نصوص أدبية

نضال البدري: صباحات بلا معنى

مع تباشير الفجر يتنفس الصبح على صوت ضرب كفوف سعدية وهي تطوع الشنكة (العجينة) وتحولها لقرص مستدير ساخن تملأ رائحته منزلها والمنازل المجاورة لها، ومزيج من روائح الحب ودعوات امها التي كانت تجلي عن روحها الهم والتعب. ومع وجود جاراتها اللواتي ادمنت معهن الحديث والحكايات وهن يتجمعن حول دفء تنورها القابع في احدى زوايا حديقة المنزل. كانت تشعر بالرضا عن نفسها نوعا ما، بالرغم من قسوة الحياة وثقل المسؤولية التي ألقيت على عاتقها خصوصا بعد ان غادرتهم زوجة اخيها المتوفى، وقررت الزواج برجل تقدم لها، وتركت لهم ولدين مازالا بحاجة لمن يرعاهم. فكرت كثيرا بهذا الامر وهي تنظر الى طفلين بحاجه الى رعاية واهتمام وشعور اتجاههما يقول بانها اصبحت بالنسبة لهما الاب والام والعمة.."

تمتلئ الحياة بالمنغصات ولعل الفقر من اهمها ويصبح اشد صعوبة على البعض رغم انه يخلق صلابة للشخص نوعا ما، هكذا كانت تبرر لنفسها واقع الفقر الذي تعيشه. وهي تطبع القبل فوق جبين اختيها الاصغر منها سنا وتعبد لهما طريق الدراسة التي تفانت من اجل يكلل بالنجاح كي لا يصبحن نسخة مكررة منها وتكسوا حياتهن وثيابهن حبات الدقيق. لم ينل التعب وحرارة تنورها من جمال شكلها ووجهها فمازال الخطاب يطرقون بابها، لكن ذلك الجمال مصيره الى الزوال هكذا حدثت نفسها وهي تطوع الشنكة التي ذكرتها بثديها الذي أصبح أكثر طراوة وذبولا منها. وما زاد من قلقها أكثر هو تقدمها بالسن دون أن تشعر في خضم حياتها المثقلة بالمسؤوليات.

في أحد الايام شاءت الصدفة ان تطلب احدى جاراتها يدها للزواج من أخيها الارمل، ابتسمت في سرها وارتشفت كوب الشاي سريعا وغمرتها سعادة كبيرة حاولت ان تخفيها قائلة لها: امهيلني يومين لأفكر، شعرت ان الوقت أصبح مناسبا بعد ان كبر ابناء اخيها واشتد عودهم وتفوقوا في دراستهم، واشتدت سعادتها عندما كانت عندما تسمعهم ينادونها يمه. واختيها اللتين قطعتا شوطا كبيرا في حياتهم الدراسية وأصبحن على مشارف التخرج من كلياتهن، شعرت بانها قد ادت كل ما عليها من التزامات عائلية اتجاههم وعليها الالتفات الان لنفسها فنداء الامومة نداء قاس يداعب خيال أي امرأة، لذا كان عليها ان تخبر والدتها بموضوع الخطيب هذا وتشاركها الراي والقرار فيه، لكنها تفاجأت برد صادم من امها عكس ما كانت تتوقع حين قالت لها: انت كبرى اخواتك وأنت من يقوم على خدمتنا وانا امرأة مسنة، يجب ان تكوني اخر من يفكر بموضوع الزواج هذا، ماذا اصابك اين عقلك؟ هل ترغبين برجل يطفئ النار المتأججة داخلك ويبعدك عنا؟

ارتفع صوتها بوجه امها قائلة: لم يزدني العقل سوى بؤسا، لم يعد أحد بحاجة لي، اود ان اتزوج ويكون لدي طفل كباقي النساء، أتمنى أن تشعري بي وتعامليني بالمثل كما تعاملين اخواتي. على إثر ذلك علا صوت اختيها، اللواتي لم تكن ردة فعلهن اقل من والدتها، رفضن بشدة بل ان احداهن كانت قاسية جدا وقالت: لها بصلافة لم تكن تتوقعها، دعك من هذه الاحلام التي لا تليق بمتصابية عجوز مثلك. وقفت عاجزة مذهولة تشعر بالإحباط والحزن الشديد، تذكرت بقسوة تلك الايام الصعبة التي عاشتها، وهي ترعاهم فهي لم تبخل على اختها بشيء. اصيبت بالحزن وشعرت بانكسار في داخلها، كان الارق رفيقها في تلك الليلة التي مرت طويلة، وشريط الذكريات المليء بالتضحيات يسير امامها يشعرها بالخذلان سبب ردة فعل تجاهها. لم يمر ما حدث عليها بسلام ففي اليوم التالي وعلى حين غفلة شعرت بالدوار، وان نبض قلبها أصبح ضعيفا، وفجأة وهي تقف خلف صفيح تنورها الساخن سقطت على الارض وفقدت وعيها افاقت بعدها لترى انهم قد نقلوها الى المستشفى وأنها محاطة بجمع من الاطباء، يبدو انهم كإنو متأكدين من خلال تحاليل الدم التي اجريت لها، بانها مصابة بمرض السكري المتقدم وسمعت والدتها راي الاطباء بصمت وانهارت في البكاء.

سرعان ما نطفئ بريق عيناها وبدت أكبر من سنها بكثير، وأصبحت تصارع المرض والعنوسة معا وغاب صوت كفوفها ولم يعد للصباحات اي معنى شعرت بأن الحاجة قد انتفت اليها، بعد ان اقعدها المرض وتبوأت مكانها الجديد لتجلس جنب الى جنب مع امها. شعرت وكأنها انضمت لكبار السن وغيرت الحياة مسارها معها. بنت قنطرة الاحلام بينها وبين المستشفى، التي أصبحت شغلها الشاغل حتى حديثها تغير وبات يتمحور حول السكري ومضاعفاته والتي كانت تتداوله مع المريضات ممن يعانين من نفس المرض الذي كشر عن انيابه و بدء ينال منها بشكل تدريجي، بدء بجفاف الجلد ووخز ابر الأنسولين التي تركت اثارها على جلدها الرقيق وبشرتها، تسلل الجفاف بصمت لينال من اسفل قدميها الذي تيبس وزادت التشققات فيه، واظافرها التي بدأت تطول وتتقوس كمخالب قط، رغم حرصها الشديد على الاعتناء بها الا أنها وقعت في غفله بعد ظهور تعفن في اصبع قدمها الكبير، لم تشعر به الابعد ان انتشر الى باقي قدمها الذي اصطبغ فجأة باللون الازرق، اخذتها الحيرة والقلق والتفكير في الذهاب الى وجهتها الوحيدة، وهي المستشفى ودهاليزها التي انتهت بها في صاله العمليات وايدي الممرضات وهن يثبتنها في مكانها وكمامة الاوكسجين التي راحت تسرب المخدر الى باقي جسدها، وصوت يقول لها عدي حتى العشرة ....

***

نضال البدري

 

في نصوص اليوم