نصوص أدبية

ذكرى لعيبي: نافذة أخرى للحياة

الفصل السادس من رواية: غابات الإسمنت

في اليوم التالي ذهبت إلى ورشة العمل، كنت صاحبة محل، وظننت أن لجنة السجن ستجعلني أتعلم الخياطة مع مديحة الأقرب إليّ، غير أني فوجئت بقسم الحلاقة.. حلاقة السيدات، في الطريق إلى الورشة قالت لي مديحة بهمس:

- أظنكِ فهمت طبيعة العمل.

- أي عمل؟

- لا تتصنعي البله.. كل ما أروم قوله: لا تعارضي قط.

- أترين ذلك؟

- لا تعتقدي أنك ستتجسّسين علينا، فلن يستفيدوا من أخبارنا شيئا؛ لكن اغتنميها فرصة تقيك عوادي الزمن.

تنفستُ الصعداء؛ إذ إن مديحة تعني أمرًا آخر غير ما فعلته السيدة النقيب معي، فهل أظن أنها اختارتني وحدي في تلك الخصوصية؟ وأنها لا تعنى بالأخريات أو أنهن لا يثرنها، وكانت مديحة تواصل نصيحتها ويكاد صوتها يتلاشى بالهمس:

- أقرب طريق للنجاة ولنصف المدة، انسي قول لا تماما، نسحق وجعنا ونمشي ونبتسم، هكذا سنخذل من ينتظر سقوطنا أكثر.

وافترقنا.. ظننت أن السجينات معي كدن يرين لمسات السيدة النقيب على جسدي من وراء الثياب، وتساءلت: هل فعلتْ الأمر مع غيري؟

ثم اقتنعت أن نظراتهن إليّ لا شك فيها، هناك الطيبات والمجرمات، ولا تستفز واحدة منهن الأخرى، بعضهن يدخّن، وأغلبهن يتحدثن بصوت عال، كان صالون الحلاقة جنب ورشة الخياطة، وكانت هناك لدينا نصف ساعة للاستراحة والحديث، ولم توجد أية رابطة تشدّني للسجينتين اللتين معي في الصالون؛ نجاة نشّالة سليطة اللسان، وأشواق التي لا تعرف واحدة منا جرمها.

كنت ألتقي رفيقتي مديحة في الفرص، ولم أكن بعد أعرف جرمها وسبب سجنها، ولم تسألني عن فعلتي، غير أنني من دونما وازع أسهبت معها في الحديث عن نفسي، تكلمت كثيرًا.. طويلًا، ثم انتبهتُ إلى أنني نسيتُ أن أسألها، هل أكشف نفسي للأخريات من دون أن أعرف من هنّ؟

توقفتُ عن الكلام برهة قلت:

ـ ها إنك عرفتِ عني كل شيء تقريبًا، فهل من حقّي أن أعرف من أنتِ؟

فنظرت إلي بعينين ماكرتين وابتسمت:

ـ تريدين أن تعرفي الآن أم بعد أن نخرج؟

ـ بل الآن؟

ـ حسنا.. أنا مهربّة مخدّرات وزوجي سياسي معارض شهير، طلقني غداة تم الكشف عن حفنة مخدرات في البيت؟

ـ ولمَ لم يُتهم هو؟

ـ كان في الحبس.

ـ وهل صدّق؟

ـ صدق أم لم يصدق، في كل الأحوال هو مات من الصدمة، من الخبر، من التعذيب.. الله أعلم!

ـ هل تزوجتهِ عن حب؟!

ـ أووه.. كان كلّ شيء في حياتي، بل كل حياتي. عندما كنتُ أطلب منه أن يقول لي كلمة لم يقلها لأمرأة قبلي، ولن تسمعها امرأة بعدي.. كان يقول: يا أمّ قلبي وسعادتي.

وهمستُ كأنّي أخاف من شيء مجهول يختلس السمع لكلماتي:

ـ يعني أنك السجينة السياسية الوحيدة من بيننا.

ـ بل قولي زوجي.. أنا ضحية، وأقسم أني ضحية.. لا سامح الله من كان السبب في إرسالي إلى هذا المكان.

انتهت الفرصة فعدنا إلى التدريب، كنت أقف أمام الرؤوس الجميلة المصنوعة من البلاستك، رجال ونساء بشعور طويلة، أقلّبها وأتمعن فيها وأرى التسريحات المختلفة لتلك الرؤوس، أمشّطها وأسدل لكلّ منها شعرها.. أتابع إرشادات المدرّبة ثمّ أتحوّل إلى الأحواض والحنفيّات، ورفوف انتشرت عليها مقصّات وفرش وبضعة أمشاط وعلب صبغات ملونة للشعر.

تلك ستكون مهنتي الجديدة إذا ماخرجت من السجن، كان معي سجينتان أخريان لا تربطني بهما إلا علاقة بسيطة لا ترقى لأن تكون علاقة صحبة وصداقة مثل علاقتي مع مديحة، سألتني الأولى التي كانت تغسل الرأس ذا الشعر الأشقر الطوليّ الخِلقة:

ـ هل صحيح أنك قتلتِ زوجكِ؟

صُدمت للسؤال المفاجيء، على الرغم من أنها كانت تسأل بابتسامة ودودة وتساءلتُ:

ـ كيف عرفتِ الخبر؟

فاندفعت الأخرى ذات الملامح الأربعينية، التي كانت تتدرب على مقص من البلاستك ومشط:

ـ والله، خيرا فعلتِ.. بطلة؛ الرجال يستحقون أكثر من الموت، كلاب مسعورة.

ثمّ أقبلتْ المدربة الطويلة ذات الخمسين عاما وهي تقول محذرة:

ـ هنا لا حديث آخر غير ما يخصّ العمل، وإلا سأرفع تقريرًا بكن إلى السيدة النقيب.

ابتسمتُ في سرّي وتصورت آهات قرفت منها، شعور بالفرح والغثيان، كنت قلقة ومرتاحة في الوقت نفسه، ولا قرف يعلو على رؤية امرأة ترى زوجها عاريا مع أخرى في فراشهما الزوجي، وقد جعلتهما يسبحان في بركة دم، وعيونهما جاحظة نحو السقف، لعلني وجدت في السجن بعض الراحة، ولعلّ السيدة النقيب أعادت لي بعض كرامتي – ربما- وانتقامي.

وأنوثتي أيضا، أنا امرأة تفجرت أنوثة فلماذا خانني زوجي؟ ماذا تملكه الأخريات زيادة عني؟

وكلّ منّا كانت على قدر كلمتها، ونتصرّف بإنسانيتنا بلا غبش، ولا تحقير، ولا نفاق، ولا مكائد، على الأقل هذا ما رأيته في مجموعتنا.

وحالما عدنا من مكان التدريب بنهاية يوم يبشر بالحرية والعمل، حتى رأيت سجينة تصرخ وتندفع نحوي، فهرولت نحوها، لم أكن أحلم، ولا أتوهم، رغم أن الوهم لا يوازي الحلم.. كانت كريمة التي تركتها في التوقيف، ضممتها بين ذراعي، كانت باهتة، شاحبة، صفراء تكاد تسقط فاقدة الوعي، وقبل أن أسألها قالت:

ـ إعدام إعدام، سيشنقونني.

وانهارت في شبه إغماءة، غير أنها كانت تنشج نشيجا متقطعا.

نشيج ميت.. والدموع تسيل على خديها، أيّ سلاح تملكه مخلوقة تعيسة مثلها غير الدمع؟ وسائل لزج يتساقط من أرنبة أنفها، راحت مديحة تمسّد شعرها وتمسح المخاط السائل من أنفها، وأنا أردّد لكي أصبّرها:

هناك الاستئناف، والأمل بالله كبير؛ والسجينات الأخريات يرددن ما أقوله، كأننا بالأمل والدعاء نفتح عقدة حبل المشنقة ليكون سلّما ترتقيه إلى السماء فتنجو من الموت.

***

ذكرى لعيبي

 

 

في نصوص اليوم