نصوص أدبية

نضال البدري: صاحب القدم المسطحة

لم يكن وزنه الزائد وقدماه المسطحتين يقفان عائقا امام كسبه للقمة عيشه، من خلال تجواله في الأسواق والمحال في بيع السجائر والشاي. ليعود اخر النهار لمنزله بترامس فارغة وبعض النقود، التي لا تلبث بيد زوجته طويلا لا نها بالكاد تسد قوت يومهم، يدخل بيته بروح مرحة محاولا اضفاء بعض البهجة، على وجه زوجته المتجهم والتي لم تكن بانتظاره يوما، كانت تحتفظ بجمال الجسد وبقلب يفتقد للحب أتجاه ذلك الزوج، الذي كان يظن انه فاز بزوجة جميلة تحبه، لكن اتضح انه كان خاسرا كبيرا، أمام حياة زوجية صعبة لم ينل منها سوى الشكوى والتذمر والإهمال. لم تكن لديها أي رغبه بالعيش معه، بل انها اعلنت عدة مرات عن رغبتها في الانفصال، محدثه نفسها متسائلة كيف لا مرأة بجمالها ان تعيش وتكمل حياتها مع كتله اللحم تلك! ومع الفقر الذي أطبق عليها وحول احلامها الى كوابيس. كان الكثير من الرجال ينظر اليها بعين الحسرة، وهم يلاحظون الفرق الكبير وبينها وبين زوجها، متمنين في سرهم ان تكون زوجة لأحدهم. أصبحت تستغل خروجه من الفجر، لكي تخرج الى السوق وتستمتع بمغازلة الصائغ لها وبائع الملابس النسائية، وآخرون من الباعة الذين كإنوا ينظرون اليها بشغف ويعطونها بعض المال وبعض الاحتياجات الخاصة الاخرى، وتعود قبيل الظهيرة لكي تعد طعام الغداء.

كان الصائغ بالنسبة لها يمثل دور العشيق لانه الوحيد الذي تحدثه عن مشاكلها التي تتخيلها مع زوجها، وعن زواجها القسري ومتطلباتها كامرأة. وبائع الملابس النسائية الذي كان يشكو لها من زوجته المريضة، وكيف يشعر بإهمالها وكيف عبر لها عن أعجابه بها وانه يتمنى لو ان زوجته كانت تشبهها. اعتادت بهذه الطريقة ان تسد احتياجاتها وترضي رغباتها، لكن كل ذلك لم يثنيها عن رغبتها بالانفصال عن زوجها، لو أتيحت لها فرصة الزواج برجل اغنى وأفضل حال منه. مما دفعها بالموافقة على دعوة الصائغ المتكررة لها، في ان يلتقي بها في مكان بعيد عن منزلها ليحدثها عن رغبته بالزواج منها في حال انفصلت عن زوجها، ضعفت امامه ولبت رغبته مستسلمة هي ايضا لرغباتها. رافقته وانطلقا سويا قاطعا مسافة بعيدة قاصدا مزرعته الخاصة خارج المدينة، مزرعة كبيرة جدا تضم أشجارا من الحمضيات والنخيل، وحضيرة لتربيه المواشي، بني داخلها منزلا كبيرا تحرسه كلاب سلوقية كبيرة قيدت بسلاسل طويلة، تراقصت عيناها فرحا بصمت وذهول، وهي تجول بناظريها الى هذا العز الذي اخذ بلباب عقلها. تقدمت وهي تضم يديها تحت ابطيها بحذر استدلتهما حين رأت اثاث المنزل الانيق والفخم، أرتمت عليه قبل أن ترتمي بين ذراعي واحضان ذلك الصائغ، متمنية ان تصبح زوجته ويكون كل هذا ملكا لها، نظر اليها والابتسامة تعلو وجهه تقدم نحوها وضمها اليه بقوة: وجهك جميل ورائحة عطرك ساحرة ومميزة، كم كنت انتظر هذه اللحظة التي تجمعنا سويا بعيدا عن أنظار الجميع انت لي وحدي انا حبيبتي.

كان الطعام والشراب وفيرا ومنوعا وشهيا، دعاها بعد ان تناولا الطعام للجلوس في غرفة النوم والتمدد قليلا على السرير ليستريحا من عناء الطريق. كانت مصرة على حرق تلك المراحل و بسرعة و كل ما يعنيها هو الانفصال عن زوجها والزواج منه، لكن ما كان يعنيه هو الاحتراق في هذا الجحيم الجميل، وأن يمارس خيانته الزوجية كي يرويها بفخر امام رفاقه. بدأ في مناغاتها بكلمات العشق والغزل واقترب منها وهو يتلمس جسدها وينظر الى وجهها الجميل، كان جسدها يرتعش وكأنها بكر، أغرقها في نشوة لذيذة بالتدريج، انتهت بلهاث وأفعال سادية. صرخت من الرهبة واللذة، شعور غريب لم تألفه سابقا انتهى بليلة حمراء. حررها بعدها من بين ذراعيه والنشوة تعتليه، ثم لبس بنطله وزرر قميصه في عجالة وهو يمسح احمر الشفاه الذي لطخ اجزاء من وجهه ورقبته، حاولت ان تتكلم لكنه اغلق فمها بقبلة سريعة باردة ختم فيها ذلك اللقاء الحميمي الذي فقد حرارته بمجرد ان ابتعد عنها ثم ودعها: ابقي الليلة هنا سأعود اليك في الصباح الباكر، كل شئ متوفر لك لا تقلقي، حبست انفاسها وهي تنظر اليه: هل ستتركني هنا لوحدي!؟ دمعت عيناها وخنقتها العبرة ماذا سأفعل؟ اخوتي سوف يفتقدوني وأمي سيفجعها غيابي، زوجي سيقلق علي كثيرا، وسيتحدث عني الجميع بسوء، لا تعرضني للقيل والقال. تقدم نحوها وهمس في اذنها: ابقي الليلة فقط حبيبتي وثقي باني لن اتأخر عليك، انتظري عودتي غدا. 

ساعات المساء مرت ثقيلة، مع هطول زخات المطر وصوت الرعد، الذي شكل مع نباح الكلاب سمفونية حزينة، ألقت بضلالها عليها لتجعل ليلها حالكا طويلا، شعرت بأنه عبث بروحها قبل جسدها، وتركها تكابد المجهول وسط الافكار والكوابيس التي غيبتها عن الواقع وسط وحشه العتمة التي تركها فيها، الى أن افاقت في ظهيرة اليوم التالي على صوت الكلاب وهي تستقبل سيدها وكأنها تود أن تخبره عن مرارة ليلة صعبة مرت لاتشبه باقي الليالي، هرعت اليه بلهفه وعانقته بحميمية محاولة أن تخفي ارتجافات صوتها.

تأخرت كثيرا: كاد الخوف يقتلني. ابعد يدها عنه وتحدث اليها بفضاضة وأطلق زفرات ممزوجة بدخان سيجارته الساخن ونظرات تلوذ بالقلق والحيرة، طلب منها الاسراع بالعودة، الناس يتحدثون عن غيابك إياك وان تتطرقي لما حدث بيننا، انسي كل شيء. عليك ان تبحثي عن سبب مقنع، قولي إنك كنت في المستشفى أو اختلقي أي عذر آخر. سحبها من يدها طالبا منها الصعود الى السيارة كي يعود بها الى اهلها. رفضت الصعود: ماذا سأقول لإخوتي ولزوجي؟ ماذا لو اكتشفوا كذبي، عاد مرة ثانية محاولا سحبها بالقوة كفي عن الكلام ولاتضيعي الوقت تراجعت الى الوراء، وتحدثت معه بعبارات مطمئنه مدعيه امامه الشجاعة: لاشي يدعوا للقلق أتركني فقط لا شأن لك بي بعد الان أنا من أخطأ وانا من يصحح خطئه. فقط دلني على طريق الخروج من هنا، حاول أن يقنعها بالعودة معه للمرة الاخيرة لكنها رفضت، تركها قائلا لها بإشارة حازمة من يده، أذهبي الى الجحيم وإياك أن تذكري اسمي امامهم. خمنت انه سينظر اليها نظرة وداع. لكنه طلب منها بصوت عال، عليك أن تسرعي لأني سأغلق الباب ولن أعود.

لملمت الخذلان داخلها ولعقت جراحها، وهي تجر قدميها بصعوبة كمن يساق الى منصة الاعدام، لكنه كان الى طريق المجهول الذي رسم أمامها خيارين أما مواجهة اخوتها وزوجها وكلام الناس، او أن تميت قلبها وتسير في طريق الضياع. شقت طريقها بين اشجار البساتين المجاورة لمزرعته وهي تبكي بدموع ساخنة دون أن تلتفت خلفها.

بعد ثلاثة ايام متعبة من البحث والتخمينات الخائفة، بين ردهات المستشفيات وبرادات الموتى وسجلات الحوادث توقف البحث عنها حين استسلمت جثتها للتيار وحركة الموج، التي زفت جسدها بلاطبول ومزامير رافقة صياح النوارس واشعة الشمس الحارقة. لتطوى صفحة حياتها في ذلك النهر البعيد دون أن تسمع ما تعهد به زوجها من الوفاء لها طوال حياته.

***

نضال البدري - بغداد/ العراق

 

في نصوص اليوم