نصوص أدبية

أسماء شلاش: أنا والوطن ولحظة الاستجواب

لكنْ من يستجوبُ وطناً..؟!

مَنْ يجرؤُ أن يفعل ذلك..؟

منْ يستجوبُ وطناً كَمنْ يستجوبُ سيفاً في لحظة انفصال الجسد.

كلنا هنا، والوطنُ بعيدٌ..

هل يمكن أن تكون فجأةً بلا وطن..؟!

بحرٌ وبحرٌ وتوابيتُ للموتى، وصناديقُ سوداء أيضاً، كيف يفكّر البحرُ؟

فلا أحدَ يعلمُ كيف يفكّر البحرُ!

أنا التي قطعتُ كلَّ تلك الأميالِ، هل أحاكم البحرَ، أم هو من يحاكمني؟

لكنّي لم أمتْ، وذلك القاربُ المطاطيُّ الذي حملَ العشراتِ وصلَ إلى الشاطئ.

كان الموجُ يرتفعُ، وكنا نبتعدُ عن المياه الدولية ونقتربُ من المياه الإقليميةِ، وكلَما

قال أحدٌ - حتى لو كذبة- إنَّنا اقتربنا من المياه الإقليمية كان قلبي يرفرفُ مثل طائر،

لكن كل أطرافي منقبضة ومتشنجة من الخوف والتوتر، فأنا إما أن أعيش أو أموت،

فَقَبْلَ رحلتي هذه غرق قاربان، أحدهما خشبي والآخر مطاطي..

كنت أحاول أن أهرب من فكرة الموت إلى فكرةِ الحياةِ بقفزةٍ نوعية مباشرة، لكنَّ

فكرةَ الموتِ تتصارعُ مع فكرة الحياة..

امرأةٌ مع ستة من أطفالها تجلسُ جواري..

كنا ننحشرُ بطريقة غريبة؟ حتى أن قدمي تخدَّرتْ ونمَّلتْ ولم أعد أشعر بها، وكذلك

لم أستطع أن أحرّكها، ففوقها أكوامٌ بشريةٌ من أطفالٍ صغار لعلهم كانوا نائمين، فلم

أستطع أن أحركها أبداً خشية أن يستيقظوا، فينشغلوا بفكرة الموت مثلي..

فلا شيء يشبه الموت في استبعادِهِ كفكرةٍ حالية..

لا شيءَ يشبهُهُ..

الموسم الأول.."ربما وطن"

غداً يصبحُ هذا المكانُ ذكرى، وسأغادره عائداً إليك أنتِ.

أنتِ التي طالما انتظرتِ، كما انتظرتُ أنا..

كنتِ تقولين أسئلتي غريبة جداً..

هذا لأنكِ غريبة، أحياناً، في بعضِ تصرفاتِك..

كنت تضعين السَّكر في كوب الشَّاي، أو القهوة، ولا تحركينها.

أسألك لماذا؟

تقولين لي، الشاي ساخن جداً، سيذوب السكر من تلقاء نفسه دون تحريك.

حفظتُ عبارتَكِ تلك، ودونتها في أحد فقرات ذلك الفيلم الوثائقي الذي أعددته بتقنياتٍ

بسيطة. فيلمٌ وثائقي اشتغلتُ عليه سنين، يتحدث عن وطني البعيد..

لم أنسَ نكهة شايك "الاستثنائي".

نكهةٌ مغريةٌ مطيَّبة بحَبّ الهال والقرفة..

تفوحُ رائحته، فتملأ المكان دفئاً وحميمية، فيقتربُ الوطنُ الذي ظننتُ قبل قليل أنّه

بعيدٌ جداً..

رائحة الشاي والهال، وعروق القرفة، جعلته قريباً في لحظات..

ثم ما لبث أن ابتعد مثل طيف الحبيب..

قلتُ لكِ في آخرِ رسالةٍ كتبْتُها لكِ من خارجِ الوطن..

لم أتركْ عنواني، خشيت مجيئكِ إليَّ وأنا قررتُ مسبقاً أن أهجرَ هذا المكان، فأنا لا

أديم البقاء في المكان الذي أكاتبكِ منه.. لا أريدك أن تتعبي في البحث عن رجل بلا

هوية. وربما بلا وطن..

**

الموسم الثاني..

"كلُّ العصافيرِ هربَتْ من يدي إلا..."

لم تردي على رسالتي السابقة...

سأعذركِ، فالحواجزُ كثيرةٌ على الطرقاتِ، وبين كلّ حاجزٍ وحاجز هناك وطنٌ

ترعاه الصدفةُ فقط. لم يعد ساعي البريدُ أميناً هذه الأيام...

أو ربّما ماتَ على الطريق، فالرَّصاصُ هناكَ أكثرُ من همومِ أصحابه.

قرَّرْتُ من هذه اللحظة - التي كنتُ فيها في مكان لم أحدده بعد- ألا أكتبَ لك..

فلا أريدُ أن أثيرَ حزنَكِ الذي كفَّ عن التطور..

أعتقدُ أنّك ستفهمين صمتي..

صمتي هو خوفي عليكِ، وليس هناك سببٌ آخر..

**

موسم ثالث..

أزمةُ جراحٍ..

كيفَ أفسّرُ لك غيابي ثلاث سنوات..؟!

كيف أفسّرُ لك عدم عثورك عليَّ؟

كيفَ أكافِئُ انتظارَكِ..؟

لعلَّ الحلمَ الذي كنتُ بصدد تكوينِهِ، ثم تحقيقه يأتي برفقتكِ..

المشكلة ليس بعدد الخيبات، بل بقدر ما تكون الخيبةُ أكبر من الأخرى..

قد أقول لك كبرتُ أكثر مما يجب:

"أخذَتِ الهموم من شبابي وعمري"

رويدكِ.. لازلت شابة..

كلُّ هؤلاء الأولاد..!!

أحسسْتُ أنك ستقولين: وكل هذا الوطن..كل هذا الألم..

البارحة سقطت قذيفة بجوارنا.. الشظايا وصلت هذا الجدار.. "أشرت بيدك إليه..

أكلْتُ منه..

بكيتِ.. رأيتُ دموعَكِ.. تابعتُ انبهاري بوقارها..

دخلْنا السنة الرابعة.. كأنّها كانت عقوداً..

لم أفقدِ الأملَ من عودة أب أولادي المفقود. يقولون لي سيعود آخرون، يقولون إنه

ربما لقي حتفه في معتقله، لا أحدَ يدخلُ سجن "صيدنايا" ويخرج حياً...

على الأقل يخرج معطوباً مثل هذا الوطن...

هوّني عليكِ..! إن رأَتْكِ أمي تبكين "راح تزعل هه "...!

قلت: "كل شي ولازعل أمك يابني"..

كفكفت دموعك وقلت:

- هل لازلت تكاتب حبيتك؟

- نسيتُ الأمرَ كلَّه، رسائلي انقطعت.. كذلك رسائلها..

في تلك اللحظاتِ كان أولادُ "أم سليم" يجمعون شظايا تلك القذيفة ويلعبون بها..

**

موسم آخر...

ثلاث سنوات..وأكثر بقليل..

طرقْتُ بابك..تغيَّر البابُ. وتغير المكانُ قليلاً..

وحتى الآن لم تغبْ عني تضاريس المكان.."المكان القديم طبعاً" لأنك لم تبتعدي

كثيراً عنه عندما حملْتُ أغراض رحيلك..

لا أحدَ ينسى بيتَه..

لم تكبري كثيراً، لكنَّ التجاعيدَ نالت من شبابك..

رائحةٌ تفوحُ بالمكانِ..

أغلي الماء على النار كي أغسلَ بعضَ ملابسِ الصبية..

- لِمَ غبْتِ عني كلَّ هذه المدة؟

- كنتُ في الغوطة..

- أيهما..؟

- كلُّه وطني..!

- أعرف، لكن ماذا كنتَ تفعل هناك..؟

ثارني الفضول والألم، فذهبت الى داريا أصوّر فيلماً وثائقياً. بقيت هناك عاماً،

هناكَ درَّسْتُ في أحد المدارس متطوعاً، بعد أن تم فصلي من وزارة التربية.

- كيفَ دخلْتَ وخرجْتَ ووصلْتَ إلينا بعد هذه "الغيبة"؟

- آه.. قصة طويلة لن تصدقي لو رويتُ لك أحداثها..!

"يتبع بعد عرض الفيلم"

***

أسماء شلاش

في نصوص اليوم