف سيجارة أخرى وهو جالس على جانب السرير، أخذ نفسا عميقا وكأنه يتنفس نسائم صباح بحري، زغب أنفه وأدخنة حشيشه تمنعان الهواء من أن يمر حرا طليقا الى دواخله.. طارت رشة نار من السيجارة فأتت على فخده، شعر بحرقتها القوية قبل ان يطردها بظاهر يده.. ثقب جديد قد انفتح في سرواله، وأطلقت زغيبات من فخده بخورها، وشم احمر إضافي على الفخد يضيف الى الباقة وساما جديدا!!..

تفو.بصق على الأرض وهو يحرك اصبعه في ثقب القميص؛

مرة أخرى صوت زوجته يخترق طبلة أذنه:

لا ادري من أي نوع صخري قدت رئتاك، وهذا القطران الأسود يعشعش فيهما !!..كل ملابسك صارت عيونا تطل على جسدك المحروق، ألاتنتبه لنفسك قليلا.؟؟!!.

ضحك في غباء و هو يردد مع نفسه: "اعرف انها لم تكن تخاف علي رئتي، ولا على جسدي أو تهمها ملابسي، خوفها صار من رجل لاينام الا غائبا ولا يصحو الا متثاقلا !!.. رجل لم يعد يحرك فيها ماتريد(يقهقه) ليس ذنبي، كثير من الرجال مثلي فقدوا قدراتهم الجنسية؛ "العاهرة عتيقة وحدها تعرف كيف تحيي موتانا، و"للي بغى يربح العام طويل "، لاشيء ورائي.

ـ رحمك الله يا والدي ما تعبت الا ليرتاح ابنك الصغير أما الكبير فهو شقي بالركض وراء تجارته والجاموسة التي استهوته بعد طلاقها. ماذا كان ينقص زوجتي؟ امرأة لا تحمد ربها، غيرها تتمنى قلامة من خيري تعيش بها، غبية هي لا تعرف غيبوبة المتعة فتحياها، لو طاوعتني لكنا معا نعيش سعادتنا بين طيات السحاب.. ليس المهم كم عشت، المهم كيف عشت؟!! وليس بالجنس يحيا الانسان، شرع يدندن:

أنا وانت ولا حد ثالثنا، أنا وانت وبس..

مع نغماته المتثاقلة تخرج متقطعة من بين شفتين سوداوين من أثر مايبرم ويدخن، سمع بطنه تغرغرمن جوع، تذكر انه لم يتناول أكلا منذ غذاء أمس، شرع يضرب على بطنه براحة يده وكأنه يهدئ من غرغراتها ؛ مذ غادرته زوجته ما عاد يجد أكلا جاهزا في البيت، وقلما يتذكر وهو عائد مع طلوع الفجر من خمارته، أن يشتري أكلا فقد ربط علاقة خصام بينه وبين الطعام الا ما يتناوله من لمجات صغيرة مما تقدمه الخمارة مع الخمر..

سمع رنات هاتفه، قام بتثاقل، نظر مليا الى الرقم، ابتسم، لم تكن غير محبوبته عتيقة عاملة الخمارة، تساله متى سيأتي الليلة..

يرتاح لهذه المرأة، تعامله كما يريد هو، لهذا يغدق عليها من ماله بلا حساب، رد بلسان ثقيل، وهو يستخرج الكلمات من بين شفتيه وكأنه يفك لفة خيط تشابكت خيوطها:

ـ اسمعيني، أنا تعبان، انت انهي اعمالك باكرا وتعالي الي، لاتنسي ان تجلبي معك شيئا للأكل وصندوقة من الذي على بالك...

صمت قليلا ثم تابع وكأنه يرد على تساؤل منها:

ـ آ.. موجود، عندي ما يكفينا الليلة..

عاملة الخمارة لم تكن غير احدى جارات الحي الجديدة، تعرف غناه مما ورثه عن أبيه، معرفتها بكل سكارى الخمارة وبتدقيق، صيد ثمين شرعت تتقرب منه بعد تطليق زوجته، وتسير حسب هواه، الى ان جرته الى خمارة تعمل فيها ثم تعينه على العودة ليلا متى لم يغرها سكير بمبلغ مالي كبير، تصل معه الى باب البيت وقد فقد القدرة على التحكم في نفسه. باتت معه ليلة واحدة، ثم اكتفت بمساعدته على الوصول للبيت لاتنصرف الا بعد تأكدها من انه قد اقفل الباب وراءه..

جر قدميه الى الحمام، دوخة تلف الراس، وغثيان يسحق معدته، كان الحمام يرمي روائح نتنة من قلة النظافة، اتكأ قليلا على الجدارعساه يسترجع توازنه.. رنات جرس الباب نبهته من غيبوبة.. من يكون الطارق،؟ ترك الجرس يمارس مهمته وانشغل بنفسه، كان يحاول أن يتقيأ عساه يخفف من ثقل راسه وأوجاع معدته، مرارة تصعد الى حلقه، فتح صنبور المغسل وشرع يعب الماء دفقات في جوفه.. ثم لم يلبث ان يفرغه زعاقا أصفر، جلس على أرضية الحمام ثم اتكأ على المغسل..غاب... لعلها دوخة الجوع وكثرة التدخين، لا احساس بالمكان..

لايدري كم مكث في الحمام وهو نائم على الأرض، وجد نفسه أقل ثقلا مما كان، على الأقل يميز ماحوله.. جر قدميه الى البهو، بدا يعد دقات ساعة حائطية عتيقة مما لم تستطع زوجته حمله ؛ اثنتا عشرة دقة بالتمام والكمال تعلن منتصف الليل، الجوع ينهش بطنه.. حاول أن يبرم سيجارة لكنه تراجع.. يريد اكلا.. بعد أزيد من ساعتين اقبلت عاملة المقهى محملة بما طلبه منها، كانت ترتدي قميصا ابيض بنصف كم وسروال من جنز مقطوع من الركبتين وتحت الحزام، منها كانت تفوح رائحة دخان نفاذة، طريقة المساحيق على وجهها وكحل عينيها تؤكد مهمتها كبنت ليل، اتكأ عليها وهما يخطوان الى البهو بعد أن فتح لها الباب، لثم خدها:

ـ توحشتك واشتهيتك..لماذا لم تعاودي إحدى لياليينا الماضية؟

ضحكت في سرها وقد نظرت اليه نظرة ذات معنى وقالت:

ماذا ينقصك يا العريان؟...

قبل أن تهيئ له أكلا، قامت بجولة في البيت رصدت بعض الأركان بنظرة، نظفت المطبخ من أزباله، لاحظت أن كل أوانيه متلاشية أو متناثرة، فالزوجة لم تترك له في البيت الا ما تهرأ وتلاشى وعافته النفس..

أكثر من فكرة راودتها وهي تجول بين أركان البيت، لم تترك مكانا لم تنبش فيه، أتاها سعاله الحاد، فبادرت الى حمل صينية الاكل وأسرعت بها اليه، حين شرع يأكل قالت له:

ـ لم تترك لك زوجتك في هذا البيت الا ماتردى و عافه الضبع..

ضحك لتعبيرها وقال: كانت تتوهمني ضبعا كأبيها، هي لاتعرف أن عبقرية الرجل ليست في سريره ولا لباسه، وانما في ماله، و لحظة غيبوبة تحققها لفة حشيش، وكاس خمر، فيصير فيلسوف لحظته، يفسر الدنيا على هواه وحسب مايعجبه هو، لا ما يروق لغيره، لم تفهمني أبدا كما فهمتني أنت.. مستبدة، ارتحت منها ومن تحقيرها الوسخ.. لئيمة لم تترك مانعا للحمل لم تستعمله، تدعي انني وسخ ولا تريد أبناء يعيشون في الوسخ، هل انا وسخ؟

أدركت أنه دخن ما يكفي من حشيش قبل مجيئها فشرع يهلوس..بعد كل لقمة يضعها في فمه كان يتبعها بقنينة جعة ؛ كانت تشجعه على الأكل ومزيد من الشرب.. التفتت يمينا ويسارا كأنها تبحث عن شيء..قالت له:

اين الصندوقة، أشار بيده الى زاوية في غرفة نومه..هبت واقفة، دخلت الغرفة، قامت بجولة متفحصة بين كل الأركان، ، حتى سريره فتشت ما تحته، لاشيء مما يجول في خاطرها، كانت صندوقة الحشيش فوق منضدة صغيرة، تحتها لمحت ورقة زرقاء جديدة ملتصقة بالجدار من فئة مائتي درهم، ملتفة على نفسها، مدت يدها فأخذتها ووضعتها في الجيب الخلفي لسروالها..

اقبلت عليه، تركته يتابع أكله، وشرعت تبرم سجائر كمزيد من زاد لما تبقى من الليل، بدأ يتملاها وهو يضحك، ثم يميل براسه على كتفها فيلثم جيدها..

اِشرأبت برأسها قليلا وهي بجانبه لتتأكد من انه لم يرها من جلسته حين كانت تضع الورقة النقدية في جيبها.. قالت: مايضحكك؟

رد بعد سعال: كنت أتمنى لو كانت لي قدرة فأعيش ليلتي معك كما أحب؟

قالت وقد نومت عينيها ووضعت يدها على فخده كأنها تثيره:

- وما يمنعك؟ اساعدك كما المرة السابقة..

-أخشى مافعلته زوجتي بي قبل ان أرمي عليها يمين الطلاق:

ـ وماذا فعلت بك زوجتك؟

سخرت مني، عيرتني بفشلي، ركلتني اللئيمة برجلها احتقارا، واسقطتني من السرير الى الارض، ثم قالت:

"جفافة ديال مسيح الأرض"،.. هل انا جفافة حقا؟ أثق بك قولي...

ادركت معاناة زوجته معه، هو رجل غني حقا، لكنه بلا قيمة، بلا إرادة ولا شخصية، نخره الحشيش وفسخ الخمر دواخله، لا انثى تحتمله الا اذا كانت صاحبة مصلحة مادية..

ناولته لفافة، بعد أن اشعلتها.. أخذ نفسا عميقا، تراجع برأسه الى الخلف وكأنه قد غاب عن وعيه، بادرته بقنينة من الجعة قبل ان يعاوده سعاله، استقام في جلسته وصار يغني:

هذه ليلتي وموت رجولتي

أدركت انه يحس ضعفه، وما يغلي في أعماقه هو فقدانه لرجولته قبل الأوان، ماعادت له قوة للعودة ولا إرادة، صار عبدا مملوكا طيعا لسيجارة يبرمها بعد ان يملأها سما، أتى على رجولته بالكامل، ورغم ذلك فهو يكابر، يتملص من الوقوف امام نفسه، فيخالف لها رغبة.. كبره أبعده عن الحياة ومتع الحياة التي هي أحسن بكثير مما استحوذ عليه وصار له هوى وحيدا متفردا يطويه بلا فكاك.. حين ينسلخ الانسان عن الحياة تموت خبراته ثم تموت ارادته..قطع كل علاقة بعالمه الخارجي، حتى الزوجة تخلص من تبعاتها لأنها تعارض هواه المتحكم فيه، لم يعد وفيا الا لقبضة الحشيش وقد تمكنت منه وازدادت قبضتها عليه بعد موت أبيه..

شرع يهذي، تكلمه فلا يرد عليها، يرفع صوته بإعادة المقطع بصوت يزداد تثاقلا..كانت تريده أن يغيب اكثر ففتحت له قنينة خمر مما يحب، سقته كاسين مترادفين، اتبعتهما بلفافة ثخينة من الحشيش..

كانت عيناها تجول في البيت وفكرها شغال، تنتظر فقط غيبوبته الكلية عن الوعي لتبحث في الأماكن التي رصدتها، مد يده اليسرى اليها يطلب كاسا ثالثة، هوت يده وهي تناوله الكاس فطارت شرارة من سيجارة كانت بين أصبعين من يمناه، تحركت هي بسرعة فتعثرت بقنينة الخمر، تكسرت وقد اندلق مافيها على الأرض، هوت على وجهها فانغرست شقفة في عينها اليمني، اشتعلت النيران، بسرعة امتدت في اللحاف الاسفنجية، حاولت ان ترى ما حولها، دمها الفوار من عينها و أعمدة من الدخان تحجب عنها النظر، تفقد قدرة التمييز، لا تقوم الا لتهوي متعثرة في ما تبعثر على الأرض من زجاج وورق،. النار تمتد في البيت، تأكل بنهم كل ما فيه من لحاف أسفنجية يتطاير شررها.. يشتد سعاله من اختناق، هرج ومرج من خارج البيت وقد اندلعت ألسنة النيران..

حين أتى رجال الإطفاء لم يجدوا الا الرماد، وأثر من جسدين متفحمين في بيت بدأ يتهاوى سقفه بعد جدرانه ثم خزانة حديدية كبيرة لفظها جدار البهو.

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم