نصوص أدبية

ناجي ظاهر: أدراج حمر

ميمعة، معمعة، معمعان، ساحة وغى، معركة، كلها مسمّيات لمعنى واحد، هو الحرب بواحد من مفاهيمها. نعم الحرب. هذا ما أحسسنا به نحن أبناء العائلة الفلسطينية من أصل مهجّر، طوال الوقت. وكما تعرفون فإن الحرب تضع أوزارها، ما هذه الكلمة الفصيحة. تضع أوزارها. هه. غير أن أحدًا منّا لا يعرف مَن هو الغالب من المغلوب. كلّنا غالبون وكلنا مغلوبون، وإن كنّا تهرّبنا مِن مثل هذا الاعتراف حتى لا يشمت أحدنا بالآخر. ولماذا نسلّم بالغُلب؟ وكيف ستستمر الحياة إذا ما اعترفنا بأننا انهزمنا، فأدرك هذا مَن قُبالتنا، ولتكن زوجتي، فاستدعى عازفي الطبول والزمور للاحتفال بمناسبة هزيمتنا السعيدة. تهرّبنا كلُّنا من هذا الاعتراف إلا حضرتي، فقد اعترفت بالغُلب، ولم أتوان في رفع الراية البيضاء والخروج بها من بيتي، كي يستقبلني الفضاء الرحب مُرحّبًا بي وبهزيمتي.

هكذا كانت البداية يا ولدي، أما ما تلاها فإنك لا تعرفه، هذه حكاية طويلة أعتقد أنها تحتاج إلى وقت لا يقلُّ طولًا عن طولها. إذا أردت سأبدأ في روايتها. تهزُّ رأسك مستغربًا يا ولدي.. ماذا تعني؟ تريدني أن افهم أنك لا تُريد أن تسمع حكاية مطوّلة؟ طيّب سأنزل عند رغبتك. أنا باختصار أتيت بعد سنوات الغياب الطوال لأكون بينكم، صحيح أنكم، أمك خاصة، قسوتم عليّ، إلا أنني أريد أن أعود إليكم، أريد أن أشعر بوجودي بينكم. أن أرى إلى أختيك، مؤكد أن الصغيرة شبيهة هيفاء وهبي، كبُرت وتوجّهت نحوها الأنظار على الطالع والنازل، أما تلك الأكبر منها قليلّا، هندية الوجه، القدّ والمبسم، فأعتقد أن جمالها تسبّب لك ببعض وجع الراس. صدّقني يا ولدي إنني اشتقت إلى كلّ شيء، حتى أمك ومعاركها أضحت ذكراها هناك في قبري، مصدرًا للحكايات، أروّح بها عن نفوس جيراني، لقد أصبحت مشهورًا بحكاياتي عنها فرويتها إلى جيران جيراني، وهؤلاء يريدون منّي أن أرويها لجيرانهم. لقد أصبحت مشهورًا بين الموتى. أصبحت معروفًا في مجالسهم، فما أن يُذكر اسمي بينهم حتى ترتسم الابتسامات على الوجوه، كأنما هي تريد أن تقول هذا الرجل يعرف كيف يروي حكاية تُبهج مَن يستمع إليها رُغم ما توحي به من معاني الألم. أمك يا ولدي.. ما الذي أراه على وجهك أإلى هذا الحدّ بات كلامي مملًّا، طيّب طيّب يا ولدي، جيراني الموتى سمحوا لي بالعودة إلى البيت مكافأة منهم لما أسمعتهم من حكايات.

هذا ما تُريد أن تسمعه؟ تريد أن نصل إلى الكلمة الأخيرة لترتاح؟ ما أصعب هذا، ما أصعبه يا ولدي، أن يصبح الفتى العربي غريب الوجه واليد واللسان. طيّب طيّب، لا أريدك أن تتحدّث عن المصاعب، فأنا ألفتُها وأعرفها وعلى استعداد للتعامل معها، الطريق التي قطعتها رافعًا راية الاستسلام من بيتي إلى فضائي الأخير، وعيشي هناك سنواتٍ، قوّتني جعلت مني صنديدًا ولا عنترة العبسي في أيامه المشهودة. هيّا يا ولدي.. هيا.. أنا أريد أن أعود إلى البيت، اشتقت إلى أكلات مقصوفة العمر أمك، اشتقت لأكلة الّلوف، ولأكلتي الفُقع والعكّوب كمان. أمك أتقنت هذه الأكلة عملًا بوصية من جدّتك، حينما قالت لها قبل موتها بسنوات، اطبخي له العكّوب هو يحب العكّوب. إذا أردتِ أن يحلّ عن ظهرك أطبخي له هذه الأكلة. فعلًا اشتقت لهلملعونة، اشتقت لصيحاتها وصرخاتها وهي تجلجل في أجواء البيت والحارة.. اشتقت لتكسيرها لمزهريات الوردّ، ورميها هديتي إليها في عيد ميلادها، من شباك بيتنا، وهي توجّه إلي الشتيمة تلو الشتيمة، يخرب شرّها.. شو كانت خفيفة دم، مفهمتش هذا كله إلا لمّا غادرت البيت.

إلى أين أنت ذاهب يا ولدي. هُنا في الحيّ الشرّقي بيتنا، تأخذني إلى الحي الغربي؟ هل انتقلتم للإقامة هناك بعد خروجي من البيت؟ والله بطلعلكم يا عمّ، وشو همّ، أمك استفادت كثير من الغرب، والله بطلعلها إنها تقيم في الحي الغربي. الغرب خلّى حكومتنا تسن قانون حماية المرأة. من يوم ما شرحت هذا القانون، ومن يوم قلت لامك إنه هذا القانون بمكّن المرأة من إنها تطرد زوجها من بيته/ها، انقلبت حياتنا إلى جحيم، أمك بطّلت تطبخ العكّوب وبطلت بدها رضاي، ولا رضا أمي في قبرها، صارت كلّ ما دقّ كوزها بجرتي، تدخل عليّ في غرفتي، تنفش شعرها مثل الغولة، وتركض دوز دُغري للبوليس، البوليس كان مرّات يصدقها، ومرّات يكذّبها، بسّ لما شاف إنها أكثرت من التردد عليه، ومفيش على جسمها ولا علامة تبـّين إني ضربتها زي ما ادعت، بطّل يردّ عليها. والله مصيبة. بعدين اكتشفت أمك طريق المحكمة، في المحكمة قلت قدام الحاكم أنا ببعد نفسي عن البيت، ابتسمت أمك، وراحت تعلك لبان وتقول أنا بديش أعيش مع هذا الراجل، ساعتها رفعت الراية البيضا ولم يعد أمامي مفرّ من المضي بعيدًا بعيدًا.

هون بيتنا؟ بتقول هون بيتنا؟ في الحي الغربي، أدخل، إحنا في الطابق الثالث، أمك تغربنت يا ولدي، والله تغربنت، يعني صارت غربيّة، بَعـّدت عن شرقيتنا، باعت البيت اللي دفعت فيه دم قلبي وسهر ليالي، باعته عشان تشتري هذا البيت في الطابق الثالث؟ وين رُحت يا ولدي؟ وين وقفّتني في هاي المتاهة، ورحت. بتفكر إني بقدر أتسلق كل هذا الدرج الأحمر المتداخل. انت بتقدر تتسلّق هذا الدرج، أنا بعرف هذا وأختك، هيفاء وهبي وهديك هندية الوجه، كمان بتقدر إنها تتسلّق هذا الدرج، بتفكر إني أنا بقدر؟ أحاول؟ طيّب بحاول وشو عليّ، يللا يا هو.. يا معين. ولك يا ولدي الدرج بهتزّ من تحت رجلي، معقول أنا صرت ختيار إلى هذا الحدّ؟ معقول إنها إجري هي اللي بتهتز؟ مش الدرج يعني؟ طمّنتني، الله يطمّن بالك، يعني أنا بقدر أواصل تسلُّق درج إمك. يللا يللا، عليه الاتكال، أخ.. زلت قدمي عن الدرج، إلقاني يا زلمة ولك انت مش ابني؟ والله إني لما كنت أشوفك تقع على الأرض كان قلبي يسقط بين اجري، ومكنش يعود لمحله إلا بعد ما أطمن على إنها الوقعة سليمة، أما أنت مش مستعد إنك تبقى معي تني أصل إلى الطابق الثالث، طابق امك؟ يللا هه، أنا اتعلقت بأيد الدرج، تعلقت فيها، ونفذت بجلدي، إذا كان الموضوع إني أنفذ بجلدي إنت بتعرفش بعدك إرادة أبوك وقوته. يللا هه، هياني استعدت توازني، وهاي أنا بحط اجري على الدرجة من جديد، وهاي أنا بطلع بطلع.. بطلع. بس لوينته بدي أطلع؟ شو يعني هذا الدرج بنتهيش؟ والا أمك عرفت إنه البعبع رجع، فاستنجدت بالغرب وقوانينه كي تعيده إلى حيث أتي؟ لا.. لا ..يا ولدي، عندي إحساس إنها أمك تغيرت، الحجر هو اللي بتغيرش، أما أمك هي كومة من المشاعر ..أنا بعرفها، ومين مثلي بعرفها. امك مهجّرة زي حالاتنا. ضحك عليها الغرب بقوانينه، اللي اتبعها اليهود، بس أنا واثق من إنها ريحة أراضي قريتنا سيرين رايحة تردّها لأصالتها، للوفها، فُقعها وعكوبها. أنا واثق يا ولدي. عشان هيك أنا مـُصـّر على العودة إليها والى البيت. أنا واثق من إنها الحياة أقوي من الموت، انت بتعرف إني أنا عرفت هدول الاثنين، واني غلبـّت في النهاية الحياة لأنها أقوى. أخ إجري زلّت مرة أخرى عن الدرجة الحمرا. ولك يا زلمة خذ بيدي، وين رحت. اخخخخ، هاي أنا قدرت إني استعيد توازني، هاي أنا عدت شيخ الشباب. إطلـّع؟ أنا لازم أظل طالع لفوق تني أصل لامك ست الجمال والدلال؟ طيّب يا أخي، اللي يحب الجمال يسمح بروحه وماله. زي ما قال عبد الوهاب، وشو بتفكر إنه عبد الوهاب أشجع من أبوك؟ لا يا ولدي أبوك زلمة قوي، كانت دايمًا أحلامه كبيرة، أبوك لما بقرِّر إنه يصل، بوصل مهما طال الطريق، بعدين تنساش إنه أبوك سار في أصعب طريق في العالم، طريق حكاية القصص، وأبوك قدر انه يخلـّي الأموات قبل الأحياء يهزّو روسهم إعجابا بقصصه. أبوك قدها وقدود، وبقدر يصل.

أطلع كمان درجة؟ كمان درجه وبصل؟ فعلًا أنا وصلت، أنا وصلت لشباك المطبخ، الشباك مفتوح، أنا بقدر أدخل منه، أدخل، آه بدي أدخل، مَنا جاي لهذا الهدف، مين هاي؟ هاي أمك؟ معقول بعدها واقفة في المطبخ من يوم ما تركتها قبل سنوات يخرب شرها بعدها زي ما هي، رابطة منديلها على جبينها ” أبو عقيلة” يعني زي العقال، وماسكة السكين وبتقطع. يخرب شرك يا مَرة شو قطعت بحياتك، اسأليني أنا، أنا أكثر واحد في العالم عانى من تقطيعك. أمك مش شايفيتني بعدها مشغولة بالتقطيع، أخ أخ. زلّت إجري مرة تانية عن الدرجة أنا إسه معلّق بالهوا، الوقعة من الطابق الثالث في بيت في الحي الغربي ممكن إنها ترجعني إلى فضائي السابق، أمك تسمع صوتي، أشعر في عينيها كلامًا، هي لا تريد أن تراني، لا الغربة ولا البعد ولا حتى الموت، مكـّنها من إنها تغفر لي، ولك شو عملتلك يا بنت الحلال إحنا العرب بنستقبل عدونا وقاتل ابنا لما يفوت على بيتنا، إنت مش عربية؟ بدكيش تشوفيني؟ طيب يا ست الحسن والدلال هذا من حقك زي ما قالت القاضية اليهودية، أنا بعرف انه مَحدا بقدر يجبر حدا انه يعيش معه. بعرف هذا كله. بس أنا كنت بفكر انه البُعد عِمل عمله وانك تغيرت. بعرف بعرف انه من الصعب على الإنسان انه يتغير. طيب يا عمي أنا تغيرت، انت بتفكري إني أنا بعدت عنك قبل المميعة، لأني كنت حابب إني أبعد؟ ولأنها كانت في امرأة أخرى في حياتي؟ ولك لا مكنش الأمر هيك، إنت بتعرفي إني ابن مهجرين، حاولت كلّ الوقت إني اخلّي هيفاء وهبي ترقص في بيتنا، وهديك الهندية تغنيلك أغاني هندية حبيتيها وإنت تحضري الأفلام الحزينة المليانة بقصص الحب، تعبت وشقيت. يمكن أنا غلطت في إني وثقت بأنك إنت قوية وبتختلفيش عني، يمكن أنا بالغت بإحساسي انك قوية وقلت لنفسي انك زيي، يمكن أنا غلطت. بس أنا دفعت الثمن لليهود وللغرب اللي أجو منه. شو بدك اعمل أكثر؟ أنا اسه راجع زيارة، زيارة قصيرة، بعدها رايح ارجع إلى فضائي اللامتناهي هناك، فضاء الموتى والحكايات. بدكيش أفوت على البيت؟ معقول هيك بتستقبليني، بعدك بتفكري إنها كانت في مرة تانية في حياتي؟ ولك مفيش لا مرة ولا بلّوط، اللي فكرتيها مرة، كانت الحلم في إني اريحك وأريح أولادك، كانت الركض في صحاري الحكايات عشان امسك حكاية ترفعنا كلنا لفوق، المرة اللي فكرت في إني على علاقة معها كانت الكاتب في داخلي الكاتب إلي امتلأ راسه بالحكايات فاراد أن يبهر فيها الجميع. أنا كنت اركض وراء حكاية شارة مش ورا امرأة أخرى. يمكن كانت المرة الوحيدة المتربعة على سدة الحكاية الشاردة هي انت يا مجنونه. مش مصدّقة؟ بتلوّحي بالسكين في وجهي، بدكيش تستقبليني بعد كل هاي السنين؟ بدك تخليني أقع هاي المرّة من شرفة المطبخ؟ بدك أعود إلى عالمي الآخر؟ إلى هذا الحد وصل حقدك عليّ؟ طيّب طيّب. اليهود علّموك انه من حقك انك تحقدي على الرجل اللي كان زوجك وأبو أولادك، قالولك انه هذا من حقك. أي ي ي أنا بدي اسقط من الطابق الثالث، أنا بدي أسقط، انت قرّرت انك متوخذيش بأيدي عشان ارجع من حيث أتيت؟ هذا هو قرارك الأخير؟ أنا عارف إني رايح أسقط، عارف، عارف إني مش رايح اشوف لا بنتي شبيهة هيفاء وهبي ولا هديك أم الوجه الأسمر الهندي، مش رايح اشوف حدا. حتى ابني الشاب اللي أرشدني لطريق البيت الجديد في الحي الغربي وأدراجه الحمر، مش رايح اشوف حدا.. وين أنت يا ولدي؟

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم