نصوص أدبية

علي فضيل العربي: الثائـرة

الإهداء: إلى الشعب الجزائري الأبيّ، بمناسبة الاحتفال بعيد النصر 19 ( مارس 1962 م.)

استلقت على أوراق الأشجار الميتة.. ثم استندت بظهرها على جذع شجرة صنوبر وهي ترنو بعينين ذابلتين، متعبتين إلى صالح الذي جلس قبالتها يسترجع أنفاسه... أحست بالوهن يسري في أقاليم جسدها النحيل نتيجة طول السير. والدروب الوعرة التي سلكاها منذ الفجر. قالت والسكون يبتلع الغابة:

-" أمازالت الطريق طويلة أم ,,,؟ "

قاطعها وابتسامة تطفو على شفتيه:

- لا تقلقي يا ابنة العم.. سنصل قبل مولد الفجر إن شاء الله "

- لا. لست قلقة.. أنا مشتاقة لرؤية الثوار.."

وبعد صمت لم يطل أردف صالح:

- سنرتاح بعض الوقت ثم نكمل المسير فالدرب وعر. سنضطر إلى الصعود والنزول مرات عديدة.. وأنا أخشى عليك من صعوبة المسلك..."

- كن على يقين يا صالح أنني لن أتعب.. كل شيء يهون من اجل الوطن.. المهم أن نصل

كذلك رددت بنبرة تشع حماسا لا حدود له

لحظتها كانت الشمس تجمع أشعتها الذهبية معلنة الرحيل.. بينما راح المساء ينشر نسائمه الحلوة، الطرية على أشجار الصنوبر والعرعار والبلوط دون ادني جلبة.

عاشت نعيمة يتيمة.. لم تدخل المدرسة قط... ولم تزر الفرحة قلبها يوما رغم أن الدهر قد قضم من عمرها تسعة عشر ربيعا... ترعرعت متعبة... ضامرة البطن.. ذابلة العينين... محرومة من البسمة.

شيعت والدها في ربيعها الثامن.. لم يزل ذلك المشهد الدموي الرهيب نابضا أمام عينيها.. وهي تراه غارقا في لجة دمه بعدما اخترقت صدره رصاصات المعمرين اغتالوه وهو العائد من حرب لا ظفر له فيها.. كان عليهم أن يقلدوه وساما ويستقبلوه بالورود بدل الرصاص بعدما قاتل إلى جانبهم دفاعا عن بلادهم.

لقد بكت نعيمة , حتى كادت تفقد بصرها..

سألت والدتها:

- لماذا قتلوا أبي يا أمي "؟؟

لكن الكلمات احترقت في الحلق... فاضت دموع والدتها انهارا وسواقي... أجابتها بعد طول إصرار قائلة:

- عندما تكبرين ستعرفين لماذا قتلوا والدك.. ستنكشف لك الحقيقة دون زيف:

و بعد تسعة عشر فصلا دمويا.. أدركت نعيمة لماذا قتل الغزاة والدها الذي حماهم من كيد النازية وشراستها.. وبانت الحقيقة دون زيف كما قالت لها والدتها ذات يوم.. أيقنت أن هذا الهم الرابض بكلكله على صدر وطنها كالطود العظيم لن تزيحه سوى طلقات البنادق العطشى وسيول الدماء الطاهرة. وأقسمت أن تلتحق بالثوار , وتجاهد معهم جنبا إلى جنب حتى تنال الشهادة أو تعيش عزيزة مكرمة.

قالت لها أمها عندما أخبرتها بقرار الالتحاق بالثوار رفقة ابن عمها صالح:

- حياة الجبال صعبة يا ابنتي وأنت لم تتعوديها..."

- سأتعودها يا أماه.. وأنتقم لأبي الشهيد..."

- وماذا ستفعلين هناك... الثوار في حاجة إلى رجال أقوياء.. لو كنت متعلمة لأصبحت ممرضة كابنة الجيران جميلة..."

بعد أن نالا قسطا من الراحة.. واصلا المسير في لجة الظلمة التي صيرت الغابة كتلة واحدة. راحت نعيمة تحث الخطا وتقفز كأرنب بري. لم تشعر بالتعب رغم الصعود والهبوط والتواءات الطريق.

أما صالح الذي قارب الثلاثين من عمره فقد كان يسير أمامها بجسد نحيل.. وعينين براقتين، ثاقبتين.. وقلب ينبض بحب عارم لوطنه الذي ملأه الغزاة سجونا وقبورا ومنافى.. وزرعوا قلوب وعيون الأبرياء أحزانا ودموعا وسدرا.

لقد ترك دراسته الجامعية.. والتحق منذ سنة تقريبا بالثورة.. لم يطق العيش وسط لقطاء يسفكون دماء شعبه المقهور.. وهاهو يقفز بخفة وهو قابض على بندقيته ملء يديه.

عند محطة الفجر وصلا قاعدة الثوار.. استقبلهما القائد وهو يشتعل حماسة وإيمانا وحبا.

سألها وهم يلجون المركز:

- من أين قدمت؟.

- من العاصمة..

- كيف هي الأحوال هناك؟

- سيئة جدا.. كل يوم يعتقلون الأبرياء.. ويعذبونهم أشد العذاب.. لقد أعدموا بالأمس بعض المعتقلين...

ردد القائد وهو يضرب بمجموع قبضته على ركبته اليمنى:

- الأوغاد.. الجبناء.. سنكنسهم إلى الجحيم..

وفي الجبل تعلمت نعيمة القراءة والكتابة.. ولبست البذلة العسكرية وحققت أمنيتها التي طالما حلمت بها.. وبعد مدة صارت ممرضة تداوي الثوار الجرحى بأناملها الطرية ونظراتها الممزوجة بالأمل.

أحست أنها ولدت من جديد.. وشعرت بلذة العيش وطيبة الحياة.. وهي تحيا بين أبطال مدججين بحب الوطن.. همهم الوحيد تطهيره من الكلاب المسعورة..

{تمـــــت}

***

بقلم: الناقد والروائي علي فضيل العربي – الجزائر

في نصوص اليوم