نصوص أدبية

ناجي ظاهر: جبل الاسف

جرى لقائي الأول به في بيته القائم فوق الجبل تحت الاشجار، كنت يومها في زيارة لصديقي، أخيه الاصغر، وبما أن أخاه كان مسافرًا، كان لا بدّ لي من الجلوس إليه ومشاركته شرب فنجان القهوة العربية الاصيلة، كما تقتضي العادات والتقاليد. بسرعة كبيرة تمّ التعارف بيننا، في البداية جرى الحديث عن الربيع الاخضر، بعده انتقل بمبادرة منه، لا أعرف كيف.. للحديث عن الخريف، وعبثًا حاولت أن أحدّثه عن الربيع، فقد كان يمتلك قدرةً هائلةً على جرّي إلى ما يحب من حديث خريفي أصفر، وأعترف أنه جرّني إلى خريفه، فأقمت معه وإلى جانبه فيه طوال تلك القعدة، وقد كان بإمكاني أن أنصرف عنه بسهولة.. لما فاض به من أفكار سلبية من شأنها أن تدمّر جبلًا راسيًا.. وليس كاتبًا مبتدئًا مثلي فقط، غير أن حبّي لارتياد مجاهل النفس الانسانية دائمةَ الغموض شدّني إليه، وجذبني إلى أقراص ابتسامته الدافئة الحنونة. هكذا بإمكاني القول إن لقائي الاول به كان مصادفة، أمكنني الانصراف عنها ومغادرتها إلى لا رجعة، إلا أن لقائي الثاني به كان عمدًا وقصدًا وحبًّا في المغامرة، التي يحتاج إليها كلّ انسان مبدع وعاقل، فكيف أذا كان هذا الانسان كاتبًا في بداية طريقه.. من قرية مهجرة وتضيق بأحلامه ربوع بلاده؟

في الفترة التالية لعلاقتي به، لاحظت أنه مجبول من طينة غريبة، فيها كلّ ما تريده وترغب فيه النفس وعكسه، فهو طيّب وشرير في الآن وهو عازف عن النساء زاهد فيهن وفي الآن ذاته مقبل مجنون بهن!! أما بالنسبة لي فقد اكتشفت أنه عاشق متيّم بي وكاره رهيب لي في الآن ذاته، بل إنني كثيرًا ما ألقيت القبض عليه خلال محاولته سرقة بعض من أحلامي.. وأصدقائي المقرّبين، إلا أنني سامحته لإيقاني أنه إنسان غير مُضرّ، وأن كلّ ما يفعله ويقوم به إنما يُدخل نفسَه فيه دون إرادة منه، ورغبة في إثبات الذات في عالم.. أعرف أكثر من سواي أنه يسحق أكبر ذات إذا أمكنه، كما سحق العملاق جولييت الجبار نملة.. تائهة عاشت في جواره.

لم يكن صديقي هذا يُحبّ العمل، وكان من الصعب وأكاد أن أقول من المستحيل عليه، أن يتواجد في مكان واحد أكثر من ساعتين، بعدهما كان يبدأ في الغليان، إلى أن يخرج منه- من المكان- كما يخرج العريس من بيته، وقد وجد بما اتصف به من حيلة مُضمرة وخبث موارى، أن يعثر طوال الوقت على من يعيله ويقدّم إليه كلّ ما نَشدَه وطلبه على طبق من صبر وتضحية. وحدث بعد معرفتي به أن قمت بنشر عدد من القصص، فاتصلت بي إحدى القارئات واقترحت عليّ أن ازورها في قصرها الفاره، القائم في أعماق البلدة القديمة من مدينتي الاثرية التاريخية الحضارية الناصرة. خلال زيارتي لها، فهمت أنني مهجّر ومعتّر في الآن ذاته، ولا أجد المكان الملائم لمواصلة كتابة القصص الحبيبة.. العزيزة على قلبي وحياتي. عندها أرسلت نظرة واسعة نحوي، وارفقتها باقتراح نادر، أعتقد أن جبران خليل جبران هو الوحيد الذي حظي بمثله في أدبنا العربي من بطلته الاجنبية ماري هاسكل. اقترحت عليّ تلك الفاضلة أن أقيم في إحدى غرف قصرها وأن أتفرّغ لكتابة القصص، وهي ستتكفّل بمقامي ومعاشي.. فرحت بالاقتراح، وشرعت في الكتابة مثل مجنون عثر على عقله فجأة.. وعلى غير توقّع. أعترف هنا أن ما حظينا به، أنا وقصصي، من اهتمام لفت انظار القراء في بلادي وفي عالمي العربي أيضًا، إنما كان بفضل تلك الفاضلة أطال الله في عمرها وكثّر من أمثالها.

مثلما يحدث عادة في الحياة.. والقصص أيضًا، ما إن نبه اسمي حتى اتصل بي صديقي إياه، وتحدّث عما قمت بنشره من قصص في الفترة الاخيرة، والجِمال تشيل، وكان من الطبيعي والذوق السليم، أن أدعوه لزيارتي حيث أقضي جلّ وقتي. لم تمض سوى دقائق حتى شعرت بطرقة قوية على باب غرفتي، هرعت إلى الباب وفتحته برقة كاتب قصص.. كان هو يرسل ابتسامة نحوي، وإلى جانبه السيّدة صاحبة القصر.. أما هو فقد دخل غرفة الكتابة وأما هي فقد استأذنت لإعداد القهوة العربية الأصيلة.. احترامًا وتقديرًا لضيفنا العزيز.

بسرعة متوقّعة اتخذ مجلسه قُبالتي، وراح يرسل إليّ نظرات غامضة فسّرت نفسَها بنفسِها بعد وقت قصير من دخوله الغرفة. في البداية أجرى تحقيقًا موسّعًا معي عن العزّ الغامر المحيط بي، فأجبته بمحبة صديق، بعدها تحوّل إلى الحديث عمّا نشرته من قصص منذ أتيت إلى تلك الغرفة في ذلك القصر، ولا أعرف كيف زحف كعادته قالبًا لي ظهر المجن، وبدلًا من أن يواصل مديحه لما كتبته وأنتجته في أعماق القصر، راح يكيل لي النقد ويصف كتاباتي بأنها نمطية، وبأنني يجب أن أخرج إلى آفاق أرحب من العالم، لأكتب عن تجارب أوسع وأرحب. أعترف أن انتقاداته هذه لم تكن الاولى، فقد سبق وطرحها في لقاءات أخرى ماضية وسبق لي وأجبت عنها بأن الانسان الكاتب المبدع قد يرى الله في أصغر الامكنة وأضيقها!!

دخلت علينا، في تلك الاثناء، صاحبة القصر، وبيدها صينية وعليها غلاية قهوة وإلى جانبها ثلاثة كؤوس، وضعت الصينية على الطاولة أمامنا، ولا أعرف ما الذي دفعني لأن أطلعها على انتقادات صديقي لي..، ما إن سمعت صديقتي ما قلته لها، حتى اشرأبت برأسها، وتوجّهت إلى صديقي ذاك مثل لبؤة تعرّض شبلها لخطر مُحدق، ونفرت به قائلة ما مفاده إن هذا الرجل، وأشارت إلى، يخصّني، ومضيفة انني سأقوم بسحق كل من يتعرّض له أو يُعرّض بكتابته، وأنهت قولها الغاضب بقولها: يكفي انني أنا أعرف قيمة ما يكتبه كاتبنا النصراوي المبدع.

ما إن نطقت بقولها الاخير هذا، حتى رأيت صديقي يستأذن في الخروج، ويولّي مثل طائر رُخٍ أتعبه السفر من الف ليلة وليلة إلى أعماق الناصرة، كان يبدو حزينًا.. في ذروة الحزن، وعبثًا حاولت أن أفسر حزنه، هل دفعه إليه مقارنته بين وضعه، وبين ما صارت إليه أموري من انتعاش، هل شعر أنه أهين أمامي، وأنني لم أدافع عنه كعادتي، هل وضعته تلك المرأة صاحبة القصر، أمام فشله المزمن وجهًا لوجه، فلم يطق نفسه وهرب منها ومني.. من القصر.. ومن.. وقبل أن أنطق كلمة: الناصرة، انتابني شعور أنه قد يخرج فعلًا من الناصرة وأن تلك ستكون المرة الاخيرة لرؤيتي إياه، عندها جنّ جنوني وطرت وراءه مثل طائر رخ آخر. أرسلت نظرة متفحّصة متمنّية أن تجري أموره بسلام، وبعيدًا عن كلّ توقّع قريبًا منه، رأيته هناك يجلس تحت إحدى الاشجار العارية، ويضع رأسه بين يديه. كان أشبه ما يكون بكومة من الحزن طلعت من أعماق الارض لتتخذ مكانها تحت تلك الشجرة. تقدّمت منه بخطى حافلة بالمحبة والتسامح، وضعت يدي على كتفه بشعور مبلّل بأحاسيس الفقد والخسارة المتوقّعة، وقلت له إنني لا أريد شيئًا منه وإنه إذا كان يسره أن أترك غرفتي في ذلك القصر وأنطلق معه في طريق العودة إلى الشارع فإنني سأفعل. عندها رفع رأسه وأرسل نظرةً مرفقةً بدمعة مَن فشل في كل شيء، وربّت على كتفي قائلًا عُد إلى غرفتك.. عُد إلى هناك.. فهناك مكانك الصحيح. في تلك الغرفة وبين جدران قصصها.. ومضى في طريقه محنيّ الظهر.. وكأنما هو يحمل جبالًا من الأسف.

***

قصة: ناجي ظاهر

 

 

في نصوص اليوم