نصوص أدبية

راضي المترفي: لعبة القدر

بعد أن أنهى الدراسة في كلية العلوم سيق لكلية الضباط الاحتياط لأداء الخدمة الإلزامية وتخرج منها برتبة ملازم مجند ونسب إلى مدرسة القتال في الديوانية ورغم أنه لم ير مدينة الديوانية سابقا إلا أنه حرص على السؤال عنها ومعرفة أحوال أهلها وكيفية التعامل معهم من معارفه الذين لهم اطلاع على أحوالها واعتبر تنسيبه للعمل فيها خلال خدمته الإلزامية فرصة للتعرف على أحوال أكبر مدينة في الفرات الأوسط وتمنى أن يتعلم من أهلها ما اشتهروا به (الحسجه) .

. اعتاد سريعا على جو المدرسة والتدريبات العسكرية فيها وكون شبكة علاقات صداقة مع الضباط والجنود إذ كان حريصا على أداء واجباته التدريبية والشؤون الأخرى وكان متعاونا فحظي بمحبتهم وتلقى عدة دعوات للزيارة في بيوتهم وتعرف على المدينة وبعض احيائها بشكل جيد وذات يوم دعاه زميل ملازم أول إلى بيته على طعام عشاء في حي المعلمين فقبل الدعوة شاكرا واتفق معه على اللقاء في أحد مقاهي الحي قبل موعد العشاء بأكثر من ساعة وأثناء جلوسه في المقهى كان يراقب المارة ويعجب بالزي العربي الخاص بالمدينة حيث يضع رجالها على رؤوسهم (عقال) تتميز به الديوانية عن غيرها من المدن وأثناء هذه المراقبة مرت شابتان جميلتان بزي حضري جميل ودقق بملامح اطولهما فكانت زميلته في الكلية والقسم حسيبة حميد الجاسم فهب واقفا بقصد إيقافها والسلام عليها لكنه تذكر أن بغداد غير الديوانية فتوقف عند باب المقهى ملاحقا بنظره تلك الزميلة التي تركت سيرة حسنة في الكلية لمدة أربعة أعوام دراسية .

. في هذه الأثناء وصل صديقه فاتجها سيرا على الاقدام وفي منتصف الطريق وجدا الفتاتين بنفس الاتجاه فرمى عليهن صديقه السلام وحياهن بحرارة وقدمه لهن باعتباره صديق ورفيق سلاح وعرفه باسمائهن هنا ابتسم هو وابتسمت حسيبة ومدت يدها مصافحة وقالت: نزار عبد الكريم جواد زميلي في كلية العلوم وفي نفس القسم لأربع سنوات اهلا بك في مدينتنا الديوانية .

. في الطريق تحدثا عن ذكرياتهما في الكلية وكبريائها الذي وصل حد الغرور إذا لم تشارك الطلاب في اي فعالية خارج الدروس ولم ترتبط بأحد وصراحتها ووضوحها وحصر وجودها في الكلية على تلقي العلم فقط فلم يقترب منها أحد الطلاب ولم يكن لأحد معها غير الزمالة والاحترام بعدها أخبرها أنه يؤدي خدمته العسكرية في الديوانية وهو اليوم في زيارة لبيت صديقه وأخبرته هي أنها عينت مدرسة وتقضي فترة التدريس في القرى والأرياف الآن في منطقة ريفية من نواحي منطقة الدغارة ثم توادعا عند باب بيت مضيفه على أمل صدفة أخرى لكن صديقه دعا حسيبة للعشاء باعتبارهم جيران فتشكرت واعتذرت ودخلت الثانية البيت فعرف أنها اخت صديقه .

. عندما عاد إلى مكانه كانت حسيبة تشغل كل تفكيره بجمالها الأخاذ وشجاعتها كامرأة متعلمة وكبريائها واعتدادها بنفسها وتمنى لو أن الوضع هنا يكون أفضل انفراجا من جو الكلية ويستطيع مفاتحة حسيبة ومعرفة رأيها به لو تقدم لخطبتها من أهلها لكنه لا يعرف ظروفها وهل للعلاقات العشائرية سطوتها حتى على خريجات الكليات أو لا وسهر أغلب ليلته بحثا عن حل يصل به إلى ضفاف حسيبة وخطبتها والاقتران بها وتكوين أسرة حتى داهمه النعاس .

. إعادت صدفة لقاء نزار في نفس حسيبة ذكريات ايام الكلية وسنواتها وكيف حددت نفسها بتصرفات مشددة حيث لم تشارك الزملاء جلساتهم وسفراتهم ولم تقهقه أمام أحد قط كما لم تساير الموضة وكانت مثال للاحتشام والعفة طوال تلك السنوات لكنها تساءلت وماذا بعد كل هذا ؟ ألم يحن أن يكون لي زوج وبيت وأسرة؟

هل اتزوج على طريقة امي وجدتي وانا المتعلمة ؟

ثم قالت لنفسها كان نزار طيلة أيام الدراسة شابا مؤدبا لم تسجل عليه شائبة من أحد وعلى حين غرة سالت نفسها .. لو تقدم نزار لخطبتك هل توافقين به ؟

فضحكت ساخرة من نفسها ودست رأسها في وسادتها .

. منذ دعوة العشاء ونزار يتغير كل يوم وتظهر عليه اعراض الشرود وكثرة التفكير والإهمال لنفسه وقلة الأكل ففطن له صديقه وطلب منه الخروج معه في نزهة في المدينة بعد الدوام لكنه مانع في البداية وفي الاخير رضخ لامر صديقه وفي زاوية مقهى غير مكتظ طلب منه صديقه أن يبوح له بمشكلته عله يستطيع مساعدته لكنه رفض وبعد الحاح اشترط نزار على صديقه القسم بالكتاب المقدس على أن يبقى الأمر سرا بينهما فاقسم صديقه وصغى له بمحبة أخ فأخبره بحبه لحسيبة وعجزه عن إيجاد طريق لمعرفة رأيها بالزواج منه هنا تهللت اسارير صاحبه وأخبره أن الأمر ليس بتلك الصعوبة وحسيبة جارتي مذ كنا أطفال وأبوها رجل متعلم متفهم لكن حسيبة ذا شخصية قوية وصريحة ماذا لو رفضتك ؟

إذا كان رفضها مبرر سأعيش اليأس فترة واعرف أنها ليس لي بعدها ربما اشفى من حبها مع علمي أنها لم ترتبط بأحد طيلة أعوام الكلية ..

طيب امهلني يومين ولا تسألني ماذا سأفعل فقط تذكر اني أقسمت لك على سرية الموضوع .

. في اليوم الثالث دعاه إلى بيتهم ولم يسمح له بالرفض أو الاعتذار وأخبره أن هناك مناسبة في بيتهم وهو ضيف الشرف وعليه أن يكون نزار الذي عرفه اول مرة من شياكة وأناقة وحسن تصرف واختيار المفردات وفي المساء كان البيت يزدحم بالضيوف ومن ضمنهم حسيبة وأبوها وكانت المناسبة عيد ميلاد اخته وشعر نزار بالحرج إذ جاء من غير هدية للمحتفى بها لكن صديقه اجلسه وطلب منه مفتاح سيارته وخرج لحظات وعاد مسرعا وبيده علبة هدايا فاخرة وأعلن أمام الجميع عن هدية صديقه نزار عبد الكريم جواد وفتح العلبه أمام الحضور وطلب من نزار أن يقدمها بنفسه فكانت اغلى هدية قدمت في الحفل وسط انبهار الجميع وظن البعض أن نزار سيعلن خطوبته على المحتفى بها .

. دارت حوارات جانبية شارك فيها نزار مع حسيبة منفردا ثم عرفته على أبيها وتحدث مع آخرين ثم طلب بعض الحاضرين من نزار أن يبين لهم كيف رأى مدينتهم وهل يفكر بعد انتهاء خدمته العسكرية أن يتزوج من امراة ويعيش في المدينة؟ فوقف نزار شاكرا الجميع وأخبرهم أنه ليس غريبا عن المدينة وانهم يشاركونه اليوم الاحتفال بعيد ميلاد اخته وهو المضيف وبخدمة الجميع فهناه الجميع بحرارة وصفقوا له وهنا سأله صديقه .. وماذا بعد ؟ فقال

كل خير ان شاء الله

فاضاف ابو حسيبة القصد هل اخترت فتاة من الديوانية ؟

. نعم بكل تأكيد ياعم

. وهل فاتحتها؟

. ابدا والله يتحول خجلي إلى خوف أمامها

. والحل ؟

. فكرت بكل الحلول لكني اخاف الرفض

. هل تعرفها ؟

. عز المعرفة ؟

. ماذا تحتاج لمعرفة رأيها؟

. مساعدة من رجل بحصافتك

. هل تحبها ؟

. كل الحب ياعم

. ماذا لو رفضتك ؟

. ساحترم رأيها واكتم

. انت مدعوا عندي في بيتي وحدد الموعد

. اسمح لي ياعم بتقبيل جبينك ويدك

. جبيني نعم يدي لا

. انت بمقام والدي

. وليكن

. هنا تمشى نزار خطوات باتجاه مكانه ومر من قرب حسيبة فابتسمت له وقالت :

كنت خطيبا مفوها فشكرها وسألها ماذا تقدمين لي في بيتكم ؟

. ما يقدم للضيوف ؟

. طلبي أكبر

. ماهو ؟

. فهمس وكست الحمرة وجهه .. انت

. ضحكت وقالت يالك من خبيث ماكر

. ودع المحتفلون أهل البيت وخلت غرفة الضيوف على نزار وعائلة صديقة وهم معجبون بشجاعته الأدبية ولباقته وحضوره الجميل وشكرته اخت صديقه وامها على الهديه ثم اختلى بصديقه وعانقه وشكره بامتنان فضحك صديقه وقال له :

لم يساورني الشك بذكاؤك لكنك اليوم كنت مذهل وضربت عصفورين بحجر

. رد نزار هذا بفضلك وجهودك وكرم اصلك وعائلتك ثم ودعه وخرج .

. زار نزار بيت حسيبة وجلس مع أبيها وحدثه بكل صدق ووضوح عن نفسه وعائلته ووضعهم الاجتماعي والمادي ولما وجود قبولا أخبره أن يرغب بالاقتران بحسيبة أن لم يكن عنده أو عندها مانع ، فأخبره الوالد بموافقته لكن شرط موافقة حسيبة وقبل أن ينهض ليسالها رأيها دخلت حسيبة بابهى طلعة واخبرت والدها أنها موافقة لمعرفتها بسمو أخلاق نزار والرأي الأول والأخير لك .

قال الوالد: على بركة الله بعد أن ينهي خدمته العسكرية وتنهين انت فترة القرى والأرياف.

. وبعد عدة أشهر اندلعت الحرب فنقل نزار إلى المعركة ثم وقع في أسر العدو وانقطعت أخباره وبعد قرابة السنة تزوجت حسيبة من آخر وأنجبت وتوفى زوجها ومرت السنين وفي عمرة شعبان هذا العام التقيا على صعيد عرفات وهما ارملان متقاعدان فاتفقا على الزواج

***

قصة قصيرة

راضي المترفي

 

في نصوص اليوم