نصوص أدبية

احمد غانم عبد الجليل: صورة بوجهٍ آخر

(التلويح الأخير)

بماذا يفكر المرء قبل تنفيذ حكم إعدامه بساعات، بمعجزةٍ إلهية تتم عن طريق رفاق الدرب الطويل؟

كيف وهم من أحكموا الطوق حول رقبتي مؤتمَرين، يهللون من فرط الانفعال بسلامة المرور من فوق حبل السلطة المتأرجح وفق هواه، ولو إلى حين، من صعق غضبه فوق الرؤوس المحنية بتضرع متحشرج في الحناجر، استلب مني آخر ما تبقى من عنفوان لدى حضوري أول اجتماع حزبي في بيت أحد الذين سبقوني إلى هنا، ربما في ذات الزنزانة المظلمة التي يعف عنها الهواء، أمضينا جلَ أعمارنا من أجل أن نستطيع استنشاقه بحرية أحلامنا الفتية التي كانت توجهنا كريحٍ عاتية تود بعثرة كل شيء، تحطيم واقعنا المتوارث جيلًا بعد جيل لإعادة لملمته وبنائه من جديد، دخلنا سجونَ ومعتقلات عهود مختلفة، ستنصهر تباعًا في عهد (الزعيم) الجديد، المرحلة المقبلة ستكون أكثر خضوعًا له، له وحده، ونحن من جملة الأسباب التي مهدت لذلك؟

لم يعد التفكير في هذا مهم الآن، وأنا أقبع في ضيق الزنزانة الخانقة، حيث يستباح كل شيء، الماضي بكل تداعياته ومستقبل أعرف أني لن أبصر منه ومضًا، لكنهما يظلان يقتاتان على دقائق وثوانِ الحاضر المنفرط من عقد الزمن رويداً رويدا، يستبقان الأنفاس المتبقية لديَ في هذه الدنيا.

أسمع خطا الموت العسكرية مع وقع جزم الحراس الثقيلة في الأروقة الضيقة، أراها في قسمات وجوههم الشبحية التي تطل عليّ بين الحين والآخر، يخَلِفون صدى قهقهات متشفية لا أدرك لها سببًا ولا معنى محددا، ربما ما كان أحدهم يتصوَر أن يقف إزائي مثل هذا الموقف، عندما كانت الأضواء مسلَطة نحوي وهم يجوبون هذه الجحور رواحًا ومجيئًا.

أم أنهم كلما رؤوا أحدنا في التلفاز بأبهى حلة، يتكلم بما تؤهله مكانته الرفيعة في الحزب والدولة عن الانجازات المتحققة للجماهير المنتظِرة منذ عقود شروق الشمس بين أكفنا الصلبة، كانوا يضمرون شيئًا من السخرية نحونا، يراهنون أنفسهم على الأسرع منا في الوصول إلى قبضاتهم العملاقة، وربما لولا الخوف الكامن في صدورهم المنتفخة لكان الرهان فيما بينهم بالنقود.

يعلو الهتاف، ويتناهى إلى مسمعي، كلما صادف مرور (القائد) قريبًا من باب الزنزانة، برفقة واحد ممن يتحفزون لإعلان الولاء المطلق، وهو يستعد لتسلُم المسدس الذي سيطلق رصاصة أو أكثر ـ حسب أوامر السيد المهاب ـ صوب جسد رفيق سابق، بعد اعتلائه منصة الإعدام، موثوق اليدين إلى عمود أو أصفاد مثبتة بحائط ملطخ بالدماء خلفه، ربما يده ترتجف قليلًا، رمشات عصبية تشاكس عينيه، تهدج أنفاس يقتنص قفصه الصدري، لكنه يثابر بفرض سطوة تامة على كل خلجة منتفضة في جسده، ثم يسارع بالإطلاق تحت نير النظرات الصارمة من قبَل الرئيس وحراسه المستعدين لتلقي غمزة عين ربما، إشارة إلى رشق المنفِذ والمحكوم، فاغر العينين، بالرصاص في ذات اللحظة التي تضج القاعة بترديد شعار الحزب الذي هدر بعلو صخب الشباب في كل ساحة وميدان من قبل.

صورة لا تنفك عن مزاحمة آلاف الصور المتضاربة داخل رأسي، تتجاوزها جميعًا لتمثل في الواجهة، تترصد فجيعة زوجتي وهي تضم رعب وارتجاف الأطفال أمام البزات العسكرية لدى تسليمهم اللحد، دون السماح لعلو صرخة وجع أو نشيج فقدان، يأمرون بالكف عن اللطم والإسراع في مواراة الجثة الثرى، وربما طالبوا بإعلان البراءة مني، علَهم ينالون الصفح الجميل من لدنَ سيادته، هذا إن لم يلقوا بالجثمان في الخلاء، ومن ثم يرقبون من بعيد تصارع الغربان والضباع والذئاب على نهش ما تبقى من وليمة القيادة، حتى الوصية هم من أجبروني على كتابتها، طلبتُ من امرأتي الثكلى في مضمونها تربية أولادنا على ذات الأفكار التي جمعتنا، وأن تنزع عن أوردتهم سموم إرث الخيانة التي ربما تلاحقهم بقية أعمارهم…

أسَتتلوها عليهم والدمع يخضِب كلماتي، وعيونهم المرتعدة تحوم حولها مثل نوارس صغيرة يلطمها الموج في عتو طغيانه، أوَ سوف يفقهون شيئًا من ذلك الخطاب، بل من كل ما يخسف الأرض بهم!

كنتُ أتمنى أن أكتب لهم عن أمور شتى، بأكبر قدر ممكن من التركيز، ورغم ذلك قد تبدو لهم مشتتة، مبعثرة، فلا يفهمونها إلا بعد سنوات وسنوات، وقد لا يفهمونها أبدًا، كما أدركتُ أني لا أفهم أشياءً أكثر وأنا على عتبات الموت، ظننت فيما سبق أني أستوعبها جيدًا، وقد حددتُ غايتي ورسمت طريقي، فما معنى أن يعيش الإنسان بلا قضية سامية، يحيا من أجلها أو يموت دفاعًا عنها، وأنا دافعت يا أولادي قدر المستطاع، وما تسمح لي قيود السلطة والنفوذ السطوة، والله الذي سيقبض روحي بعد وقت يأخذ بالتضاؤل يشهد على ما أقول.

أعرف أني لم أخلِف لكم شيئًا سوى اسم ربما سيظل يطاردكم كلعنة لا قدرة لكم على الفكاك منها، ستلاحق ظلالكم في كثير من الأماكن، وتفرض عليكم موقف الدفاع أمام الكثير من العيون المرتابة والمشكِكة بانتمائكم إلى وطن تلفع بالخذلان والركوع لهيبة القائد.

قيمٌ عظيمة تفتح وعينا عليها ستجدونها مستلَبة من عقولكم الصافية، ومن قبل أن تدركوا للدنيا معنى سوى الصمت الذي بدأ يتلَبسني.

وأنا هنا في ظلمتي هذه أبصر نموكم سنة تلو الأخرى، والذكريات الأليمة وشومٌ تكبر معكم، تجنح بأفكاركم وأمانيكم أينما وليتم وجوهكم، تسلب ما تستطيع من بهجة لدى كل مرحلة من أعماركم، وإن تغيرت الظروف وحدث ما تعودنا حدوثه في بلادنا المثَخَنة بنزيف الثورات الدامية، فلربما تثور فيكم كل حمم الكبت والقهر، ومن ثم تتضاحكون وتبكون طويلًا طويلا، ولكن كيف لكم استرجاع السنوات المنزوية في جحور الخوف.

عذرًا يا دموعي المنسابة فوق خديّ دون إرادة مني، رغم إصراري ألا أظهر أمامهم ضعفاً أو استعطافا، فأنا أعرف أن (سيادته) يحب تذلل ضحاياه أمامه حتى اللحظة الأخيرة، وعذرًا منكم لأني فرضت عليكم اختياراتي، التي لا أدري مكانتها لديكم، وما يمكن أن يجول في خواطركم بشأنها، كم تمنيت أن تكون لكم حياة ومستقبلًا بمنأى عن جنوح السلطة، وفلك مزاياها أيضًا، كما يفعل البعض، متقاضين ثمن النضال، متقاسمين غنائم الثورة التي اجتاحتني مع أولى نسائم الشباب، بما يشبه بحلم عاشق لم يخبَر حبائل الهوى من قبل.

هاهي شمعتي توشك على الانطفاء وحضني مشتاق لضمكم بقوة تختلج الضلوع، فيما بوابة الزنزانة تفتح بزمجرة نابحة في وجهي المحتقن بغيظ آلاف الكلمات التي أود بصقها في الوجوه الشيطانية، كلمات قد تعين رأسي على عدم الانحناء حتى بعد الإجهاز على حياتي، كما كنتُ وكما أريدكم دومًا أن تكونوا.

***

احمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

في نصوص اليوم